يخوض إعلاميان من آل غانم (مارسيل وجورج) حرباً ضارية للدفاع عن المصارف في سياق الأزمة اللبنانية. يستحضران في حربهما أرقاماً تعينهما في مهمتهما، من نوع أن سنوات الـ”كابيتال كونترول” غير القانوني، شهدت أيضاً سداد المدينين قروضهم للمصارف على سعر دولار الـ1500 ليرة، أو أن المودع استفاد أيضاً من الفوائد المرتفعة التي أمّنتها الهندسات المالية قبل سقوط العملة المدوّي!
لا بأس أيها الزميلان، بين أيديكما مادة يمكن أن تكون جزءاً من النقاش، لكن بما أنكما صحافيان، ويفترض أن تمارسا دوراً رقابياً لمصلحة الفئات الأضعف في بلدكما، فيجب أن يبدأ النقاش معكما من حقيقة أن أي نقاش في هذا الموضوع لا ينطلق من حقيقة أن هناك سوء أمانة ارتكبتها المصارف بحق نحو مليون ونصف المليون مودع، هو نقاش غير أخلاقي، وهؤلاء المودعون إذا ما أضفنا إليهم عائلاتهم، يبلغون أكثر من نصف عدد اللبنانيين. سوء أمانة لا نقاش حوله. ثمة من ائتمن المصارف على جنى عمره، فتصرفت بهذه الأمانة بما يخدم مصلحتها وبما يشكل مقامرة بمال غيرها.
هذه المعادلة أخلاقية ويجب أن تسبق أي نقاش وأي رقم وأي تحليل. وبعدها، وبما أن جناحي آل غانم يتصدران منبراً إعلامياً هو الأكثر مشاهدة في لبنان، وبما أنهما يعتبران أن الخسائر لم تقتصر على المودع، إنما أصابت أيضاً المصارف، فعلينا أن نلفت نظرهما إلى أن الفارق كبير، وأن المتسبب بالخسارة ما زال بإمكانه أن يرسل أبناءه إلى المدارس وإلى الجامعات في الخارج، وأن يمضي معهم الفرص في فاريا وغيرها من المنتجعات، بينما تحطمت آمال ما كان تبقى من طبقات وسطى في التعليم والطبابة، ناهيك بالكهرباء والماء. أما الفقراء، فهؤلاء لا مؤشر لرصد الهاوية التي انتهوا إليها.
هذا الفارق في الإمكانات يجب أن يسبق أيضاً أي نقاش بالأرقام وأي تحليل حول طبيعة الانهيار. أما الكلام عن أننا حيال عائلات ميسورة وأخرى غير ميسورة، وأن التفاوت في الإمكانات أمر طبيعي في ظل نظام غير اشتراكي، فهذا يفقد معناه عندما يصل الفارق إلى القدرة على الطبابة والتعليم والحق بالدفء والكهرباء. هنا تتطلب الأخلاق، من الصحافي على الأقل، انحيازاً الى الأضعف وكشفاً للمتسبب وغضباً من النظام.
ثمة من ائتمن المصارف على جنى عمره، فتصرفت بهذه الأمانة بما يخدم مصلحتها وبما يشكل مقامرة بمال غيرها.
أيها الزميلان عليكما أن تشرحا لنا، نحن الأقل معرفة وشهرة منكما، عن سبب عرقلة قانون الـ”كابيتال كونترول” في العام 2019، وعن سبب الضغط لإقراره اليوم. ثلاث سنوات أتاح عدم إقرار القانون خلالها للطغمة السياسية والمصرفية، إجراء تحويلات إلى الخارج تم توثيق عدد منها، ولم تنبسا ببنت شفة حولها، علماً أن قضية مخالفة المصارف قانون النقد والتسليف عبر الـ”كابيتال كونترول” غير القانوني، لم تثر حفيظتكما أنتما الآتيين من خلفية حقوقية! وطالما أنكما أشرتما إلى الديون المصرفية التي سددها المدينون بالليرة اللبنانية، كاتب هذه السطور كان واحداً ممن أقدموا على ذلك، لكن وديعتي التي أطبق المصرف عليها تتجاوز بثلاثة أضعاف القرض الذي سددته. وبهذا المعنى، تم “تمنيني” من صحافيين باقتصار خسارتي على ثلاثة أرباع وديعتي!
وبما أننا وصلنا اليوم إلى نقاش توزيع الخسائر، فإن ما يحصل في المنابر الإعلامية المقرّبة من المصارف، وهي في ما يبدو باشرت ابتعاداً بطيئاً من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بعدما صارت مهمة الدفاع عنه عسيرة وغير مثمرة، فإن المهمة المنوطة بهذه المنابر هي تجنيب المصارف تحمّل الحصة الوازنة من الخسارة.
العدل والمنطق يقولان إن الخسارة بجزئها الأكبر يجب أن تتحمّلها المصارف، من أصولها ومن الثروات التي راكمها أصحابها خلال سنوات الهندسات المالية، وهي أرباح ليست جزءاً من حسابات الربح والخسارة، فمن المرجح أنها حُوّلت إلى حسابات خاصة في الخارج.
المعركة المنوطة بالإعلام الذي يُفترض أن ينحاز إلى الحق وإلى الأضعف، تتمثل اليوم في الضغط لتحميل الجزء الأكبر من الخسارة للمصارف، لا في خوض معركة الـ”كابيتال كونترول” المتأخر، بهدف حماية المصارف من الدعاوى القضائية.
“بنك عودة” مثلاً، حقق أرباحاً في سنوات الهندسات المالية الثلاث (بين العامين 2016 و2019)، بلغت نحو 1.6 مليار دولار. هذه الأرباح تقاضاها المصرف، وهي بالنتيجة ديون على الخزينة استعانت لسدادها بودائعنا.
قد نختلف على تفسير الديون وعلى تقييم الهندسات المالية، لكن على قاعدة الانحياز الى الأضعف، وعلى قاعدة تحميل الخسارة لمن يستطيع تحمّلها، والأهم لمن تسبّب بها. المعادلة الأخلاقية والمهنية شديدة البساطة. ما فعلته المصارف كان قصة سطو معلن، وأي محاولة لتجميل فعلتها أو التخفيف منها لن تكون أكثر من خطوة لتجنيبها المسؤولية.
إقرأوا أيضاً: