الوثائقي هو فيلم أو سلسلة حلقات تقدم تقريراً دقيقاً عن موضوع معين، غالباً ما يكون مصحوباً بمقابلات وأخبار ورواية. كلمات ذات صلة: استوثق، استيثاق، ايثاق…
هذا بحسب المعجم، لكن وفق الاستخدام، الوثائقي، كسائر أدوات وسائل الإعلام، يصبح أداةً لنشر قيم ممولي إنتاجه وأفكارهم. منها وثائقي نيتفليكس “المطارد الليلي” الذي يروي بأربع حلقات قصة مطاردة عناصر من شرطة لوس أنجليس قاتلاً متسللاً ارتكب جرائم عابرة للولايات خلال ثمانينات القرن الماضي.
الوثائقي يتضمن حياة أحد عناصر الشرطة الذي حقق بالجريمة ووجد بينه وبين المجرم نقطة تشابه باللهجة كون المحقق مكسيكي الأصل وترعرع في الشوارع الفقيرة ذات الغالبية اللاتينية كما تذكر لنا الحلقة الأخيرة. إلا أن الشرطي تسنت له فرصة الالتحاق بالجيش الأميركي ومن ثم السفر إلى فييتنام والالتحاق بالجامعة بعدها. أما عن حياة القاتل، فلا يذكر الوثائقي الكثير.
يسرد الوثائقي حياة الضحايا وعائلاتهم ومآسيهم ويعرض فيديوات من مقابلات مصورة خلال تغطية التلفزيون الجرائم.
يكمل الوثائقي ليخبرنا عن تتابع الجرائم كالسرقة ومحاولات القتل والقتل بعينه والتحرش والبيدوفيليا والاغتصاب المبررة بعبادة الشيطان، ولا يجد متسعاً من الوقت ليخبرنا عن هوية الوسيم الملقب بالمطارد الليلي ريتشارد راميريز وطفولته، إذ يبقى مجهول الهوية إلا من حذاء Avia، الذي انتعله خلال الـ166 يوماً التي أمضتها الشرطة باحثة عنه. كما استخدمه المحققون لتتبع آثاره بعد غياب بصماته عن مسارح الجرائم.
يسرد الوثائقي حياة الضحايا وعائلاتهم ومآسيهم ويعرض فيديوات من مقابلات مصورة خلال تغطية التلفزيون الجرائم. كما يبين الأغراض التي سرقها المطارد وتصميم البيت من الداخل وهندسته، لكنه يكتفي بثلاث جمل قالها المطارد بعد تلقيه حكم الموت اختناقاً بالغاز، إثر ثبوت 43 حكماً عليه: “لست بحاجة لسماع حجج المجتمع. سمعتها كلها، لكن الحقيقة تبقى واحدة: لا تفهموني ولا أتوقع أن تفهموا لأنكم لا تستطيعون. أفوق تجاربكم لأنني أفوق الخير والشر”. إضافة إلى مقتطف من مقابلته مع الكاتب فيليب كارلو الذي سأله إن كان الإنسان يولد قاتلاً أو يصبح كذلك، فيرد ريتشارد: “إن كنت تسجل المحادثة تأكد من إتلاف الشريط عندما ننتهي ولا تجعلني أبدو بصورة بشعة”.
حكم الإعدام لم ينفذ، بل حبس المطارد 20 سنة قبل أن يموت بالسرطان الذي وصفته الصحافية التي نقلت الأحداث آنذاك بـ”النعمة” بالنسبة إليه، بينما تأنقت بقرطين غاليين وتسريحة شعر جميلة أمام الكاميرا في محاولة لاستعادة بريق الشباب. وانهى أحد الشرطيين اللذين حلا أصعب قضية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، بحسب ادعائهما، بوسائل بسيطة وغير ديجيتالية بجواب عن سؤال “ما الذي قد يدفع شخصاً إلى القيام بعمل كهذا؟”، بجواب أن الشر موجود لذلك يصلي ليليا باسم الآب والابن والروح القدس لكثيرين بأسماء كثيرة ينهيها دائماً باسم ريتشارد راميريز.
بعض أهالي الضحايا حقدوا على ريتشارد ومن اقتدى به من الشبان والشابات المتأثرين بالقضية وخصوصاً الشابات اللواتي أُرسلت صورهن شبه عاريات للمجرم، أثناء مكوثه في السجن. وقد سامح آخرون المطارد لأن الكنيسة علمتهم المسامحة. وعبرت ضحية عن انها تحسنت لأنها لا تريد أن تحوّلها البيدوفيليا إلى نسخة عن ريتشارد راميريز.
إقرأوا أيضاً:
الحقيقة أننا لا نعرف بالتفصيل ما حوّل ريتشارد راميريز إلى مجرم، لأن ذلك بنظر المنتجين ليس مهماً، لكننا نعرف أن الانحراف بشتى أنواعه يتشعب من مصدر واحد: الفقر. منتجو هذا الوثائقي لم يخبرونا عن طفولة ريتشارد الكثير وما ذكروه باقتضاب يلخص بأنه رأى صور فتيات عاريات على هاتف أحد أقاربه العائد من حرب فييتنام. وشهد الفقر والتهميش في أحياء مكسيكية صغيرة واختبر التسرب المدرسي والاستقلال عن عائلته في سن مبكرة، ما دفعه إلى السرقة لتأمين قوت يومه بنفسه.
يصور الوثائقي حرب فييتنام التي هذّبت نفس الشرطي المكسيكي ورسمت طريق نجاحه على أنها نقطة بلوغ لغيره وأول إثارة جنسية دفعته لاحقاً إلى تجميع صور جنسية لإناث. والأحياء ذاتها التي تغلب عليها الشرطي ليصبح ضابط العدالة في المجتمع دفعت المطارد إلى القتل والسرقة. وبهذا المنطق يُلام ريتشارد على فقره ويُطلَب منه تحمل أعباء الفقر في دولة تسوّق يومياً أهمية الربح وتكديس الثروات مبررة الوسيلة بالغاية.
هذه الثقافة تدفع المهمشين والفقراء للقيام بأي عمل يدر على جيوبهم بالمال غير آبهين بالقوانين والاحكام والاخلاق. فتخلق وسائل الإعلام المشكلة، وهي الثقافة السائدة هنا، من جهة، ثم تحاسب المرتكبين من جهة أخرى وتوثق مأساتهم المتنكرة بالجرائم ليكونوا عبرة لغيرهم من فقراء الأجيال الآتية، الذين قد يتجرأون على تبيان وجه النظام الحقيقي عوضاً عن أن يكون ريتشارد وأمثاله درساً للحكومات المتعاقبة لمساعدتها على فهم المعادلة السوسيولوجية البسيطة: التفاوت يولد حقداً لدى أبناء الطبقات الفقيرة يترجم بأعمال خارقة للقانون لأن الإنسان يريد أن يشعر الآخرون بما يشعر به.
الوثائقي قارن بين الضحية التي “حولت مأساتها إلى نجاح عبر تحدي الظروف الصعبة”، وتلك التي “لم تقو على المقاومة أو التي لم تعمل لتحقيق أهدافها، أو التي لم تكن قادرة على شق طريقها وسط المنافسة السليمة التي تحث جميع أطراف المجتمع على الكد لتحقيق أهدافهم، والسعي نحو التحسن الدائم وتطوير الذات”. وربما يكون الاثنان ضحايا. ربما الضحايا كثر في هذا الوثائقي، ولا يقتصر الأمر على القتلى والمتحرش بهن والمسروقين والمهددين وعائلاتهم والمطارد الليلي وحسب، بل إن القائمة قد تطول لتشمل قريب المطارد الذي حارب في فييتنام والشرطي الذي فعل ذلك أيضاً، والفتيات اللواتي صورن معذبات وشوهدن كذلك بلا موافقتهن. لكن حرب فييتنام بالنسبة إلى المنتجين عادية لذا لم يتم التطرق إليها، وربما يمكننا أن نستخلص من الوثائقي امكانية كوننا جميعاً ضحايا لفكرة تحديد قيمتنا وفق موقعنا الطبقي.
الجرائم غير مبررة والمجرم يجب أن يلقى عقابه، لكن فصل المجرم عن المجتمع هو اختزال غير واقعي وغير مجد في طور حل التفاوت الطبقي. مسؤوليتنا تكمن بامتناعنا عن خلق مجتمعات تشجع على الانحراف بازدواجية معايير، تسمح لنا بالتصفيق للمليونير الذي يستغل أطفال أفريقيا، بينما يغير العالم، وبشتم القاتل والسارق. وبامتناعنا عن محاولاتنا المتكررة وغير المجدية بالطبطبة على أكتاف الكادحين، الذين بالكاد يعثرون على لقمة عيشهم، بأساليب دينية محضة تتلخص بقداس الأحد في الكنيسة التي تعلم تسامح المسيح لكنها لا تقو على تعليم ثورته على الظلم وعصيانه على التفاوت وتمرده على السلطة بينما لا يحصل كثيرون منا على خبزهم كفاة يومهم. وإلا نكون شركاء بجرائم أخلاقية ثلاث: جريمة صنع أمل بلا عمل ونحن نعي أن الأمل لا يولد من عدم. وجريمة لوم الضحية. وجريمة تجزيء تعاليم المسيح بحيث لا تشمل المقاومة وتكتفي بإدارة الخد بينما النظام يصفع كثيرين يومياً.
عبر تحويل الصراع الطبقي وتهميش اللاجئين إلى صراع الخير والشر، يتحول الوثائقي الى فيلم “ديزني”، هدفه إظهار انتصار العدالة والحق المتمثلين بأحد أركان النظام وحاميه الاساسي أي الشرطة، بيد أن عائلة جورج فلويد وغيرها من ضحايا وحشية الشرطة تشهد بغير ذلك، وأركان النظام الأخرى كالمحكمة والإعلام المتمثل بالصحافية التي مكنت العالم من متابعة الخبر، إضافة إلى السياسيين الذين حاولوا مد الشرطة بالمساعدة، على قوى عبدة الشياطين والشرور المتمثلة بالمطارد الليلي، ما يعيد إلى أذهاننا مطلع قصيدة أمل دنقل “كلمات سبارتاكوس الأخيرة” المستوحاة من ثقافة الشعب نفسه: “المجد للشيطان معبود الرياح”.
إقرأوا أيضاً: