لم يكن قد مضى وقت يُذكر على تفجيرات “البيجرز” حين بدأت المنشورات الشامتة تطلّ من بين الكم الهائل من المنشورات المتضامنة والمستنكرة في وسائل التواصل الاجتماعي. في البداية كانت خجولة معزولة، لكنها سرعان ما ازدادت وتوسعت وكأنما استمدت من بعضها قوة وجرأة!
لم تردع المنشورات الحرب الإسرائيلية المجنونة التي شرعت تقصف وتدمر وتقتل في جنوب لبنان وبقاعه وحتى بيروت ومناطق عدة، من دون تمييز بين مدني ومقاتل.
تطمئن نفسك قائلاً إن كاتبي عبارات الشماتة هم على الأرجح حفنة من المستظرفين المتهافتين على اللايكات، أو هم بعض الطائفيين الذين لا تدري كيف تسللوا إلى صفحتك…
لكنك عندما ترى مثلها عند أصدقاءَ تستغرب، فهؤلاء تعرفهم جيداً ولا يمكن بحال من الأحوال أن يصنّفوا ضمن الثنائيات المسطحة المطلقة، ثنائيات الخير والشر، الحق والباطل. هناك حتماً تفسير آخر، لكنك لا تراه لأن انفعالك أو انفعالاتك المتناقضة، في هذه اللحظة الحرجة، تعيق الرؤية.
تفعل ما تتقن فعله عندما يغلبك الشعور ويغمرك التأثر، تذهب إلى البحث عن إجابات تتخطى الاستنكار والشجب والإدانة. أنت تريد أن تعرف لماذا. لماذا عوضاً عن التعاطف أمام مشهد مؤلم يجد أحدهم في نفسه قدرة على التشفي. لماذا يضحكه المشهد نفسه الذي آلمك وأبكاك؟ ألم يشرح لك العلم إننا، تطوّريّاً، مجهّزون لكي نشعر مع الآخر؟ ما الذي جرى مع هؤلاء؟.
تلوذ بالعلم تسأله، هذه المرة، عن الشماتة فيجيبك إنها شعور باللذة أو الاكتفاء أو الفرح إزاء سوء حظ أو فشل أو ألم آخرين، وهي ليست مجرد رد فعل سلبي، إنما ظاهرة نفسية معقّدة ذات أوجه متعددة شغلت الباحثين لعقود، تشمل مروحة من الأحاسيس، بدءاً من شعور خفي بالغبطة وصولاً الى التعبير بشكل احتفالي عن الفرح تشفيّاً بمصيبة آخر. وهي غالباً تظهر عندما يُنظر إلى الآخر على أنه يستحق ما لحق به، ولا تظهر إلا في غياب التعاطف الناتج عن فشل التماهي مع الآخر. طبقات من التعقيدات تحتاج إلى تفكيك.
تبدأ بالآباء المحللين، المؤسسين لعلم النفس، فتجد أن فرويد اعتبرها جزءاً من المشاعر الإنسانية الطبيعية، حيث أشار في نظريته حول الغرائز إلى أن الشماتة تعكس الرغبات العدوانية، واعتبر أنها تشكّل وسيلة لتعويض النقص. بدوره يونغ اعتبرها تعبيراً عن الظل، أي الجوانب المظلمة من النفس التي يتم إسقاطها على الآخر. أما أدلر فقد ركّز على الشعور بالنقص واعتبر الشماتة جزءاً من السعي إلى تأكيد الذات والتفوق، خاصة عندما يشعر الشخص بالضعف.
تنتقل إلى الباحثين المعاصرين فتجد الكثير من النظريات التي تناولت الشماتة كظاهرة نفسية اجتماعية، وبحثت في أسبابها وظروفها وكذلك في أدوارها. فتستوقفك العديد من الأفكار المطروحة التي يبدو وكأنها تجيب عن سؤالك القلق.
تستخلص أنه بالإضافة الى وظيفتي تفريغ العدوانية والتعويض عن النقص، تلعب الشماتة دورين مهمين، أولهما تعزيز الهوية الاجتماعية حيث يشرح هنري تاجفيل عالم نفس اجتماعي بولندي، أن الشماتة تشكل جزءاً من ديناميات الهوية الجماعية التي تعزّز شعور الأفراد بالانتماء إلى جماعتهم من خلال مقارنة أنفسهم بالآخرين، مما يقوي الروابط داخل جماعة عبر إعلان الاختلاف والتمايز عن الجماعة الأخرى. تأتي الشماتة في هذا السياق التنافسي لتخلق شعوراً، ولو مؤقتاً، بالتفوق، وهو شعور مرضي لأنه يعني بالنسبة إلى حامله أن فرصه في الحصول على الموارد والمكانة، وبالتالي فرصه في البقاء، ازدادت عندما ضعف منافسه.
نحن إذاً نحتاج إلى التمايز عن الآخر لنتمكن من الشماتة به، وهذا أمر بديهي بما أن التعاطف يبدأ بالتماهي معه، فنحن لا نتعاطف مع الآخر بصفته آخر، إنما نتعاطف مع أنفسنا التي رأيناها عندما نظرنا إليه فشكّل مرآة عاكسة لنا. أما فشل التماهي مع الآخر فله أسباب عديدة منها التركيز على نقاط الاختلاف معه. من هنا نستطيع أن نفهم ما تفعله المقارنات بين الثقافات والقيم والعادات المختلفة، التي كلما ضاقت معاييرها كلما اتسعت الهوة بين الـ “نحن” والـ”هم” الذين لا يشبهوننا والذين نرسم في مخيلاتنا صوراً وهمية لهم من وحي هواماتنا المخيفة، التي قد توصل في الحالات القصوى إلى نزع الصفة الإنسانية عنهم وحتى شيطنتهم وإعدام أي شعور بالتعاطف تجاههم، فلا يعود يؤلمنا ما ينزل بهم من ضروب الإيلام لأنهم في إدراكنا ينتمون إلى نوع مختلف، نوع ربما يهدّد وجودنا.
إقرأوا أيضاً:
إذا ربطنا ما سبق مع ما جرى في الأيام الماضية لانتبهنا كيف استخدم خطاب الشبه أو عدمه عند التعبير عن التعاطف أو تبرير عدم التعاطف وربما الشماتة. فركز المتعاطفون مع المستهدفين بجريمة تفجير “البيجرز” على أوجه الشبه مع هؤلاء، لم يعودوا “محاربين” مجهولين يمارسون أعمالهم في سرية. كُشف النقاب عن وجوههم وهوياتهم فرأى المتعاطفون فيهم جاراً وقريباً، وقد أصيبوا وهم بين الناس لأنهم جزء من نسيج هذا المجتمع. رأوا فيهم أشباهاً، وفي لحظة تماهوا معهم ووضعوا أنفسهم في مكانهم ومكان أحبابهم وشعروا معهم.
في المقلب الآخر من ركّز على الاختلاف، عجز عن التعاطف، فعبّر البعض مثلاً عن استغرابه من تصريح صادق النابلسي على سبيل المثال عندما قال إن “السماء تمنحنا المزيد من الشهداء… يا لها من نعمة” وتساءل لما سيتعاطف مع من يحتفل بما أصابه!.
إذا تأملنا النقاشات والسجالات، عبر وسائل التواصل، للاحظنا أن الأوراق اختلطت وتغيرت القسمة وتعدلت تموضعات كثيرين تبعاً للموقف المتعاطف أو الشامت، فعلى سبيل المثال شهدنا كيف نعت بعض المعارضين ل”حزب الله” حلفاء سابقين لهم بـ “الممانعين الجدد”، لأن هؤلاء تغاضوا عن خصومتهم مع “حزب الله” وتعاطفوا مع بيئته الحاضنة، فتضامنوا معه في وجه إسرائيل، “عدوهم الذي لم يضيعوا بوصلته”.
الدور الآخر الذي تلعبه الشماتة هو تحقيق “العدالة” وإعادة التوازن من وجهة نظر “المظلومين”، وقد أشار فوكو إلى أن الشماتة قد تكون وسيلة الضعفاء لاستعادة قوتهم عندما يرون من ظلمهم يعاني. هي إذاً شكل من أشكال العدالة الذاتية، تُشعر المظلوم بأن الظالمين حصلوا على ما يستحقونه من قصاص، مما يعزّز من شعوره بالأمان والإنصاف.
وقد ظهر ذلك بوضوح في تصريحات خصوم “حزب الله” اللبنانيين ومنشوراتهم، وتحديداً أبناء بيئته نفسها، الذين تعرّض بعضهم للتخوين من قبل مناصريه. هؤلاء برّروا قائلين إن البادي أظلم وإن جمهور الحزب سبقهم الى الشماتة، فوصل الى حد توزيع البقلاوة على الطرقات احتفالًا باغتيالات في صفوفهم. لكن المفارقة تكمن في أن هؤلاء مارسوا السلوك الذي اشتكوا منه، مطبقين شريعة العين بالعين التي توصل إلى العمى!.
أما من انزلق إلى هذا من بعض المعارضين السوريين، فهؤلاء لم يعودوا يرون في الحزب خصماً إنما عدو، وحيث أن الشماتة بالأعداء هي ثقافة عامة يمارسها الجميع، فكان من البديهي بالنسبة إليهم أن يمارسوها كحق. الغريب هنا هو ردة فعل جمهور الحزب المستغربة، وكأنما يكتشفون لأول مرة أن ثمة من يعتبر الحزب عدوّاً. وهذا الاستغراب يفضح أمراً غايةً في الأهمية، وهو عجز هؤلاء عن إدراك أن ثمة آخر يرى الأمور من زاويته، ولديه وجهة نظر مختلفة، وبالتالي فإن ما يرونه خيراً ليس كذلك بالنسبة إلى هذا الآخر. لكن إدراك ذلك يتطلب اقتناعاً بنسبية الأمور وبعدم وجود حقائق مطلقة. وهو أمر من الواضح أنه غير وارد، بدليل أن شعار “العمالة ليست وجهة نظر” لا يزال يُشهر في وجه كل مختلف.
يبقى أن الاعتراض والنقد والتساؤل عن الجدوى والدعوة إلى وقف النزف والمطالبة بالمشاركة في النقاش حول قرارات مصيرية، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعدّ من قبيل الشماتة، ذلك لأن تعريف الشماتة يتطلب حتماً وجود شعور بالفرح واللذة ونشوة النصر. أما المعارضون فيشعرون بالألم والخسارة والعجز وما اعتراضاتهم إلا محاولات لوقف ما يرونه عبثاً.
في الختام يكذب من يقول إنه لا يشمت، كلنا شمتنا يوماً بخصمٍ رسب، فريق منافس خسر أو مسؤول تعثّر… وما إدانة الشامتين إلا محاولة للتطهر، وهي أولية دفاعية تهدف إلى السيطرة على قلقنا من عدوانيتنا وقدرتنا على الإيذاء ولو هواميّاً، فنُسقط بشكل لا واعٍ ما فينا على الآخرين وننبذه لديهم علّنا نبرأ منه لكي نطمئن إلى صفائنا.
كلّنا شمتنا بطريقة أو بأخرى ولكن قلّة قليلة منا فقط بقيت على تهكّمها وتشفّيها في مواجهة الدماء أو ربما الأصح رغم الدماء، خاصة الدماء التي أراقتها جرائم ترقى لتكون جرائم ضد الإنسانية.
إقرأوا أيضاً: