بدأ هجوم قوات المعارضة السورية المتشددة في عملية واسعة أطلقت عليها تسمية “ردع العدوان”، وتحت راية “إدارة العمليات العسكرية المشتركة”، في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024. بررت قوى المعارضة المسلحة إطلاق العملية بتوجيه “ضربة استباقية” لقوات النظام السوري، وعلّلت تسميتها “ردع العدوان” بعد تعرّض مناطق سيطرة المعارضة لقصف مدفعي وجوي يومي عنيف من قبل قوات النظام والقوات الجوية الروسية لفترة أسابيع، على الرغم من أن التجهيز العسكري لعملية بهذا الحجم يتطلب سنوات.
تزامن انطلاق العملية التي تجاوز عدد القتلى من الطرفين فيها 300 شخص حتى الآن، مع بدء تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، ما أثار شكوكاً عديدة، وخرجت إلى العلن عدة نظريات متناقضة حول أسباب الهجوم، وبدأت مجموعات ومواقع التواصل الاجتماعي بتناقل العديد من الإشاعات والمقاطع المفبركة حول المسألة. لكن هذه العملية سرعان ما تحوّلت من اختراقات لخطوط قوات النظام الدفاعية إلى سيلٍ جارف اجتاح عشرات البلدات والمواقع الاستراتيجية والمنشآت والنقاط العسكرية الهامة وصولاً إلى مدينة حلب، التي تحوز أهمية اقتصادية وسياسية كبيرة، في ظرف 48 ساعة. هذا التقدم الكبير والمفاجئ، إذا ما قمنا بحصر مرحلته الأولى ضمن نطاق بلدات المنطقة العازلة بحسب اتفاقية سوتشي، ثم مرحلته الثانية بمدينة حلب، يطرح تساؤلات عدة حول المرحلة، أو المراحل، المقبلة.
بروتوكول سوتشي 2018 و”ازدواجيّة” الإعلام
أثارت عملية “ردع العدوان”، خصوصاً في ساعاتها الأولى، الحديث حول اتفاقية سوتشي، التي عُقدت في سبتمبر/أيلول 2018 بين تركيا وروسيا، وتُعتبر إحدى نقاط التحول في الصراع السوري حيث مكّنت قسماً كبيراً من قوى المعارضة السورية من المحافظة على وجودها العسكري وإعادة التنظيم بدعم وتسليح تركيين، وبتقنيات حديثة وأسلحة نوعية ومتطوّرة.
نصّت الاتفاقية على إقامة منطقة عازلة تركية-روسية منزوعة السلاح حول محافظة إدلب، بهدف خفض التصعيد، وبعمق يصل إلى 20 كم للفصل بين المناطق التي تسيطر عليها قوات المعارضة وتلك التي تسيطر عليها قوات النظام. تقريباً، تمتدُّ هذه المنطقة من مثلث حريتان-كفر حمزة-عندان في الشمال الغربي لريف حلب، مروراً بمثلث مورك-كفر زيتا-اللطامنة في ريف حماة الشمالي، وصولاً إلى المنطقة الواقعة بين غابات الفرنلق وكسب في ريف اللاذقية الشمالي.
بلغ عدد الخروقات لهذه الاتفاقية خلال الأشهر الستة الأولى فقط من إعلانها 4594 خرقاً، 4476 منها قامت به قوات النظام السوري، و84 خرقاً من قبل فصائل المعارضة المسلحة، و34 خرقاً روسياً، بحسب تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان في مارس/آذار 2019. فيما نفذت تركيا آنذاك سلسلة خروقات من نوعٍ آخر حيث قامت بإنشاء عدد من نقاط المراقبة غير المتفق عليها، وضمنت بقاء فصائل المعارضة المسلّحة ضمن المنطقة المعزولة قبل أن تسقط تدريجياً في قبضة قوات النظام.
