fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

المرسوم 54… حرية التعبير في تونس بخطر !

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أصدر الرئيس التونسي قيس سعيد عام 2022 المرسوم رقم 54، الذي تحول إلى سلاح مسلط ضد الصحفيين والناشطين الذين يتجرأون على انتقاد الرئيس.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في 14 كانون الأول/ ديسمبر 2023، نشر الناشط السياسي في حزب “العمال” التونسي محمد وليد الزايدي، تدوينة نقلها عن موقع إعلامي، تتضمن موقف حزبه من الانتخابات، ليتم إيقافه في 22 من الشهر نفسه، والتحقيق معه ثم تركه في حالة سراح حتى تحديد تاريخ جلسة محاكمة. 

لكن في العاشر من أيار/ مايو الماضي، توجه الزايدي إلى أحد مراكز الأمن في مدينته في محافظة القيروان، لاستخراج بطاقة هوية، ليجد نفسه محل تفتيش، وأن القاضي أصدر في حقه بطاقة جلب، بعد اتهامه بجملة من التهم المنصوص عليها في الفصل 24 من المرسوم عدد 54، من دون أن يتلقى أي استدعاء رسمي أو إشعار بأنه محل تفتيش.

تقول ألفة البعزاوي، عضوة اللجنة المركزية في حزب “العمال”، لـ”درج”: “أحال قاضي التحقيق وليد الزايدي إلى حالة سراح، إلا أن النيابة العمومية قامت بالاستئناف في اليوم ذاته، وفي غضون ساعات، أصدرت دائرة الاتهام في محكمة الاستئناف في القيروان بطاقة إيداع بالسجن بحقه، وإلى اليوم ما زال يقبع في السجن من دون تعيين جلسة له، أو حدوث أي تطور في قضيته، كما مُنع أفراد عائلته في البداية من زيارته، وهذا كله بسبب تعبيره عن رأيه، في بلد يُفترض فيه أن حرية الرأي والتعبير حق دستوري للجميع”.

لا أحد يعلم ما ستؤول إليه قضية الزايدي، ولا الحكم الذي ينتظره، شأنه في ذلك شأن ناشطين سياسيين وحقوقيين ومحامين الصحافيين ومدونين كثر، يُحالون بأعداد كبيرة الى المحاكمة لمجرد التعبير عن آراء لا ترضي السلطة السياسية، بموجب المرسوم 54 الذي وُضع في ظاهره لمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، ولكنه تحول بسرعة إلى سيف مسلط على رقاب التونسيين، لاستهداف كل الأصوات المنتقدة للسلطة. 

نص ضبابي وأحكام خانقة

وكان الرئيس التونسي قيس سعيد، قد أصدر في أيلول/ سبتمبر أيلول 2022، مرسوماً عُرف بـ”المرسوم 54″، ينص في الفصل 24 على “العقاب بالسجن لمدة خمسة أعوام وغرامة تصل إلى خمسين ألف دينار، لكل من يتعمد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار، أو بيانات، أو إشاعات كاذبة، أو وثائق مصطنعة، أو مزورة، أو منسوبة كذباً للغير، بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني”. 

وخلال عام ونصف العام، حوكم أكثر من 60 شخصاً، بينهم صحافيون ومحامون ومعارضون للرئيس، بموجب هذا المرسوم، وفق النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، وحسب إحصاء “هيومن رايتس ووتش” ومنظمة العفو الدولية، لا يزال 40 منهم على الأقل، خلف القضبان حتى أيار/ مايو الماضي، معظمهم يقبع في السجن على خلفية ممارسة حقوق مكفولة بالدستور أساساً، علماً أن المنظمتين تقولان إن أكثر من 70 شخصاً، حوكموا وفق هذا المرسوم.

ويُذكر أن المرسوم 54 يخالف دستور 2022، بخاصة أحكام الفصل 22، الذي ينص على ضمان الدولة لمواطنيها الحقوق والحريات الفردية والعامة، كما يخرق الفصل 30 منه، الذي ينص على الحق في سرية المراسلات والاتصالات، وأحكام الفصل 37 المتعلق بحرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر، وأحكام الفصل 38 المتعلق بالحق في الإعلام والحق في المعلومة، والفصل 55 المتعلق بضوابط الحقوق والحريات، الذي يفرض أن تكون القيود بقانون، ولضرورة يقتضيها نظام ديمقراطي، وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني، أو الصحة العامة، وألا تمس هذه القيود بجوهر الحقوق والحريات المضمونة بالدستور، وأن تكون مبررة بأهدافها متناسبة مع دواعيها. 

ويتفق الصحافيون والحقوقيون في تونس، على أن المرسوم 54 ورد عمداً، ضبابياً وغامضاً وحاملاً عبارات فضفاضة، مثل الإضرار بالأمن العام، وتشويه السمعة، والإضرار بالغير مادياً أو معنوياً، وغيرها، من دون أن يتم تحديد المقصود بها بشكل واضح ودقيق. وقد فتح ذلك، الباب واسعاً للأجهزة الأمنية والقضائية لاستغلال غموض الأفعال المجرمة وضبابية العبارات المتعلقة، لتبالغ في تتبعاتها وأحكامها القضائية، التي باتت تضيق الخناق أكثر فأكثر على حرية التعبير.

في الثامن من أيار الماضي، نشر النقابي والناشط في المجتمع المدني عبد القادر منصور تدوينة ساخرة، ليتلقى بعد أيام قليلة استدعاء من طرف فرقة الشرطة العدلية في محافظة  قفصة، ومثل بعدها أمام قاضي التحقيق للاستماع إلى أقواله، وأُحيل بحالة سراح في 22 أيار الماضي، ثم صدرت بطاقة إيداع في السجن بحقه في 27 من الشهر ذاته، والتتبع أيضاً، استناداً إلى الفصل عدد 24 من المرسوم 54.

وقال محمد عمار، أحد القيادات النقابية في مدينة عبد القادر منصور لـ”درج”: “إن بطاقة الإيداع في السجن الصادرة بحق عبد القادر منصور كانت غير منتظرة، بخاصة أن موضوعها تدوينة ساخرة نشرها على حسابه الخاص على موقع فيسبوك، لمناسبة اليوم العالمي للحمير في 8 أيار، من دون أن يرد فيها أسماء أشخاص بعينهم أو صفاتهم، كما لم تحتوِ التدوينة على أي ثلب. الإيقاف جعلنا ندرك أن هناك سعياً الى إسكات الأصوات الناقدة في الجهة، وربما في كامل البلاد، ومن المعيب اليوم أن نجد مواطناً تونسياً يُودع في السجن، فقط من أجل تدوينة ساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي”.

وما زال منصور يقبع في السجن حتى الآن أيضاً، من دون معرفة ما ستؤول إليه الأمور، وإن كانت هذه القضايا تنتهي غالباً بتوجيه تهم بموجب المرسوم ذاته وصدور أحكام بالسجن. 

الصحافة في مرمى المرسوم 54

على رغم أن هناك عدداً كبيراً من الناشطين والمدونين يُحالون بموجب المرسوم 54، إلا أن الصحافيين هم الأكثر استهدافاً؛ لا سيما في الفترة الأخيرة، التي شهدت تتبع عدد متزايد منهم وسجنهم، فقط بسبب آرائهم التي يطرحونها لدى مزاولتهم عملهم. 

وكان آخر الصحافيين المحالين بسبب هذا المرسوم السيئ الذكر، المحلل والمعلق السياسي مراد الزغيدي، ومقدم البرامج التلفزيونية والإذاعية برهان بسيس، اللذين حوكما بالسجن سنة لكل منهما، بتهمة نشر إشاعات وأخبار بقصد الإساءة الى الغير، إذ قرر القضاء التونسي سجن الزغيدي وبسيس ستة أشهر، “بسبب جريمة استعمال شبكة وأنظمة معلومات واتصال لإنتاج وترويج وإرسال وإعداد أخبار وإشاعات كاذبة، بهدف الاعتداء على حقوق الغير والإضرار بالأمن العام”، كما أضاف ستة أشهر أخرى، “لجريمة استغلال أنظمة معلومات، ولإشاعة أخبار تتضمن نسبة أمور غير حقيقية، بهدف التشهير بالغير وتشويه سمعة والإضرار مادياً ومعنوياً”.

