ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

المشهد الثقافي في جبل عامل بين السطوة الدينيّة وغياب الدولة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كان ذلك أوّل عهدي بالسقوف، وبالخوف يخنق ويحجب حتى تغدو القراءة مجرّد عمليّة تلقٍّ سلبية لا نملك إزاءها عقلاً ناقداً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أذكر أني أثناء ممارستي مهنة التعليم، أنشأت مع صديقات لي في المدرسة صالوناً أدبياً للمدرّسين، وكان هدفي من ذلك أنا معلّمة الأدب العربي، أن أشجّع طلّابي على القراءة عبر خلق نموذج يُحتذى.

كان الأمر  بالنسبة إلي محاولة لخلق أواصر جديدة بيني وبين من أحبّ، أو قل محاولة لتضميد جرح أو سرقة ابتسامة…

اقترحت على الصالون يومها، قراءة رواية “حجر الصبر” لعتيق رحيمي، لكنّ المفاجأة كانت عندما أحدث هذا الاختيار هرجاً ومرجاً واستنكاراً عند بعض القرّاء، ودار حديث حينها حول حرمة تداول مثل هذه الأعمال!

 باختصار، فإن حالاً من الغضب والاستياء عمّت المكان، ووجدت نفسي مضطرّة للحديث في بديهيات لم يخطر لي أنها موضع نقاش، فأنا ابنة رجل دين، وبيتنا يضمّ مكتبة كبيرة تحتشد فيها كتب الفقه والشريعة والأصول، إلى جانب روايات نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف والطيّب صالح وغابرييل غارسيا ماركيز …

كان ذلك أوّل عهدي بالسقوف، وبالخوف يخنق ويحجب حتى تغدو القراءة مجرّد عمليّة تلقٍّ سلبية لا نملك إزاءها عقلاً ناقداً.

أستعيد هذه الحادثة كلّما تأمّلت المشهد الثقافي في جبل عامل، فمنذ ما يزيد عن الأربعين عاماً أو منذ أن تسلّمت الأحزاب الدينية راية المقاومة، ونحن عاجزون عن إنتاج جوّ ثقافي يعتدّ به.

قُيِّد الإبداع عبر سلسلة من الممنوعات والمحرّمات، ما جعل الأدب خادماً للخطاب السياسي التعبوي، وليس مشروعاً موازياً لمشروع المقاومة، الأمر الذي انعكس سلباً على المنتج الإبداعي، فبقيت القطاعات الإبداعية كالشعر والمسرح والرواية هامشية إلى حدٍّ بعيد، أو مرتبطة بالتعبئة الإعلامية، من دون مساحة حقيقية للتخييل أو النقد.

يجدر بنا في هذا الصدد، أن نلفت إلى أننا لا نطالب الأديب بعدم الانتماء، أو بعدم تبنّي رؤى وأفكار وعقائد، لأن ذلك أمر غير ممكن، فنحن نتاج تربية وأفكار وتاريخ نعتزّ به، غير أن المسألة تكمن في المساحة التي يقرّر المبدع التحرّك ضمنها، وهي للمناسبة ينبغي أن تكون فضاء حرّاً مفتوحاً على كلّ احتمال…

حاولت الأحزاب الشمولية دائماً أن تقمع المبدعين أو تدفعهم الى التعبير عن سلّمها القيمي، قام بذلك الاتّحاد السوڤياتي، ودفع بالفنّ الى التعبير عن قيم الشيوعية (مكسيم غوركي مثال على ذلك من خلال روايته “الأم”، أيقونة الأدب الذي يمجّد البروليتاريا).

بالعودة إلى تجربة المقاومة في جبل عامل، وعلى رغم أهمّية هذه التجربة وغناها الإنساني وعظمة التضحيات التي قدّمتها، لم تنتج إبداعاً يوازي إنجازاتها، وإن تمّ ذلك فلن يخلو من فجاجة الشعارات وصخبها بعيداً عن العمق الإنساني.

فمعظم هذه النصوص تنتمي الى ما يُعرف بالأدب الملتزم، الذي ينصّب نفسه قيّماً على المتلقّي، يقدّم له الدروس والعبر والمواعظ بشكل مباشر، كأنّه يخشى على الدوام سوء الفهم أو غباء المتلقّي الذي قد يجرّه إلى مساحات غير آمنة من الفهم والتأويل!

