ما أن تدخل بلدة العالية المطلة على مدينة بنزرت في شمال العاصمة التونسية حتى يصفعك مشهد اكتظاظ مقاهيها بمئات الشبان، ذاك أننا وصلنا إلى البلدة عند الحادية عشرة صباحاً، وفي يوم عمل عادي، والشبان إذ تدفقوا على المقاهي في ساعات الصباح الأولى، جلسوا على كراسيهم بما يوحي بأنهم في وضع المنتظرين! كان ذلك بعد يومين من الانتخابات الرئاسية الأخيرة. رجل الأعمال المسجون بتهمة فساد نبيل القروي نال أكثر الأصوات في العالية، ذاك أنه وزع حصصاً غذائية على السكان الفقراء فيها. فيما حل مرشح حركة النهضة عبد الفتاح مورو ثانياً.
سألنا شاباً قال إنه يمضي معظم نهاره في المقهى، عن عمله، فأجاب نحن ننتظر فرصة للخروج من تونس من طريق “الحراقة”. “لا شغل هنا” قال، وحين سألناه عن المئات من أبناء البلدة الذين “هاجروا للجهاد في سوريا” قال إن قريباً له كان من بينهم، وقبل أن يغادر إلى سوريا كان “متبطلاً”، وأمضى وقتاً هنا في هذا المقهى منتظراً فرصة “الحراقة”، فجاءه الداعية إمام مسجد أبو بكر وأرسله إلى سوريا.
أكثر من مئة شاب من بلدة العالية، التي يبلغ تعداد سكانها نحو 20 ألفاً، غادروا للقتال في سوريا بين عامي 2012 و2014، وهي فترة حكم الترويكا كما يسميها التونسيون، أي حكم حركة النهضة، الفرع التونسي لجماعة الإخوان المسلمين. وهذه ليست حال بلدة العالية لوحدها، ذاك أن بلدات قريبة منها فاقتها في عدد الشبان المغادرين لـ”الجهاد” في سوريا. بلدة منزل بورقيبة وبلدة سجنين هما أيضاً من حواضر مدينة بنزرت، ومنهما غادر المئات أيضاً، وهما تشتركان مع العالية في انعدام فرص العمل وفي وقوعهما على الشاطئ الشمالي لتونس حيث لا تبعد الجنة الأوروبية سوى عشرات قليلة من الكيلومترات.
المتزوجون من “الجهاديين” الذين غادروا العالية إلى سوريا، اصطحبوا معهم زوجاتهم. وقتذاك كان “الخروج” سهلاً، وتولى أكلاف الرحلات ممولون دفعوا نفقات إصدار جوازات السفر، ومن كان معيلاً لعائلاته من المغادرين دفع الممولون لأهله مبلغاً يعينهم في غيابه. الرجال من “المجاهدين” إما قتلوا أو اعتقلوا أو اختفوا بين كثبان الصحارى السورية والعراقية. الزوجات موجودات مع أبنائهن في مخيمات العزل في شمال سوريا، ومن يحمل قضيتهم اليوم في تونس هم الجدات، وغالبيتهن أمهات الزوجات، فدفاع أمهات “المجاهدين” لحمل قضية العائلات المحتجزات في سوريا والعراق وليبيا، ضعف بعدما تحققن من موت أبنائهن، أو من اختفائهم، وصلة الرحم مع الأحفاد اضطربت بفعل ما أحدثه “خروج الأبناء للجهاد” من توترات بين العائلات المتصاهرة.
تقول سميرة (45 سنة)، وهي جدة لخمسة طفلات عالقات مع أمهن، ابنة سميرة، في شمال سوريا، إن علاقتها مع أهل زوج ابنتها سيئة جداً، فبعد مقتل صهرها، واسمه حسن بن نجمة، في الرقة، اتهمت عائلة الزوج عائلة الزوجة بتسهيل سفر ابنها إلى سوريا، وهم، أي أهل الزوج، انقطعوا عن التواصل مع أحفادهم ومع زوجة ابنهم ما أن عرفوا بمقتله.
حين غادرت ابنة سميرة مع زوجها إلى الرقة كانت “عروساً” على ما قالت الأم، وهناك أنجبت بناتها الخمس. مات الزوج في إحدى المعارك عام 2016، وانتقلت الزوجة مع بناتها إلى مخيم روج بالقرب من مدينة القامشلي. سميرة تحمل صور الطفلات الخمس إلى العاصمة تونس كل أسبوع للمشاركة في اعتصامٍ دوري لأهالي العالقين التونسيين في مناطق النزاع.
سميرة التي زوجت ابنتها في عمر الثامنة عشرة، وهي اليوم تبلغ الخامسة والعشرين من العمر، تقول إنها هي نفسها تزوجت بسن أصغر من سن زواج ابنتها. كان الزوج، الصهر، يعمل في تركيب الـ”فو بلافون”، وبعد أشهر قليلة من الزواج “خرج إلى سوريا”، ولحقت به زوجته بعد نحو شهر. وسميرة أكدت أنها ما كانت تعرف أن ابنتها تنوي اللحاق بزوجها، وأنه لم يكن لديها جواز سفر. قالت الأم الجدة: “ثمة من تولى تزويدها بجواز سفر ودفع أكلاف الرحلة”.
كثيرات في العالية يسعين إلى استعادة بناتهن وأحفادهن من مخيمات شمال سوريا. التقينا بأربع سيدات هن جدات لعشرة أطفال عالقين مع أمهاتهم في هذه المخيمات. تحمل الجدات صور الأحفاد، ويخفين صور الأمهات. وحين سألناهن عن صور بناتهن، عرضت اثنتان منهن صوراً لبناتهما قبل أن يلتحقن بأزواجهن في الرقة! ومثلما يتنصل معظم التونسيين من المسؤولية عن سفر أكثر من خمسة آلاف تونسي للقتال في سوريا والعراق وليبيا، تجهد الأمهات الجدات لتقديم رواية عن “خروج العائلات” لا أثر فيها لمسؤوليتهن عما ارتكبه الأصهار والأبناء والبنات. كل الوقائع التي سبقت مغادرة بناتهن مع أزواجهن إلى “الجهاد” كانت تحصل بعيداً من أعينهن، وكان ثمة غرباء يتولون إعداد كل شيء.
لم يكن التجنيد و”التسفير” في سنوات الترويكا، مهمة شاقة. الدعاة السلفيون تحولوا إلى ظاهرة مرئية في المشهد التونسي العام. قانون العفو أخرج آلاف السلفيين من السجن، وأتاح عودة المئات منهم من الخارج. وفي حينها سيطر السلفيون الجهاديون على 400 مسجد في مختلف أنحاء البلاد كما يقول المتخصص في شؤون الجماعات الجهادية، وصاحب كتاب “كنت في الرقة” هادي يحمد. وفي هذا الوقت، تقاطرت جمعيات سعودية وقطرية إلى تونس، يؤكد مسؤولون تونسيون أنها تولت تمويل التسفير إلى سوريا. وساد تعبير شاع في الصحف وفي اللغة اليومية في حينها هو “المخيمات الدعوية” التي كان يقيمها دعاة سلفيون وكانت تحصل فيها على نحو شبه علني عمليات التسفير إلى الخارج. وفي مناطق ليست بعيدة من تونس، أنشئت هيئات شبه عسكرية مثل الشرطة السلفية. حدث ذلك في أعقاب الثورة، وبعد قانون العفو الذي فتح “الجهاد” على مصراعيه في تونس.
العالية بلدة من عشرات القصبات التونسية التي خضعت للتجنيد بهدف “الجهاد في الخارج”. ثمة مسجد في أعالي البلدة حصلت فيه معظم وقائع التجنيد على ما تقول الجدات اللواتي التقاهن “درج”. في العالية توفرت ظروف كثيرة أنضجت شروط “الخروج”، هي نفسها شروط “الحراقة”، إنما يضاف إليها توفر بؤرة حرب في الخارج. البطالة ظاهرة مرئية في العالية، وقرب البلدة من مدينة بنزرت، ضاعف احتكاك العاطلين من العمل من فرص شغل غير متاحة في بلدتهم. فمن سمات “الجهادي التونسي” بحسب هادي يحمد أنه ابن ضاحية أو قصبة على تخوم مدينة كبرى، منطقة التضامن ودوار هيشر في محيط العاصمة، وبلدات العالية ومنزل بورقيبة وسجنين في محيط بنزرت.
شهيدة الطرابلسي أيضاً جدة لثلاثة أحفاد عالقين مع أمهم في مخيم عين عيسى القريب من مدينة الرقة في شمال سوريا. وحدها شهيدة من بين الجدات اللواتي التقيناهن في العالية، لم يقتل صهرها، لكن المفارقة أن الصهر تمكن من الوصول إلى تونس وتسليم نفسه إلى السلطات فيها، فيما زوجته وأبناؤه الثلاثة عالقون في سوريا! قالت شهيدة إنها عندما علمت بأن صهرها صار في تونس، توجهت إلى مقر الشرطة وقالت لهم إن ابنتها الحامل عالقة في سوريا وترغب في العودة، فقالوا لها اذهبي إلى المنزل وانتظري وسنعود إليك لاحقاً. مضى على هذه الواقعة أكثر من سنة ولم تسمع شهيدة أي خبر عما وُعدت به!
لا أحد في تونس يشعر بأن قضية آلاف التونسيين من الأطفال والنساء والرجال العالقين في مناطق النزاع أمر يجب أن تكاشف تونس نفسها به. الإجابة البديهية للتونسي غير المعني عائلياً بهذه الظاهرة هي أنه يجب منعهم من العودة إلى تونس. المسؤولون الرسميون يقولون ذلك همساً، فيما مستشاروهم يقولونها بصراحة. فناجي جلول مدير المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، وهو معهد تابع لرئاسة الجمهورية قال لـ”درج”: “أنا موقفي الشخصي ألا يعودوا إلى تونس! الدول التي ساهمت بتسفيرهم عليها أن تأويهم. وكلنا يعرف من هي هذه الدول”. ورداً على سؤال حول مسؤولية مجتمعات أخرى عن ظاهرة ولدت في تونس قال: “هناك وضع قانوني عالمي يسمى البدون. هؤلاء لا يحملون أي جنسية، وهم موجودون بالآلاف!”.
ناجي جلول وهو موظف برتبة وزير وترشح إلى منصب رئيس الجمهورية في الانتخابات الأخيرة، ليس وحده من يعتقد بضرورة ألا تسمح تونس لـ”جهادييها” وزوجاتهم بالعودة، فهذه الظاهرة على ضخامتها هي أحد المعضلات التي لا يرغب أحد في تونس في مكاشفة نفسه بها. العلمانيون لا يريدون التعامل معها من موقعهم الرافض جذرياً للنموذج الإسلامي بكل مظاهره، والإسلاميون الذين يعرفون أن الظاهرة تشكلت برعايتهم وبتسهيل منهم، يعرفون أن طرحها للنقاش والتفكير العام سيكشف حجم تورطهم فيها. الجميع يقذف بكرة العالقين في مناطق النزاع إلى خارج ملعبه، والجميع لا يريد حلاً لمشكلة يعتقدون أنها ما زالت خارج تونس، لأن شخصيات هذه المشكلة خارج البلد.
لكن في مقابل هذا النكران الذي تمارسه تونس حيال أحد مآزقها الوطنية، هناك حقائق ثقيلة، لا تبدو منطقية مواجهتها بما يقترحه الموظف برتبة وزير ناجي جلول، فمخيمات العزل في شمال سوريا تضم قصصاً ستعيد تجديد شروط التجنيد إذا لم يتم التعامل معها. القصة تتجاوز شباناً التحقوا بـ”داعش” ونساء صرن أرامل في مخيمات خارج البلاد. هناك الأطفال، وهؤلاء بالمئات وربما بالآلاف، وهم اليوم يعيشون في أشد الظروف قسوة. فلفتحية بن طه (52 سنةً) حفيدان يعيشان في مخيم الهول من دون أمهما وأبيهما اللذين قتلا أثناء المعارك في الرقة. الطفلان يعيشان اليوم عند عائلة تونسية تمكنت من تهريبهما معها إلى مخيم الهول. العائلة التي أوت الطفلين من بلدة العالية أيضاً، ذاك أن الروابط البلدية والمحلية استمرت تشتغل في الرقة التي غادر إليها التونسيون حاملين معهم صلات الدم والقرابة والجهة. ومرة أخرى تتولى فتحية، جدة الطفلين لجهة أمهما، المطالبة بإعادتهما إلى تونس، فيما عائلة الأب غير مكترثة لمصير حفيديها.
وهرباً من الحقيقة، لم تحصِ تونس عدد أبنائها الذين غادروا للقتال في الخارج. الأرقام تبدأ بـ3 آلاف مقاتل، وهو الرقم الرسمي الذي يقول مسؤولون إنه رقم مخفض وغير واقعي، إلى 5 آلاف وهو الرقم الذي تتبناه جهات شبه رسمية مثل المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، فيما تصل تقديرات مؤسسات بحث دولية إلى أن هناك نحو 0 آلاف مقاتل تونسي يتوزعون بين سوريا والعراق وليبيا.
هذا التفاوت في الأرقام سببه رغبة “الحداثويين” التونسيين في نكران حقيقة ولادة مسخ تكفيري في بلدهم، ورغبة الإسلاميين من جماعة حركة النهضة في حجب الأنظار عما ارتكبت أياديهم خلال فترة حكمهم بين العامين 2012 و2014، لكن المشتغلين حول هذا الملف من صحافيين وباحثين يجزمون بأن إشاحة النظر عن هذه الظاهرة سيكون باهظاً، وشروط ولادة أجيال جديدة من المتطرفين ما زالت موجودة، ما عدا شرطين، الأول أن تعود حركة النهضة إلى السلطة، والثاني أن تولد بؤرة توتر وحرب جديدة خارج الحدود. الشرط الأول مرتبط بحصول انتخابات تفوز بها النهضة، وهو أمر وارد في ظل فشل خصومها، والشرط الثاني ما زال مؤمناً في ليبيا، وربما تتاح له فرصاً أخرى في الجزائر مثلاً. وعندها سينبعث المقاتلون الذين اختفوا بين كثبان الصحارى السورية والعراقية والليبية، وسيستدعون إخواناً لهم من تونس، وسيصبح الخمسة آلاف خمسين ألفاً، وستنعم تونس بسرٍ أكبر من السر الذي تخفيه اليوم.
التحقيق تم بدعم من مؤسسة National Endowment for Democracy NED
المصنع: سيرة صدام الجمل من تهريب التبغ الى قيادي في داعش كما يرويها من سجنه ل”درج”