وهناك عشرات الصحافيين ممن تمت ملاحقتهم قضائياً، بسبب آرائهم بموجب المرسوم 54، بعضهم ما زال قابعاً في السجن على غرار الصحافي محمد بو غلاب، وبعضهم أُفرج عنه مثل زياد الهاني، أو التحقيق معه في أكثر من مناسبة مثل منية العرفاوي وهيثم المكي وغيرهما.

هشام السنوسي، عضو الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي والبصري في تونس (الهايكا)، قال لـ”درج”: “إن المرسوم 54 هو انتكاسة في مسار الحريات في البلاد، وهذه الانتكاسة تأكدت بتطبيقها على أرض الواقع، وهو ما تسبب في سلب حرية أشخاص لأسباب واهية تتعلق بتوجه جديد للممارسة السياسية. طالبنا سابقاً رئاسة الجمهورية بأن تسحب هذا المرسوم، فقوبلنا بتجميد عمل مجلس الهيئة”. 

وأضاف: “هناك قوانين تنظم عمل المؤسسات الإعلامية وممارسة النشاط الصحافي، بمراسيم حازت تزكية من المجتمع التونسي، ولذلك حتماً، فإن المرسوم 54 استخدم لضرب المنافسين السياسيين، والتخويف وتكميم الأفواه، وهذا ما ضمناه في الكثير من بياناتنا”.

يُذكر أن الصحافيين في تونس باتوا يخضعون للمرسوم 54 منذ إصداره، على رغم أن قطاع الإعلام في تونس، قد تم تنظيم جانبه التشريعي منذ 2011 مباشرة بعد الثورة، في نصوص قانونية واضحة، مثل المراسيم 115 و116 لسنة 2011 لتنظيم هذا القطاع، إلى جانب أن الفصل 37 من الدستور يؤكد ضمان حرية التعبير وأنها مكفولة، فيما يضمن الفصل 38 الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة.

وفيما لا يكاد يمر فيه يوم من دون أن يُحال أحد بموجب المرسوم 54، يُصر الرئيس قيس سعيد على أنه لم يلاحَق أي شخص في تونس على خلفية حرية الفكر وحرية التعبير، إذ قال خلال لقائه وزيرة العدل ليلى جفال في 24 أيار/ مايو الماضي في قصر قرطاج: “يتحدثون كل يوم عن المرسوم 54 والفصل 24 منه، أُوضح لكل التونسيين أننا نرفض المساس بأيّ كان من أجل فكرة”.

وأضاف: “لم يقع تتبع أحد من أجل رأي، نحن نرفض رفضاً قاطعاً، أن يُرمى أحدٌ بالسجن من أجل فكره، فحرية الفكر مضمونة في الدستور، وهي مضمونة في تونس أكثر من أية دولة أخرى”.

تجاهل مبادرة نواب البرلمان

ويبدو أن قيس سعيد يحاول استغلال ما تبقى له من شعبية، لإيهام الرأي العام بأن المرسوم 54 لا يهدد حرية التعبير، وأن ما يُقال مجرد ادعاءات، في محاولة منه لمواجهة ضغط المنظمات الحقوقية، التي باتت تفضح خطر هذا المرسوم، ومع بدء الاحتجاجات في الشارع تنديداً بهذا المرسوم. وليس من المتوقع أن يتم تعديل هذا المرسوم أو سحبه قبل الانتخابات الرئاسية، إذ سيكون بوسع سعيد الاستفادة منه، ما سيمكنه من إسكات كل الأصوات المنتقدة لسياسته، وحتى المنافسين السياسيين، مستفيداً من البرلمان الذي يتردد ويتراخى في تمرير مجرد مبادرة لتعديله.  

يؤكد ذلك ما يجري داخل البرلمان بشأن هذا المرسوم، إذ سبق أن تقدم 57 نائباً من مختلف الكتل البرلمانية ومن غير المنتمين، بمبادرة تشريعية منذ شباط/ فبراير الماضي، تتعلق بتعديل المرسوم 54 الخاص بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال. ولكن على رغم مرور أكثر من ثلاثة أشهر على تقديم هذه المبادرة، وعلى رغم الانتقادات الكبيرة التي طاولت المرسوم وتواتر الإحالات والقضايا بسببه، إلا أن مكتب البرلمان لم يتحرك بعد، ولم يحل مشروع التنقيح إلى اللجان المختصة. وأثار هذا التراخي غضب أصحاب المبادرة (57 نائباً) واستياءهم، فأقدموا أخيراً على تقديم طلب استعجال للنظر في تنقيح المرسوم المثير للجدل، وعُرض مشروع القانون على لجنة الحقوق والحريات، محملين رئيس البرلمان مسؤولية التعطيل.

إذ قال مقرر لجنة الحقوق والحريات في البرلمان التونسي في تصريحات إعلامية: “إن العائق الأساسي أمام إحالة مبادرة تنقيح المرسوم عدد 54، أمام اللجنة، هو رئاسة البرلمان التي ما زالت مترددة بخصوص تمريرها من عدمه، ويعمل الموقعون عن المبادرة على الدفع نحو تمريرها تقريباً خلال كل اجتماع لمكتب المجلس، وقد تحركنا أكثر من مرة، ونتصل بمكتب المجلس تقريباً، في كل اجتماعاته لتمرير هذه المبادرة، لكن للأسف هناك تخوف من هذه التنقيحات”.

وتطالب المنظمات في تونس (على غرار النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والاتحاد العام التونسي للشغل، والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وغيرهم…) بسحب المرسوم معتبرة أن غالبية المحاكمات تتم بمقتضاه، ما يؤكد أن السلطة كانت تريد؛ منذ أن أصدرت المرسوم، توظيفه للتضييق على الحريات، وعلى رأسها حرية الرأي والصحافة والتعبير، وتسليط سيف المحاكمات على كل من ينتقدها وينتقد سياساتها مهما كان موقعه. 

19.06.2024
زمن القراءة: 7 minutes

أصدر الرئيس التونسي قيس سعيد عام 2022 المرسوم رقم 54، الذي تحول إلى سلاح مسلط ضد الصحفيين والناشطين الذين يتجرأون على انتقاد الرئيس.

في 14 كانون الأول/ ديسمبر 2023، نشر الناشط السياسي في حزب “العمال” التونسي محمد وليد الزايدي، تدوينة نقلها عن موقع إعلامي، تتضمن موقف حزبه من الانتخابات، ليتم إيقافه في 22 من الشهر نفسه، والتحقيق معه ثم تركه في حالة سراح حتى تحديد تاريخ جلسة محاكمة. 

لكن في العاشر من أيار/ مايو الماضي، توجه الزايدي إلى أحد مراكز الأمن في مدينته في محافظة القيروان، لاستخراج بطاقة هوية، ليجد نفسه محل تفتيش، وأن القاضي أصدر في حقه بطاقة جلب، بعد اتهامه بجملة من التهم المنصوص عليها في الفصل 24 من المرسوم عدد 54، من دون أن يتلقى أي استدعاء رسمي أو إشعار بأنه محل تفتيش.

تقول ألفة البعزاوي، عضوة اللجنة المركزية في حزب “العمال”، لـ”درج”: “أحال قاضي التحقيق وليد الزايدي إلى حالة سراح، إلا أن النيابة العمومية قامت بالاستئناف في اليوم ذاته، وفي غضون ساعات، أصدرت دائرة الاتهام في محكمة الاستئناف في القيروان بطاقة إيداع بالسجن بحقه، وإلى اليوم ما زال يقبع في السجن من دون تعيين جلسة له، أو حدوث أي تطور في قضيته، كما مُنع أفراد عائلته في البداية من زيارته، وهذا كله بسبب تعبيره عن رأيه، في بلد يُفترض فيه أن حرية الرأي والتعبير حق دستوري للجميع”.

لا أحد يعلم ما ستؤول إليه قضية الزايدي، ولا الحكم الذي ينتظره، شأنه في ذلك شأن ناشطين سياسيين وحقوقيين ومحامين الصحافيين ومدونين كثر، يُحالون بأعداد كبيرة الى المحاكمة لمجرد التعبير عن آراء لا ترضي السلطة السياسية، بموجب المرسوم 54 الذي وُضع في ظاهره لمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، ولكنه تحول بسرعة إلى سيف مسلط على رقاب التونسيين، لاستهداف كل الأصوات المنتقدة للسلطة. 

نص ضبابي وأحكام خانقة

وكان الرئيس التونسي قيس سعيد، قد أصدر في أيلول/ سبتمبر أيلول 2022، مرسوماً عُرف بـ”المرسوم 54″، ينص في الفصل 24 على “العقاب بالسجن لمدة خمسة أعوام وغرامة تصل إلى خمسين ألف دينار، لكل من يتعمد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار، أو بيانات، أو إشاعات كاذبة، أو وثائق مصطنعة، أو مزورة، أو منسوبة كذباً للغير، بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني”. 

وخلال عام ونصف العام، حوكم أكثر من 60 شخصاً، بينهم صحافيون ومحامون ومعارضون للرئيس، بموجب هذا المرسوم، وفق النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، وحسب إحصاء “هيومن رايتس ووتش” ومنظمة العفو الدولية، لا يزال 40 منهم على الأقل، خلف القضبان حتى أيار/ مايو الماضي، معظمهم يقبع في السجن على خلفية ممارسة حقوق مكفولة بالدستور أساساً، علماً أن المنظمتين تقولان إن أكثر من 70 شخصاً، حوكموا وفق هذا المرسوم.

ويُذكر أن المرسوم 54 يخالف دستور 2022، بخاصة أحكام الفصل 22، الذي ينص على ضمان الدولة لمواطنيها الحقوق والحريات الفردية والعامة، كما يخرق الفصل 30 منه، الذي ينص على الحق في سرية المراسلات والاتصالات، وأحكام الفصل 37 المتعلق بحرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر، وأحكام الفصل 38 المتعلق بالحق في الإعلام والحق في المعلومة، والفصل 55 المتعلق بضوابط الحقوق والحريات، الذي يفرض أن تكون القيود بقانون، ولضرورة يقتضيها نظام ديمقراطي، وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني، أو الصحة العامة، وألا تمس هذه القيود بجوهر الحقوق والحريات المضمونة بالدستور، وأن تكون مبررة بأهدافها متناسبة مع دواعيها. 

ويتفق الصحافيون والحقوقيون في تونس، على أن المرسوم 54 ورد عمداً، ضبابياً وغامضاً وحاملاً عبارات فضفاضة، مثل الإضرار بالأمن العام، وتشويه السمعة، والإضرار بالغير مادياً أو معنوياً، وغيرها، من دون أن يتم تحديد المقصود بها بشكل واضح ودقيق. وقد فتح ذلك، الباب واسعاً للأجهزة الأمنية والقضائية لاستغلال غموض الأفعال المجرمة وضبابية العبارات المتعلقة، لتبالغ في تتبعاتها وأحكامها القضائية، التي باتت تضيق الخناق أكثر فأكثر على حرية التعبير.

في الثامن من أيار الماضي، نشر النقابي والناشط في المجتمع المدني عبد القادر منصور تدوينة ساخرة، ليتلقى بعد أيام قليلة استدعاء من طرف فرقة الشرطة العدلية في محافظة  قفصة، ومثل بعدها أمام قاضي التحقيق للاستماع إلى أقواله، وأُحيل بحالة سراح في 22 أيار الماضي، ثم صدرت بطاقة إيداع في السجن بحقه في 27 من الشهر ذاته، والتتبع أيضاً، استناداً إلى الفصل عدد 24 من المرسوم 54.

وقال محمد عمار، أحد القيادات النقابية في مدينة عبد القادر منصور لـ”درج”: “إن بطاقة الإيداع في السجن الصادرة بحق عبد القادر منصور كانت غير منتظرة، بخاصة أن موضوعها تدوينة ساخرة نشرها على حسابه الخاص على موقع فيسبوك، لمناسبة اليوم العالمي للحمير في 8 أيار، من دون أن يرد فيها أسماء أشخاص بعينهم أو صفاتهم، كما لم تحتوِ التدوينة على أي ثلب. الإيقاف جعلنا ندرك أن هناك سعياً الى إسكات الأصوات الناقدة في الجهة، وربما في كامل البلاد، ومن المعيب اليوم أن نجد مواطناً تونسياً يُودع في السجن، فقط من أجل تدوينة ساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي”.

وما زال منصور يقبع في السجن حتى الآن أيضاً، من دون معرفة ما ستؤول إليه الأمور، وإن كانت هذه القضايا تنتهي غالباً بتوجيه تهم بموجب المرسوم ذاته وصدور أحكام بالسجن. 

الصحافة في مرمى المرسوم 54

على رغم أن هناك عدداً كبيراً من الناشطين والمدونين يُحالون بموجب المرسوم 54، إلا أن الصحافيين هم الأكثر استهدافاً؛ لا سيما في الفترة الأخيرة، التي شهدت تتبع عدد متزايد منهم وسجنهم، فقط بسبب آرائهم التي يطرحونها لدى مزاولتهم عملهم. 

وكان آخر الصحافيين المحالين بسبب هذا المرسوم السيئ الذكر، المحلل والمعلق السياسي مراد الزغيدي، ومقدم البرامج التلفزيونية والإذاعية برهان بسيس، اللذين حوكما بالسجن سنة لكل منهما، بتهمة نشر إشاعات وأخبار بقصد الإساءة الى الغير، إذ قرر القضاء التونسي سجن الزغيدي وبسيس ستة أشهر، “بسبب جريمة استعمال شبكة وأنظمة معلومات واتصال لإنتاج وترويج وإرسال وإعداد أخبار وإشاعات كاذبة، بهدف الاعتداء على حقوق الغير والإضرار بالأمن العام”، كما أضاف ستة أشهر أخرى، “لجريمة استغلال أنظمة معلومات، ولإشاعة أخبار تتضمن نسبة أمور غير حقيقية، بهدف التشهير بالغير وتشويه سمعة والإضرار مادياً ومعنوياً”.

وهناك عشرات الصحافيين ممن تمت ملاحقتهم قضائياً، بسبب آرائهم بموجب المرسوم 54، بعضهم ما زال قابعاً في السجن على غرار الصحافي محمد بو غلاب، وبعضهم أُفرج عنه مثل زياد الهاني، أو التحقيق معه في أكثر من مناسبة مثل منية العرفاوي وهيثم المكي وغيرهما.

هشام السنوسي، عضو الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي والبصري في تونس (الهايكا)، قال لـ”درج”: “إن المرسوم 54 هو انتكاسة في مسار الحريات في البلاد، وهذه الانتكاسة تأكدت بتطبيقها على أرض الواقع، وهو ما تسبب في سلب حرية أشخاص لأسباب واهية تتعلق بتوجه جديد للممارسة السياسية. طالبنا سابقاً رئاسة الجمهورية بأن تسحب هذا المرسوم، فقوبلنا بتجميد عمل مجلس الهيئة”. 

وأضاف: “هناك قوانين تنظم عمل المؤسسات الإعلامية وممارسة النشاط الصحافي، بمراسيم حازت تزكية من المجتمع التونسي، ولذلك حتماً، فإن المرسوم 54 استخدم لضرب المنافسين السياسيين، والتخويف وتكميم الأفواه، وهذا ما ضمناه في الكثير من بياناتنا”.

يُذكر أن الصحافيين في تونس باتوا يخضعون للمرسوم 54 منذ إصداره، على رغم أن قطاع الإعلام في تونس، قد تم تنظيم جانبه التشريعي منذ 2011 مباشرة بعد الثورة، في نصوص قانونية واضحة، مثل المراسيم 115 و116 لسنة 2011 لتنظيم هذا القطاع، إلى جانب أن الفصل 37 من الدستور يؤكد ضمان حرية التعبير وأنها مكفولة، فيما يضمن الفصل 38 الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة.

وفيما لا يكاد يمر فيه يوم من دون أن يُحال أحد بموجب المرسوم 54، يُصر الرئيس قيس سعيد على أنه لم يلاحَق أي شخص في تونس على خلفية حرية الفكر وحرية التعبير، إذ قال خلال لقائه وزيرة العدل ليلى جفال في 24 أيار/ مايو الماضي في قصر قرطاج: “يتحدثون كل يوم عن المرسوم 54 والفصل 24 منه، أُوضح لكل التونسيين أننا نرفض المساس بأيّ كان من أجل فكرة”.

وأضاف: “لم يقع تتبع أحد من أجل رأي، نحن نرفض رفضاً قاطعاً، أن يُرمى أحدٌ بالسجن من أجل فكره، فحرية الفكر مضمونة في الدستور، وهي مضمونة في تونس أكثر من أية دولة أخرى”.

تجاهل مبادرة نواب البرلمان

ويبدو أن قيس سعيد يحاول استغلال ما تبقى له من شعبية، لإيهام الرأي العام بأن المرسوم 54 لا يهدد حرية التعبير، وأن ما يُقال مجرد ادعاءات، في محاولة منه لمواجهة ضغط المنظمات الحقوقية، التي باتت تفضح خطر هذا المرسوم، ومع بدء الاحتجاجات في الشارع تنديداً بهذا المرسوم. وليس من المتوقع أن يتم تعديل هذا المرسوم أو سحبه قبل الانتخابات الرئاسية، إذ سيكون بوسع سعيد الاستفادة منه، ما سيمكنه من إسكات كل الأصوات المنتقدة لسياسته، وحتى المنافسين السياسيين، مستفيداً من البرلمان الذي يتردد ويتراخى في تمرير مجرد مبادرة لتعديله.  

يؤكد ذلك ما يجري داخل البرلمان بشأن هذا المرسوم، إذ سبق أن تقدم 57 نائباً من مختلف الكتل البرلمانية ومن غير المنتمين، بمبادرة تشريعية منذ شباط/ فبراير الماضي، تتعلق بتعديل المرسوم 54 الخاص بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال. ولكن على رغم مرور أكثر من ثلاثة أشهر على تقديم هذه المبادرة، وعلى رغم الانتقادات الكبيرة التي طاولت المرسوم وتواتر الإحالات والقضايا بسببه، إلا أن مكتب البرلمان لم يتحرك بعد، ولم يحل مشروع التنقيح إلى اللجان المختصة. وأثار هذا التراخي غضب أصحاب المبادرة (57 نائباً) واستياءهم، فأقدموا أخيراً على تقديم طلب استعجال للنظر في تنقيح المرسوم المثير للجدل، وعُرض مشروع القانون على لجنة الحقوق والحريات، محملين رئيس البرلمان مسؤولية التعطيل.

إذ قال مقرر لجنة الحقوق والحريات في البرلمان التونسي في تصريحات إعلامية: “إن العائق الأساسي أمام إحالة مبادرة تنقيح المرسوم عدد 54، أمام اللجنة، هو رئاسة البرلمان التي ما زالت مترددة بخصوص تمريرها من عدمه، ويعمل الموقعون عن المبادرة على الدفع نحو تمريرها تقريباً خلال كل اجتماع لمكتب المجلس، وقد تحركنا أكثر من مرة، ونتصل بمكتب المجلس تقريباً، في كل اجتماعاته لتمرير هذه المبادرة، لكن للأسف هناك تخوف من هذه التنقيحات”.

وتطالب المنظمات في تونس (على غرار النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والاتحاد العام التونسي للشغل، والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وغيرهم…) بسحب المرسوم معتبرة أن غالبية المحاكمات تتم بمقتضاه، ما يؤكد أن السلطة كانت تريد؛ منذ أن أصدرت المرسوم، توظيفه للتضييق على الحريات، وعلى رأسها حرية الرأي والصحافة والتعبير، وتسليط سيف المحاكمات على كل من ينتقدها وينتقد سياساتها مهما كان موقعه.