وفكرة المستبد العادل قديمة جديدة٬ نظَّر لها مفكرون في القرن السادس عشر٬ وتكاد لا تغادر حتى اليوم٬ مخيلة جمهور عريض. تغضُّ العواطف الجياشة المترافقة مع رغبة ولادة مستبد عادل٬ الطرفَ عن تناقضٍ داخلي بين مفردتي المصطلح، حيث ترغب الجموع في إيجاد من يوفر لها الماء والغذاء والأمن بعد معاناة طويلة مع الفوضى وآلام الفقد وانهيارات المجتمع٬ وكنتيجة طبيعية للمعاناة٬ تندفع جماهير نحو التفكير بذلك الشخص٬ برغم عدم إمكانية وجوده في الواقع٬ فعبارة “المستبد العادل” تحمل في حديها خلافاً موضوعياً٬ حيث أن الاستبداد مناف لمفهوم العدالة بشكل قطعي.
طور آخرون مصطلحاً قد يبدو أكثر جاذبية من المستبد العادل٬ وهو “المستنير”٬ والمقصود به حاكم يمتلك السلطة المطلقة٬ ولكنه يسعى إلى تحسين حياة الشعب وتحقيق بعض التقدم والرقي من خلال اتباع سياسات إصلاحية كأن يدعو إلى نظام تعليمي حديث٬ ويستجلب بعض منتجات الذكاء الصنعي٬ أو يسمح بممارسة بعض الحقوق الاجتماعية٬ كهبةٍ يمنحها من حسابه الخاص.. المشكلة مع هذا الشكل من الحكم أن ما يُمنح في فترة ما٬ يمكن أن يُسلب في فترة أخرى٬ كما أن نموذجاً من هذا النوع يعتمد على العطاء من الأعلى٬ لا يحفّز على التنافس الذي بدوره يولد الإنتاج والإبداع٬ ويبقى نموذجاً، إن توفر٬ قابلاً للتراجع في أية لحظة٬ بسبب ظروف معينة قد تطرأ على الدولة أو بتغير الحاكم أو زيادة عدد السكان الذي يؤدي لزاماً إلى تزايد مطالبهم٬ ولا تقوى حالة شعبية غير منتجة على توفيرها، بالإضافة إلى انتشار جو من القمع٬ فهذا المستنير القابض على السلطة لا بد له من أجهزة كافية تمكنه من ممارسة الحكم، والمشكلة كبيرة مع وجود هذه الأجهزة حول أي مستنير، حيث يشير الشكل الأولي إلى أن سبب وجود هذه الأجهزة هو الحاكم الذي لا يلبث أن يصبح نتيجةً لها…
يعطي الميالون للنموذجين السابقين أمثلة عن حكم مستبد ناجح٬ غير دقيقة٬ وتحتوي خلطاً بين الدكتاتور وبين الحاكم الصارم ذي الرؤية الواضحة٬ القادر على تحديد الاتجاه الذي يجب أن يسير فيه المجتمع أو الدولة٬ وفق دستور واضح يحفظ حقوق الناس ويراعي الشكل المناسب لطبيعة البشر. وقد يثير تكرار كلمة حقوق استفسارات عديدة عند البعض٬ فنسمع في هذا الزمن العجيب عن حقوق سلبية وأخرى إيجابية٬ ويعرِّف مفكرو الدولة الحديثة الحقوق السلبية بأنها تلك التي تتطلب من الحكومة الامتناع عن التدخل في الحريات الفردية٬ بل تحافظ على ملكيات الأفراد المادية٬ حيث يقتصر دور الدولة على حماية الفرد من الاعتداء والغش٬ عن طريق صيغة تعاقدية بينه وبين الدولة يمثلها الدستور وتنفذها المحاكم القضائية٬ وتندرج حقوق مثل حرية التعبير، والخصوصية، والتملك٬ ضمن هذه الفئة. ويبقى هذا النوع من الحقوق قوياً ومضموناً لأنه أقل عرضة لإعادة التفسير والتأويل حيث الحقوق راسخة وواضحة وحمايتها سهلة.
أما الحقوق الإيجابية فتتطلب من الحكومة اتخاذ إجراءات لتوفير خدمات دائمة في قطاعات واسعة كالتعليم والصحة والسكن٬ وتأمين سلع أساسية في أي ظرف كان يعيشه المواطن٬ ويحتاج هذا النوع من الحقوق مشاركةً حكومية نشطة لضمان وصول الأفراد إلى هذه الضروريات. ورغم مظهره المشرق إلا أن هذا النوع من الحقوق قد يتقاطع بوجه ما مع حالة من الاستبداد قد لا تكون على هيئة رجل واحد٬ بل مجموعة أفراد يشكلون حكومة٬ ويمثلون الشعب٬ حيث يكتنف الغموض طرق تصريف الأموال التي تحصل عليها الدولة من المواطنين٬ ويمكن أن يدخل الفساد تحت عناوين “الرعاية الاجتماعية”٬ وبالتالي يجد المواطن المنتج نفسه مجبراً على إعانة غير المنتج بوجود وسيط بينهما هو الدولة مع ما تحتويه من عناصر بشرية صالحة أو فاسدة… وتعاني دول الرفاه في أوروبا من تبعات هذا الشكل وتسجِّل هبوطاً اقتصادياً لافتاً٬ وتُراكِمُ ديوناً باهظة٬ في ظل تدخل مستمر من الدولة في قطاعات عديدة٬ يحاول بعض المسؤولين أحيانا ضبطه لتفادي الانهيار. قد يبدو انتقاد هذا النموذج الذي لا يتخلى عن الديمقراطية٬ ترفاً مبالغاً فيه في ظروف الفوضى العاصفة في المنطقة٬ حيث تبحث قطاعات من الشعب عن مستبد أنيق لا يصادر كل حقوقها٬ لكن يبقى تعريف الأشياء بما هي عليه٬ مع الإشارة إلى النموذج المفضل٬ أمراً مفيداً ويمكننا التحدث عنه دائماً.