نجت المقاومة الفلسطينية من ذلك التقييد حين أطلق مبدعوها العنان لخيالهم وإبداعهم، فثبّتوا في الوعي الجمعي سرديتهم الخاصّة، ما أغنى المكتبة العربية بروائيين وشعراء ورسّامين كغسان كنفاني وإميل حبيبي وسميح القاسم ومحمود درويش وناجي العلي وغيرهم، ممن سمحوا للجرح الفلسطيني النازف بأن يبقى حاضراً ومرئياً ومفتوحاً لأجيال قادمة، وقد انسحب هذا التأثير على المقاومة الوطنية اللبنانية التي كانت امتداداً طبيعياً للوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان، ذلك البلد الصغير الذي شكّل فضاء مشتركاً ومساحة آمنة للتعبير والبوح، على رغم الحديد والنار والمتاريس، وغياب كلّ مظاهر الأمان بالمعنى المتعارف عليه، فلمعت في هذا المناخ أسماء كثيرة مثل الياس خوري في الرواية، وشوقي بزيع وعباس بيضون ومحمد علي شمس الدين وحسن ومحمد وعصام العبدالله في الشعر، وزياد الرحباني الذي ارتبط اسمه بالحزب الشيوعي اللبناني وبالمقاومة الوطنية، بخاصّة في السبعينات والثمانينات، متبنياً في مسرحه خطابا يسارياً مرّة، ونقداً لاذعاً لأخطاء اليسار مرّات كثيرة…

وعليه، فإن الجدب في الساحة الإبداعية في السنوات الأخيرة، ترافق مع شعور متفاقم بالقوّة والسيطرة، الأمر الذي أسقط من حسابات المنتمين إلى هذا الخطّ، أن اللغة تبقى فرساً حروناً عصيّة على التطويع والقولبة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نمسك بتلابيبها ونجرّها جراً  إلى حيث نريد، أما القوّة الناعمة، قوّة الإبداع والجمال، فهي التي تبقى بعد زوال أعتى الإمبراطوريات.

ولأن الذكريات تجرّ بعضها بعضاً، وتكرّ كحبّات السبحة، سأحدّثكم عن جدّتي، وجدّتي سماء جبل عامل قبل أن تسيّجها الأسوار، وأنهاره التي تتمرّد على الضفاف، أذكرها تجلس في صدر الغرفة تقرأ على مسامعنا أبياتاً من الشعر لجدّي وفيها من الجرأة الكثير، تحمرّ وجنتا أمّي، وهي الخجولة بطبعها، وتطلب منها أن تقرأ قصائد أخرى لا تخدش الحياء، لكنّ جدّتي ترمقها بنظرة عاتبة وتقول: هذا شعر يا ابنتي!!

نظرية جدتي الجمالية تلك، التي تبنّيتها وما زلت، هي الكفيلة بأن تنجو بإبداعنا من الضياع، وهي القادرة على كسر كلّ الحواجز لخلق جوّ ثقافي جديد في مجتمعنا، ينفتح على المبدعين الحقيقيين ويعرّف الجمهور بهم، يتقبّلهم ويستعين بتجاربهم وخبراتهم، ما يمهّد الأرض ويحفظ تاريخها وإرثها بجيل من الكتّاب الأحرار …

وإلى أن يحدث ذلك، ستظلّ سرديتنا الخاصّة طيّ الكتمان، مسجونة في أذهان مبدعينا وأفكارهم، خوفاً من سلطة اجتماعية اعتادت أن تنصّب نفسها قاضياً يثبت ويمحو، يحكم ويحاكم، يحلّل ويحرّم، وحتى ذلك الحين سيكون غياب النصوص الإبداعية العظيمة، هو النصّ الأكثر سطوة وحضورا!