منذ إعلان الاتفاقية، تصاعدت وتيرة الخروقات حتى صارت مجرد حبرٍ على ورق. قامت قوات النظام السوري، مدعومةً بالميليشيات الموالية لإيران والقوات الجوية الروسية، بالسيطرة على الجزء الأكبر من المنطقة المعزولة، ثم على عدد كبير من بلدات محافظة إدلب التي تتجاوز حدود تلك المنطقة، كما سيطرت على مدينة معرة النعمان ثاني أكبر مدن المحافظة في يناير/كانون الثاني 2020، ثم مدينة سراقب وبلدة كفرنبل في فبراير/شباط 2020. في المقابل، قامت قوات المعارضة بالسيطرة على الجزء الغربي من المنطقة المعزولة بدعمٍ تركي.
عملية “ردع العدوان” شكلت نقطة تحوّل تاريخية، وأرجعت في مرحلتها الأولى، بشكل أو بآخر، عقارب الزمن إلى الوراء إلى اتفاقية سوتشي 2018 (المنطقة العازلة الأولى) بقوة النار، وفي مرحلتها الثانية تجاوزت حدود الاتفاقية وسيطرت على مدينة حلب، ما يمكن اعتباره، في حال عدم التصعيد من قبل روسيا، ضغطاً حقيقياً للمرة الأولى منذ سنوات على النظام من أجل دفعه إلى تنفيذ القرار الدولي الرقم 2254 الصادر عام 2015 لفرض حلٍ سياسي شامل وإنهاء الصراع المسلّح وحقن دماء الآلاف.
كان واضحاً رفض النظام للتفاوض وعرقلته لكل مساعي الحل السياسي في كل مراحل وفصول الصراع السوري، قبل وبعد بروتوكول سوتشي. ولا يزال هذا الرفض قائماً حيث تُطلِق وسائل إعلام النظام تسمية “المجموعات الإرهابية” على كل فصائل المعارضة دون أي تمييزٍ بينها، بل حتى على “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا.
ويتشارك عدد من وسائل الإعلام اللبنانية هذا التوجه مع وسائل إعلام النظام، كقناة “الجديد” التي تحاول بسياستها الإعلامية الظهور بمظهر “الاعتدال”، وترفض ليل نهار صبغ حزب الله بصفة “الإرهاب” لأنه حزبٌ يُؤيده أكثر من ربع اللبنانيين ولديه نواب ووزراء من جهة، ويشكل قاعدته التنظيمية عددٌ كبير من أبناء الجنوب والبقاع من جهة أخرى.
سارعت هذه الوسائل الإعلامية لإطلاق صفة “الإرهاب” على آلاف السوريين الذين يقاتلون للعودة إلى مناطقهم، وقاموا حتى الآن بالسيطرة على مساحات واسعة جداً من الأرض في فترة قياسية لهذا السبب بالذات، إلى درجة أن مدينة حلب فتحت أبوابها لهم من دون مقاومة تذكر أو اشتباكات جديّة، وبدأ بعض أهلها يستقبلونهم بالحذر والترقبّ، قبل أن تفرض قوات المعارضة السورية حظراً مؤقتاً للتجول لحين إحكام السيطرة على المدينة.
نازحون مقاتلون
نتج عن هجمات النظام منذ عام 2019 موجات إضافية من النزوح باتجاه مدينة إدلب، التي أصبحت تعاني من كثافة سكانية تزيد أضعاف المرات عن قدرتها الاستيعابية، وتدهور كبير في الوضع الاقتصادي، وظروف حياتية قاسية، خاصة وأن مئات الآلاف من النازحين إليها يعيشون في الخيام التي لا تحميهم من المطر والبرد. يعيش في إدلب اليوم 5 مليون شخص، معظمهم من النازحين الذين قامت قوات النظام السوري أو تنظيم “داعش” (قبل سحقه) بتهجيرهم، وخاصة من مدينة حلب وريفها.
عشرات الآلاف ممن هُجِّروا من تلك المناطق يقاتلون الآن من أجل العودة. الدافع الأساسي لديهم، وما يجعلهم يقاتلون بشراسة منقطعة النظير، والسيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي في فترة زمنية قياسية، هو العودة إلى أرضهم، إلى جانب الهرب من جحيم إدلب المكتظّة بالسكان والعاجزة اقتصادياً. ومع غياب العائق المتمثل بالغطاء الجوي الروسي لمصلحة قوات النظام في الساعات الأولى للعملية، أصبح حلم العودة بالنسبة لهم حقيقة ملموسة تشكّل وقوداً لما هو أكبر من إعادة الحدود إلى ما كانت عليه عام 2018، وربما أخطر على المدى البعيد، في ظل وضعٍ شديد الحساسية في منطقة الشرق الأوسط التي تغلي على صفيحٍ ساخن.
الأمر نفسه ينطبق على منطقة تل رفعت والبلدات والقرى المحيطة بها الواقعة تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (الأكراد)، والتي يمكن أن تُفتح جبهتها على مصراعيها في المرحلة التالية بعد السيطرة على مدينة حلب. إذ إن جزءاً كبيراً من أهالي تلك المناطق مهجّرون ويسكنون في مخيمات على الحدود السورية-التركية، ويبلغ عددهم حوالي 250 ألف نسمة، والآلاف منهم قد تجنّدوا في فيالق “الجيش الوطني السوري”، لكن مثل هذا الهجوم المضاد قد يتسبب بموجة نزوح مضادة تتكون من عشرات الآلاف من الأكراد باتجاه شرقي سوريا، خاصة وأن “الجيش السوري الوطني” هو الذراع السوري للقوات المسلحة التركية التي تقوم بتصفية حسابات قومية وأمنية مع الأكراد.
الفخ الطائفي وخطاب مكافحة “الإرهاب”
يشكّل أبناء المناطق المهجّرة بعد فشل اتفاقية سوتشي جزءاً كبيراً من مقاتلي فصائل المعارضة المسلحة المنضوية تحت “إدارة العمليات المشتركة” في عملية “ردع العدوان”. وفي الوقت نفسه، يتم التركيز في وسائل الإعلام الموالية للنظام على عددٍ من المقاتلين الأجانب المنخرطين في القتال مع بعض الفصائل الإسلامية السنية المتشدّدة، لتصوير الأمر وكأنه هجمة “إرهابية داعشية” ضد “المناطق الوطنية السورية”، مع أن قوات النظام تستعين بدورها بعدد كبيرٍ من المقاتلين الأجانب المتشدّدين مذهبياً في حربها “الوطنية” ضد أكثر من نصف الشعب السوري، وما لبث لواء فاطميون الأفغاني الموالي لإيران أن تمركز في ريف حلب في محاولة أولية لصد الهجوم الكاسح، كما بدأت فصائل وميليشيات عراقية بالاحتشاد والتهديد بدخول الأراضي السورية.
بهذه الطريقة نفسها تتعامل السلطات التركية مع أكراد شمال سوريا، حيث تطلق وصف “الإرهاب” على كل تنظيماتهم السياسية والعسكرية، وبالأخص حزب العمال الكردستاني ومتفرعاته. وبهذا الاستخفاف تتعامل أيضاً المعارضة السورية مع مدينتي نبل والزهراء ذات الأغلبية الشيعية في ريف حلب، إذ تقوم بتصوير البلدتين وكأنهما تشكّلان خطراً داهماً لمجرد وجود الميليشيات الموالية لإيران فيهما، رغم أن تجنّب الاحتكاك مع البلدتين وعدم فرض الحصار عليهما في حال السيطرة على محيطهما في ريف حلب الشمالي، أمرٌ ممكن، بل وأيضاً ضروري، تجنباً لجولةٍ جديدة من التوترات الطائفية التي من شأنها أن تُشعِل عدداً من المناطق في الشرق الأوسط، وتتسبّب بسفك دم الأبرياء من السنّة والشيعة الذين لا ناقة لهم ولا جمل، وتفادياً لاستغلال إيران لمثل هذه التوترات لتعميق انخراطها الفتاك في النسيج الاجتماعي من باب “الدفاع عن الوجود الشيعي”.
الخطر السابق نبه منه الديكتاتور العراقي السابق صدام حسين منذ حرب الخليج الأولى، ولم تأخذه الأنظمة القومية والمجتمعات العربية المنفتحة بعض الشيء آنذاك على محمل الجد. فلم تكن الميليشيات الموالية لإيران لتتمركز بكثافة في مدينتي نبل والزهراء لولا حصار كفريا والفوعة من قبل الفصائل السنية المتشدّدة، والذي انتهى باتفاق المدن الأربع القاضي بتهجير آلاف الشيعة من كفريا والفوعة مقابل تهجير الآلاف من السنّة من مدينتي مضايا والزبداني، اللتين حاصرتهما قوات النظام والميليشيات الموالية لإيران في الوقت عينه.
تفشّي نظريات المؤامرة والدور الروسي
بدأت نظريات المؤامرة بالتفشّي في اليوم الثاني على عملية “ردع العدوان”، خاصة في لبنان، حيث بدأ الربط التلقائي بين تزامن العملية في شمال سوريا مع إعلان وقف إطلاق النار (أو الهدنة الهشّة لمدة 60 يوماً) في لبنان، سواء من جهة وصفه بالقرار الإسرائيلي، أو من جهة إعلانه مرحلة من مراحل “مشروع الشرق الأوسط الجديد”، تلك العبارة التي صارت تتردّد ببغائياً على لسان القاصي والداني، رغم أن القرار ببدء العملية تركي، مع “قبة باط” روسية واضحة لكن مؤقتة.
انسحبت الشرطة العسكرية الروسية من مطار منغ العسكري ومدينتي تل رفعت وحلب، ولم تتعرّض قوات المعارضة السورية لأي تهديدٍ جوي روسي جدي في أول 40 ساعة من العملية يمكن أن يؤخّر تقدمها أو يردعها، باستثناء غارة استهدفت مقراً لقوات “الجيش الوطني السوري” في مدينة مارع في ريف حلب الشمالي، وعدد قليل جداً من الغارات على مناطق في محافظة إدلب لم ينتج عنها ما يستحق الذكر. رغم أن الغارات الروسية قد تزايدت بشكل كبير في الساعات الأخيرة. كما أنه من الواضح أن القوات الروسية قد تفاجأت بحجم الهجوم وسرعته مما سيضطرها إلى البدء بالتدخل بشكل مباشر في مناطق معينة منعاً لتمدده باتجاه محافظة حماة.
هناك قرارٌ دولي مُجمَعٌ عليه شرقاً وغرباً بتحجيم النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط عبر إنهاء الميليشيات الموالية، وقد بدأنا في لبنان بدفع الثمن الباهظ لهذا القرار، فبلدنا الذي ارتبط أمنه عضوياً بأمن حزب الله بعد عقودٍ من تراكم القوّة بيد الحزب، أصبح الآن مشرّعاً على كل الاحتمالات الخطيرة ومكشوفاً أمنياً، في الوقت الذي يستمر فيه الانهيار الاقتصادي والمالي والشلل السياسي بالتفاقم. لم يعد القرار بإضعاف نفوذ إيران أميركياً-أوروبياً بحتاً منذ سبتمبر/أيلول الماضي. ولم نعد نرى عبارة “الشرق الأوسط الجديد” تتردّد بوجه المتغيرات الدولية سوى في وسائل الإعلام الخادمة للأجندة الإيرانية فقط.
مع العلم أن العبارة نفسها كان من الممكن استخدامها بوجه الأجندة الإيرانية من قبل الملايين من السوريين قبل غيرهم، فتلك الأجندة، التي اختبرتها شعوب المنطقة على المستوى العملي الملموس، ثبت أنها تتضمّن إحداث تحولات ديموغرافية عميقة وإقامة كانتونات طائفية مغلقة. أي أن الأجندة الإيرانية تصبّ في قلب “مشروع الشرق الأوسط الجديد”.
لم يخرج هذا المشروع المزعوم بشكل حقيقي بعد عن إطار نظرية المؤامرة، رغم رصد بعض المؤشرات غير الجدية. ولا معنى للتلويح بمجابهة هذا المشروع القائم على الفتنة من موقعٍ فتنوي متماثل في الجوهر والمضمون، أو كلما تحرّكت المياه الراكدة تحت أقدام من يموتون برداً في خيام اللجوء ويطمحون للعودة إلى بلداتهم، أو كلما تعالت صرخات من يئنّون تحت سياط الفقر أو أحذية العسكر البعثي. لا معنى لنقد مشاريع تقسيم طائفية من قبل حمَلة مشروع تقسيم طائفي. مثل هذا النقد تقوم به حركاتٌ علمانية ديمقراطية، لا حركات دينية أصولية أو قومية مستبدة تعيش في أوهام الماضي على حساب الواقع في الحاضر والمستقبل.
حتى في المناطق التي تقبع تحت سيطرة النظام، تقلّصت حالة الاحتضان للميليشيات الموالية لإيران إلى أقصى حد، وقد تقاطع هذا المزاج الشعبي الرافض لتزايد النفوذ الإيراني في سوريا مع سياسة روسية ممنهجة تقوم على تقليصه تدريجياً. شهدنا بأم العين تقاطع المصلحة الإسرائيلية مع المصلحة الروسية في جنوب سوريا حيث بدأت قوات النظام، بإيعاز روسي، بالتضييق على الوجود الإيراني المسلّح. ثم تفاقم مفعول هذا التوجه الروسي بعد التفاهم الأخير بين روسيا وتركيا، الذي كان من المفترض أن يتجه نحو خفض التصعيد، لكنه في الواقع يؤكد أن روسيا لم تعد ترضى بتزايد النفوذ الإيراني العسكري ضمن الأراضي السورية من أقصى الجنوب حتى أقصى الشمال، لدرجة الاستعداد لمقايضة بعض الأراضي الواقعة تحت حكم النظام عبر السماح للقوات المعارضة بالتقدم على حساب التواجد الإيراني، وبما يضمن تعزيز العلاقات التركية-الروسية بعد فترة من التدهور.
لكن في الوقت نفسه، وضع هذا التوجه الاستراتيجي النفوذ الروسي العسكري في موقعٍ حرج أيضاً، إذ إن قوات المعارضة المسلحة قد شعرت بتفوق كبير في الساعات الأولى من هجومها، وقد بدأت فصائل المعارضة في جنوب سوريا بإصدار بيانات التأييد والدعوة إلى التحرك بشكل أكبر ضد قوات النظام في عدد من المناطق، ما يعني أن الأمور آيلة إلى أن تخرج عن السيطرة بالنسبة للروس الذين راهنوا على تحجيم النفوذ الإيراني، بعد الانسحاب من الخطوط الأمامية للمواجهة وترك الميليشيات الموالية لإيران وقوات الأسد لتقاتل وتفرّ من المعارك من دون غطاء جوي حقيقي في وقت حاسم. وإذ بالروس يواجهون تحدياً جدياً وغير متوقع لنفوذهم، فالقوات التي كان ينبغي أن تقضم بلدات وقرى في ريف حلب لم تلبث أن طرقت أبواب مدينة حلب بقوةٍ هادرة.
مراحل “ردع العدوان”
يمكن تقسيم مراحل عملية “ردع العدوان” إلى مرحلتين حتى الآن. المرحلة الأولى اكتملت، وهي سيطرة قوات المعارضة على مناطق خفض التصعيد (اتفاقية سوتشي) التي اقتحمتها قوات النظام السوري منذ عام 2019، وهذه المرحلة قابلها صمتٌ سياسي دولي، وحظت بغطاءٍ تركي مع “تسهيلات” روسية، خاصة بعد فشل مفاوضات التطبيع بين النظام السوري وتركيا، واستمرار فشل جولات محادثات أستانة. وانتهت هذه المرحلة بعد وصول قوات المعارضة إلى غربي مدينة حلب حيث تمركز سلاح المدفعية وجرى التحضير للهجوم الأكبر.
أما المرحلة الثانية، فقد بدأت ملامحها بالتشكل بعد إحكام قوات المعارضة سيطرتها على الجزء الأكبر من مدينة حلب وانسحاب قوات النظام منها، ومن المتوقع أن يترافق معها هجوم من قبل فيالق “الجيش الوطني السوري”، بمشاركة محتملة من الجيش التركي، على مدينة تل رفعت والمناطق المحيطة بها التي لا تزال تقع تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”. وقد بدأ تحشيد القوات المقاتلة بالفعل على أطراف أعزاز ومارع وعفرين تحضيراً للهجوم. لكن اللافت هو أنه بالرغم من عدم وجود غطاء سياسي روسي معلن في منطقة تل رفعت، فإن انسحاب الشرطة العسكرية الروسية من تل رفعت وقاعدة منغ الجوية يشير إلى موافقة روسية مبدئية منذ 27 نوفمبر/تشرين الثاني على حصول الهجوم في الشمال.
وبعد اكتمال السيطرة على مدينة حلب، وهي الرئة الصناعية والتجارية للبلد كله، فإن سوريا برمتها ستتجه نحو أتون حربٍ جديدة طويلة الأمد، ومن الممكن أن تسقط كل الخطوط الحمراء التي يمكن أن تضعها السلطات التركية أو الروسية، ويبدأ خلطٌ جديد للأوراق. وبعد سقوط حلب بيد قوات المعارضة ستبدأ القوات الروسية بالمهاجمة بغارات جوية كثيفة، لأن الموس بدأ بالوصول إلى رقبة نظام الأسد وسيهدد قدرته على البقاء بشكل مباشر وستتخطى المسألة إضعاف الميليشيات الموالية لإيران.
وقبل ساعات أيضاً، أعلن “الجيش الوطني السوري” عن بدء عملية “فجر الحرية”، للسيطرة على ريف حلب الشرقي. ومن المحتمل أيضاً أن يبدأ هجوم مشترك من قبل “الجيش الوطني السوري” والجيش التركي على مدينة منبج الواقعة تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، في محاولة لوصل مناطق السيطرة التركية ببعضها بعضاً ومحاصرة كوباني (عين العرب) والمناطق المحيطة بها.
كل هذه التطورات العسكرية والسياسية في الشمال السوري تدل على وجود تخطيطٍ متقن واستغلال ماكر للحظة السياسية التاريخية المواتية من قبل قوى المعارضة السورية وتركيا، وهي ترتبط بشكل وثيق بتعرض حزب الله لضربات قاسية من جيش الاحتلال الإسرائيلي، لكنها لا ترتبط بقرار إسرائيلي ولا حتى أميركي، بل تركي وموافقة روسية، كما أنها ترتبط بتصاعد السخط الشعبي والعشائري ضد تواجد الميليشيات الموالية لإيران في منطقة البوكمال الاستراتيجية على الحدود السورية-العراقية، وبتفاقم المناخ الشعبي الانفصالي في محافظتي درعا والسويداء، وبإرادة الانتداب الروسي الذي ضاق ذرعاً بتزايد النفوذ الإيراني في سوريا لدرجة المخاطرة بنفوذه بالذات عبر السماح لقوات المعارضة بالتوغل داخل مساحات جغرافية واسعة من دون أي ردة فعلٍ أولية، بالإضافة إلى ترهل نظام الأسد تحت الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية، واستمرار السياسات الاستبدادية والاعتقالات العشوائية والتجنيد القسري، وضبابية السياسات الخارجية للنظام التي تبدو كالسير في حقلٍ من الألغام شديدة الانفجار.