وإذا كانت القيود الحزبية الدينية ــ كما أسلفنا ــ كبّلت الإبداع، فإن الدولة اللبنانية ممثّلة بوزارة التربية ووزارة الثقافة لم تكن أقلّ تقصيراً، بل ساهمت بدورها في تغذية شعور الطائفة الشيعية بالتهميش. فمن يطالع كتاب الأدب العربي المقرّر في المدارس، يلاحظ كيف ضمّ أسماء شعراء وأدباء بارزين من طوائف ومناطق معينة، كان لهم دورهم في بناء هوّية لبنان الثقافية والأدبية، لكنّه تجاهل بصورة شبه تامّة أسماء من جبل عامل، مثل: محمد علي الحوماني شاعر الاستقلال وكريمتيه بلقيس وأميرة، وموسى الزين شرارة وغيرهم، بل وأهمل مؤرخين من وزن الشيخ علي الزين، ومحمد جابر آل صفا والشيخ سليمان الظاهر اللذين كانا عضوين في المجمع اللغوي في دمشق، طاوياً صفحة كاملة من تراث جبل عامل الأدبي. 

هذا الإغفال لم يبقَ تفصيلاً عابراً، بل تحوّل إلى جرح مفتوح في الذاكرة الجماعية للشيعة، الذين وجدوا أنفسهم مغيّبين عن السردية الأدبية والثقافية الوطنية، كأنّ مساهماتهم في بناء أدب عصر النهضة والاستقلال وما تركته من آثار في الثقافة العربية لا تستحقّ الذكر.

أي محاولة لإعادة وصل الطائفة الشيعية بالدولة، لا يمكن أن تتمّ من دون إعادة الاعتبار إلى هذا الإرث، وتصحيح الخلل الذي كرّسه التهميش في المناهج التربوية والسياسات الثقافية. فبغير ذلك يبقى الانتماء منقوصاً، وتبقى المواطنة معلّقة. كما أن عودة الشيعة إلى كنف الدولة لا تعني فقط حمايتهم سياسياً وأمنياً، بل الاعتراف بمساهماتهم في صياغة الهوّية الثقافية للبنان، وهذا شرط أساس لإعادة ترميم بنيان مواطنتهم وبناء عقد اجتماعي جديد يضمن لهم العدالة.

جنى بركات - صحافية لبنانية | 14.11.2025

“ستارلينك” لبنان: ما علاقتها بوزير الاتّصالات وبالشبهات المرتبطة بمعاقَب أميركياً؟ 

مع دخول "ستارلينك" إلى لبنان، برزت إشكالية حول مساعي الشركة الأميركية للتعاقد مع "Connect Services Liberia" كموزّع لخدمات "ستارلينك" في لبنان، من دون فتح باب المنافسة بين الشركات الأخرى، وهي الشركة التي سبق أن ترأّسها وزير الاتّصالات الحالي شارل الحاج. 
10.10.2025
زمن القراءة: 5 minutes

كان ذلك أوّل عهدي بالسقوف، وبالخوف يخنق ويحجب حتى تغدو القراءة مجرّد عمليّة تلقٍّ سلبية لا نملك إزاءها عقلاً ناقداً.

أذكر أني أثناء ممارستي مهنة التعليم، أنشأت مع صديقات لي في المدرسة صالوناً أدبياً للمدرّسين، وكان هدفي من ذلك أنا معلّمة الأدب العربي، أن أشجّع طلّابي على القراءة عبر خلق نموذج يُحتذى.

كان الأمر  بالنسبة إلي محاولة لخلق أواصر جديدة بيني وبين من أحبّ، أو قل محاولة لتضميد جرح أو سرقة ابتسامة…

اقترحت على الصالون يومها، قراءة رواية “حجر الصبر” لعتيق رحيمي، لكنّ المفاجأة كانت عندما أحدث هذا الاختيار هرجاً ومرجاً واستنكاراً عند بعض القرّاء، ودار حديث حينها حول حرمة تداول مثل هذه الأعمال!

 باختصار، فإن حالاً من الغضب والاستياء عمّت المكان، ووجدت نفسي مضطرّة للحديث في بديهيات لم يخطر لي أنها موضع نقاش، فأنا ابنة رجل دين، وبيتنا يضمّ مكتبة كبيرة تحتشد فيها كتب الفقه والشريعة والأصول، إلى جانب روايات نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف والطيّب صالح وغابرييل غارسيا ماركيز …

كان ذلك أوّل عهدي بالسقوف، وبالخوف يخنق ويحجب حتى تغدو القراءة مجرّد عمليّة تلقٍّ سلبية لا نملك إزاءها عقلاً ناقداً.

أستعيد هذه الحادثة كلّما تأمّلت المشهد الثقافي في جبل عامل، فمنذ ما يزيد عن الأربعين عاماً أو منذ أن تسلّمت الأحزاب الدينية راية المقاومة، ونحن عاجزون عن إنتاج جوّ ثقافي يعتدّ به.

قُيِّد الإبداع عبر سلسلة من الممنوعات والمحرّمات، ما جعل الأدب خادماً للخطاب السياسي التعبوي، وليس مشروعاً موازياً لمشروع المقاومة، الأمر الذي انعكس سلباً على المنتج الإبداعي، فبقيت القطاعات الإبداعية كالشعر والمسرح والرواية هامشية إلى حدٍّ بعيد، أو مرتبطة بالتعبئة الإعلامية، من دون مساحة حقيقية للتخييل أو النقد.

يجدر بنا في هذا الصدد، أن نلفت إلى أننا لا نطالب الأديب بعدم الانتماء، أو بعدم تبنّي رؤى وأفكار وعقائد، لأن ذلك أمر غير ممكن، فنحن نتاج تربية وأفكار وتاريخ نعتزّ به، غير أن المسألة تكمن في المساحة التي يقرّر المبدع التحرّك ضمنها، وهي للمناسبة ينبغي أن تكون فضاء حرّاً مفتوحاً على كلّ احتمال…

حاولت الأحزاب الشمولية دائماً أن تقمع المبدعين أو تدفعهم الى التعبير عن سلّمها القيمي، قام بذلك الاتّحاد السوڤياتي، ودفع بالفنّ الى التعبير عن قيم الشيوعية (مكسيم غوركي مثال على ذلك من خلال روايته “الأم”، أيقونة الأدب الذي يمجّد البروليتاريا).

بالعودة إلى تجربة المقاومة في جبل عامل، وعلى رغم أهمّية هذه التجربة وغناها الإنساني وعظمة التضحيات التي قدّمتها، لم تنتج إبداعاً يوازي إنجازاتها، وإن تمّ ذلك فلن يخلو من فجاجة الشعارات وصخبها بعيداً عن العمق الإنساني.

فمعظم هذه النصوص تنتمي الى ما يُعرف بالأدب الملتزم، الذي ينصّب نفسه قيّماً على المتلقّي، يقدّم له الدروس والعبر والمواعظ بشكل مباشر، كأنّه يخشى على الدوام سوء الفهم أو غباء المتلقّي الذي قد يجرّه إلى مساحات غير آمنة من الفهم والتأويل!

نجت المقاومة الفلسطينية من ذلك التقييد حين أطلق مبدعوها العنان لخيالهم وإبداعهم، فثبّتوا في الوعي الجمعي سرديتهم الخاصّة، ما أغنى المكتبة العربية بروائيين وشعراء ورسّامين كغسان كنفاني وإميل حبيبي وسميح القاسم ومحمود درويش وناجي العلي وغيرهم، ممن سمحوا للجرح الفلسطيني النازف بأن يبقى حاضراً ومرئياً ومفتوحاً لأجيال قادمة، وقد انسحب هذا التأثير على المقاومة الوطنية اللبنانية التي كانت امتداداً طبيعياً للوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان، ذلك البلد الصغير الذي شكّل فضاء مشتركاً ومساحة آمنة للتعبير والبوح، على رغم الحديد والنار والمتاريس، وغياب كلّ مظاهر الأمان بالمعنى المتعارف عليه، فلمعت في هذا المناخ أسماء كثيرة مثل الياس خوري في الرواية، وشوقي بزيع وعباس بيضون ومحمد علي شمس الدين وحسن ومحمد وعصام العبدالله في الشعر، وزياد الرحباني الذي ارتبط اسمه بالحزب الشيوعي اللبناني وبالمقاومة الوطنية، بخاصّة في السبعينات والثمانينات، متبنياً في مسرحه خطابا يسارياً مرّة، ونقداً لاذعاً لأخطاء اليسار مرّات كثيرة…

وعليه، فإن الجدب في الساحة الإبداعية في السنوات الأخيرة، ترافق مع شعور متفاقم بالقوّة والسيطرة، الأمر الذي أسقط من حسابات المنتمين إلى هذا الخطّ، أن اللغة تبقى فرساً حروناً عصيّة على التطويع والقولبة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نمسك بتلابيبها ونجرّها جراً  إلى حيث نريد، أما القوّة الناعمة، قوّة الإبداع والجمال، فهي التي تبقى بعد زوال أعتى الإمبراطوريات.

ولأن الذكريات تجرّ بعضها بعضاً، وتكرّ كحبّات السبحة، سأحدّثكم عن جدّتي، وجدّتي سماء جبل عامل قبل أن تسيّجها الأسوار، وأنهاره التي تتمرّد على الضفاف، أذكرها تجلس في صدر الغرفة تقرأ على مسامعنا أبياتاً من الشعر لجدّي وفيها من الجرأة الكثير، تحمرّ وجنتا أمّي، وهي الخجولة بطبعها، وتطلب منها أن تقرأ قصائد أخرى لا تخدش الحياء، لكنّ جدّتي ترمقها بنظرة عاتبة وتقول: هذا شعر يا ابنتي!!

نظرية جدتي الجمالية تلك، التي تبنّيتها وما زلت، هي الكفيلة بأن تنجو بإبداعنا من الضياع، وهي القادرة على كسر كلّ الحواجز لخلق جوّ ثقافي جديد في مجتمعنا، ينفتح على المبدعين الحقيقيين ويعرّف الجمهور بهم، يتقبّلهم ويستعين بتجاربهم وخبراتهم، ما يمهّد الأرض ويحفظ تاريخها وإرثها بجيل من الكتّاب الأحرار …

وإلى أن يحدث ذلك، ستظلّ سرديتنا الخاصّة طيّ الكتمان، مسجونة في أذهان مبدعينا وأفكارهم، خوفاً من سلطة اجتماعية اعتادت أن تنصّب نفسها قاضياً يثبت ويمحو، يحكم ويحاكم، يحلّل ويحرّم، وحتى ذلك الحين سيكون غياب النصوص الإبداعية العظيمة، هو النصّ الأكثر سطوة وحضورا!

وإذا كانت القيود الحزبية الدينية ــ كما أسلفنا ــ كبّلت الإبداع، فإن الدولة اللبنانية ممثّلة بوزارة التربية ووزارة الثقافة لم تكن أقلّ تقصيراً، بل ساهمت بدورها في تغذية شعور الطائفة الشيعية بالتهميش. فمن يطالع كتاب الأدب العربي المقرّر في المدارس، يلاحظ كيف ضمّ أسماء شعراء وأدباء بارزين من طوائف ومناطق معينة، كان لهم دورهم في بناء هوّية لبنان الثقافية والأدبية، لكنّه تجاهل بصورة شبه تامّة أسماء من جبل عامل، مثل: محمد علي الحوماني شاعر الاستقلال وكريمتيه بلقيس وأميرة، وموسى الزين شرارة وغيرهم، بل وأهمل مؤرخين من وزن الشيخ علي الزين، ومحمد جابر آل صفا والشيخ سليمان الظاهر اللذين كانا عضوين في المجمع اللغوي في دمشق، طاوياً صفحة كاملة من تراث جبل عامل الأدبي. 

هذا الإغفال لم يبقَ تفصيلاً عابراً، بل تحوّل إلى جرح مفتوح في الذاكرة الجماعية للشيعة، الذين وجدوا أنفسهم مغيّبين عن السردية الأدبية والثقافية الوطنية، كأنّ مساهماتهم في بناء أدب عصر النهضة والاستقلال وما تركته من آثار في الثقافة العربية لا تستحقّ الذكر.

أي محاولة لإعادة وصل الطائفة الشيعية بالدولة، لا يمكن أن تتمّ من دون إعادة الاعتبار إلى هذا الإرث، وتصحيح الخلل الذي كرّسه التهميش في المناهج التربوية والسياسات الثقافية. فبغير ذلك يبقى الانتماء منقوصاً، وتبقى المواطنة معلّقة. كما أن عودة الشيعة إلى كنف الدولة لا تعني فقط حمايتهم سياسياً وأمنياً، بل الاعتراف بمساهماتهم في صياغة الهوّية الثقافية للبنان، وهذا شرط أساس لإعادة ترميم بنيان مواطنتهم وبناء عقد اجتماعي جديد يضمن لهم العدالة.

10.10.2025
زمن القراءة: 5 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية