fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

المعارك العشائريّة في العراق… فضّ النزاعات تحت تهديد السلاح

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

على الرغم من الجهود الحكومية لمكافحة النزاعات الاجتماعية التي تستخدم فيها الأسلحة بما فيها الدكة العشائرية، لكن نشطاء مدنيين ومراقبون للظاهرة، يشككون في نسبة التراجع المعلنة من الأجهزة الأمنية، ويؤكدون أن الكثير من النزاعات يبدو أنها لا تسجل.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

اعتقد بادئ الأمر أنه عالق في كابوس واحتاج إلى لحظات لكي يستفيق من الصدمة، ويستوعب وهو مرتعبٌ في سريره أن أصوات الرصاص التي يسمعها إنما تستهدف منزله وقد حطمت زجاج نوافذه، ولم يكن أمامه وأفراد أسرته سوى البقاء منبطحين على أرضية الغرفة لحين انتهاء الهجوم المباغت.

هذا ما عاشته أسرة تاجر المفروشات في منطقة الشورجة وسط بغداد (ع، هـ 63 سنة) فجر 16 كانون الثاني/ يناير 2024، إثر تعرّض منزلهم الكائن في منطقة الشعلة، إلى هجوم عشائري تحذيري (دكَة عشائرية) استُخدمت فيه أنواع مختلفة من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة. وهي هجمات تقع المئات منها سنوياً في جنوب البلاد ووسطها، بما فيه العاصمة بغداد، في مؤشر إلى عجز الدولة وأجهزتها عن تطبيق القانون. 

بدأت القصة في 26 حزيران/ يونيو 2022، عندما أبرم (ع،ه) اتفاقاً مع أحد زبائنه الشباب، بأن يبيعه بضاعة بقيمة 75 مليون دينار، بعد سداد 25 مليوناً، على أن يسدد المبلغ المتبقي، 50 مليوناً، خلال سنة، وذلك مقابل وصولات أمانة.

مع انقضاء السنة، تخلف الشاب عن سداد ما بذمّته، ولم يكن (ع.هـ) يلقى من زبونه غير”المماطلة والتهرب”، على حد تعبيره. وبعد نفاد صبره، لجأ إلى مركز الشرطة في منطقة الشعلة لتحرير شكوى مستنداً إلى وصولات الأمانة التي بحوزته، فأخذ الشاب المدين يتوسله ليسحب شكواه مقابل وعد بالسداد القريب. 

يضيف: “سحبتها بالفعل، لكنه ماطل مجدداً، وهذه المرة مع التهديد العشائري، وأخذ يوجه لي تحذيرات بأنني سأتعرض لدكَة عشائرية إن لم أتوقف عن المطالبة بحقي وسحب الشكوى الجديدة التي قدمتها ضده”. 

والدكَة العشائرية عُرفٌ يلبي بموجبه أفراد من عشيرة واحدة نداء فرد منها طلب مساعدتهم ضد شخص أو مجموعة من الأشخاص، فيجتمعون مسلحين ويتوجهون إلى منزل الخصم أو محل عمله لإبراز قوتهم وتحذيره من عواقب الاستمرار في العداء من خلال إطلاق النار الكثيف.

بعد تعرض منزله للهجوم المسلح، أصر (ع، هـ) على التوجه مجدداً إلى الشرطة، مدعوماً بتسجيلات كاميرات المراقبة المنزلية وشهادة عدد من الجيران، إيماناً منه بالقانون. لكن آخرين مروا بموقفه نفسه قد لا يمضون في ذلك الطريق خوفاً من النتائج، إذ تتطور غالبية قصص التدخلات العشائرية لحل الخلافات بعيداً عن القانون، الى نزاعات مسلحة يقع خلالها ضحايا. 

وتظهر الأرقام الرسمية حصول المئات من الاشتباكات نتيجة الممارسات العشائرية غير القانونية، وتحولها الى نزاعات دامية في ظل عجز الأجهزة الأمنية، ففي العامين 2023 و2024 سُجلت رسمياً 780 نزاعاً مسلحاً.

وشهدت هذه الهجمات تصاعداً كبيراً في العقدين الأخيرين في ظل انتشار الأسلحة وتزايد قوة العشائر مقابل تراجع قوة الدولة، وهو ما دعا مجلس القضاء الأعلى الى التعامل مع (الدكات العشائرية) بموجب قانون مكافحة الإرهاب، وذلك في بيان صدر عنه في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر2018.

جاء فيه أن “جرائم التهديد عبر ما يعرف بـ(الدكات العشائرية) تعد صورة من صور التهديد الإرهابي، وفق أحكام المادة 2 من قانون مكافحة الإرهاب”.

يؤكد قضاة ومسؤولون في الأجهزة الأمنية أن النزاعات العشائرية المسلحة بما فيها العرف المتمثل بـ(الدكَة)، ما زالت تشكل تهديداً للدولة ولسيادة القانون وهيبة الحكومة، على الرغم من الجهود المستمرة لمواجهتها، وأن تصنيف “الدكَات” كنوع من الإرهاب لم ينجح في إنهاء الهجمات العشائرية المسلّحة التي تتكرر بشكل يومي.

استمرار المشكلة نتيجة عدم قدرة الأجهزة التنفيذية على اعتقال غالبية أفراد العشائر التي تلجأ الى الدكات، دفع مجلس الوزراء في 3 كانون الثاني/ يناير 2024 الى تخصيص 15 مليار دينار (نحو 11.5 مليون دولار) لشراء السلاح من المواطنين، بواقع مليار دينار لكل محافظة من المحافظات العراقية الـ15، باستثناء محافظات إقليم كردستان العراق الثلاث، على أمل تشجيع أبناء العشائر على تسليم أسلحتهم مقابل مبالغ مالية بدل رفعها وتهديد المواطنين بها.

المبلغ المحدد خصص من احتياطي الطوارئ، استنادا إلى أحكام قانون الموازنة العامة للسنوات المالية 2023-2025، في إطار تنفيذ البرنامج الحكومي لتنظيم الأسلحة وحصرها بيد الدولة، وفقاً لما أعلنه مجلس الوزراء في بيان رسمي. 

لكنه تحرك “غير مجد” ويثبت عجز الحكومة عن تطبيق القانون وفرض إرادة الدولة، فيما يزداد عدد من يضطرون للجوء الى العشائر وشيوخها لحل مشاكلهم بدل اللجوء الى القانون وإجراءات الدولة، بحسب المحامي جميل علي.

يتابع علي قائلاً: “النزاعات العشائرية المسلحة تهز البلد يومياً وتتصدر عناوين الأخبار، حتى أن بعض الساسة ومسؤولي الحكومة والمحامين باتوا يلجأون الى الشيخ لاسترداد حقوقهم أو مواجهة التهديدات التي تطاولهم”.

تحولات الدكَة

تعود جذور الدكة العشائرية في العراق إلى مئات السنين عندما كانت المجتمعات القبلية تحكم نفسها بعيداً عن سلطة الدولة المركزية، إذ كانت العشائر تلجأ إلى أساليب مختلفة لفض النزاعات وتسويتها، وكان التهديد الرمزي أحد هذه الأساليب، حسبما يقول المؤرخ الاجتماعي عبد العزيز الجبوري. 

ويضيف: “لم تكن الدكة في بداياتها تعتمد على العنف المسلح، بل كانت تتمثل في تجمع أفراد العشيرة أمام بيت الخصم وهم يرفعون أصواتهم محتجين أو يطرقون أبواب المنازل بعصيهم أو يطلقون بضع طلقات تحذيرية في الهواء، كرسالة مفادها: تعالوا للتفاوض قبل أن تتفاقم الأمور”. 

ويشير إلى أن “هذا العرف العشائري كان جزءاً من منظومة قيمية تقدر السلم الاجتماعي وتحاول منع سفك الدماء، فالعشائر تدرك أن أي نزاع طويل سيؤدي إلى خسائر كبيرة لكلَي الطرفين، لكن مع مرور الزمن، وخصوصاً بعد انتشار الأسلحة بكثافة في العقود الأخيرة، فقدت الدكة العشائرية رمزيتها وأصبحت أداة عنف خطيرة عبر إطلاق النار بشكل مباشر على منازل الخصوم، وأحياناً تستخدم القنابل اليدوية، ما يعرض حياة الناس للخطر باستمرار”. 

أبو خالد، أحد شيوخ قبيلة البدور في ذي قار بجنوب العراق، يعبر عن أسفه حيال ما يصفه بـ”خروج الدكة العشائرية عن سياقها”، ويقول:”المشكلة أن بعض الشباب غير المنضبطين يستخدمونها لأسباب تافهة، مثل خلافات مالية بسيطة أو نزاعات عائلية أو خلاف على قطعة أرض أو حتى منشور على مواقع التواصل الاجتماعي، ويتطور الأمر الى نزاعات مسلحة باتت تهدد السلم الأهلي”.

واحدة من الأسباب التي تحدث عنها الشيخ أبو خالد، أودت في 13 حزيران/ يونيو 2024، بحياة رسول اعلان محيبس القريشي( 29 سنة)، إذ كان يسير بالقرب من منزله في محافظة واسط، فاعترضت طريقه سيارة من نوع (تويوتا لاندكروزر) يستقلها ثلاثة أشخاص، صوّب أحدهم فوهة مسدسه إليه، وأطلق أربعة رصاصات أصابت صدره وبطنه، وأردته قتيلاً على الفور.

اتضح لاحقاً أن الجناة ينتمون الى عشيرة قبيلة شمر، وأنهم كانوا داخلين في نزاع مع أفراد من عشيرة القتيل، وهي (البركاوي)، بشأن ملكية قطعة أرض زراعية.

يروي شقيقه الأكبر، سجاد، تفاصيل اللحظات الأخيرة من حياة شقيقه قائلاً: “أثناء نقله إلى المستشفى، أخبر والدي بمن أطلق عليه النار، ولم تمر سوى دقائق حتى فارق الحياة بين يديه”. 

وعلى الرغم من تقديم العائلة شكوى رسمية وصدور مذكرات قبض بحق الجناة، إلا أن “العدالة بقيت غائبة” يقول الشقيق. ويتابع وهو يرفع صوته ويهز كلتَي يديه :”القتلة ما زالوا هاربين من العدالة، لا تعرف الشرطة مكان وجودهم، وشيخ عشيرتنا يشدد على حسم القضية بالقانون، إلا أننا لن نسكت طويلاً”.

وفي بغداد، لم يكن محسن طارق التميمي (12 عاماً)، يعلم أن جلوسه  عصر العشرين من كانون الثاني/ يناير 2025 على سطح منزله في منطقة الشعلة، محاطاً بكتبه المدرسية، سيكون المشهد الأخير من حياته.

ففي غضون ذلك، كان نزاع مسلح بين أفراد عشيرتي (الوحيلات والبو علي) قد اندلع للتو بالقرب من منزله، بسبب خلاف على طائر “حمام منزلي” لا تتجاوز قيمته الألفي دينار عراقي. 

يقول طارق بصوت مبحوح بعد نفس عميق: “طفلي قتل بسبب طير، وبسبب ضعف الإجراءات الحكومية… إذا لم تستطع الدولة حماية الناس فكلنا مهددون بالموت بهذا الإرهاب العشائري”.

يسكت للحظات ثم يتابع: “شيخ العشيرة اليوم أقوى من أي وزير أو مسؤول”، في إشارة الى ما تعطيه الأصوات الانتخابية لأبناء عشيرته من قوة وحصانة، متسائلاً: “إلى متى يبقى الدم هو لغة الحل؟”.

يطالب طارق بإلقاء القبض سريعاً والقصاص من القتلة الذين قال إنهم ما زالوا هاربين من العدالة، ويضيف مهدداً: “العين بالعين والسن بالسن، والبادي أظلم، إذا لم تستطع الحكومة اعتقال الجناة، فسنأخذ حقنا بأيدينا”. 

الشيخ أبو حيدر آل شدود، أحد شيوخ العشائر في الناصرية مركز محافظة ذي قار، يوضح أسباب لجوء العشائر إلى السلاح والدكَة العشائرية: “في أعرافنا العشائرية، يعتبر المساس بالعرض أو محاولة الاستيلاء على أراضينا تجاوزاً لا يمكن السكوت عنه”.

ويضيف مستدركاً: “على رغم ذلك نحرص دائماً على حل خلافاتنا بالطرق السلمية من خلال المجالس العشائرية، لكن عندما ترفض الحلول الودية ولا يتم احترام التفاهمات، يصبح اللجوء إلى السلاح خيارنا، فهو جزء من عاداتنا وتقاليدنا”.

كما يعبر عن عدم الثقة بالقضاء الحكومي وإجراءاته :”حسم النزاعات في المحاكم قد يستغرق سنوات، والمطلوبون يظلون طلقاء، وكثيراً ما نجد أن القانون لا ينصف، فالأحكام لا تكون أحياناً عادلة، ما يضطرنا إلى الدفاع عن حقوقنا بأنفسنا”.

ويرجع أيضاً لجوؤهم الى أعراف العشائر، الى ضعف الدولة: “مؤسسات البلد منذ عقود تعاني من الضعف بسبب الحروب والتدهور الأمني والفساد، فإن كانت الدولة قوية والقانون عادلاً وسريعاً، نحن أول من يلتزم به، ولكن في غياب ذلك كله، تصبح العشيرة هي القانون”. 

ويعود للتأكيد أن الدكَة العشائرية لا تعكس رغبته أو أبناء قبيلته على استخدام العنف: “بل هي وسيلة لردع من تسوّل له نفسه التعدي علينا، ويصبح الرد بالسلاح ضرورة عندما يتعرض أحد أفراد عشيرتنا لاعتداء أو إساءة فنحن لا نسكت عن حقنا”.

غياب الردع 

يرى الخبير الأمني أحمد الشريفي، أن تفشّي النزاعات العشائرية المسلحة بما فيه “جريمة الدكة” وتحولها إلى تهديد حقيقي يعود إلى مجموعة من العوامل الرئيسية، أبرزها: “ضعف سلطة القانون”، ويوضح: “تراكم الأزمات السياسية والأمنية في العراق أثر بشكل كبير على قدرة الدولة في فرض سيادتها القانونية”. 

هذا التراجع في سلطة القانون يدفع المواطنين إلى اللجوء للعشيرة كحل بديل لحل نزاعاتهم، “ما أعطى زخماً إضافياً لهذه الجريمة” يقول مؤكداً. 

ثم يضيف سبباً آخر: “انتشار السلاح خارج سيطرة الدولة ساهم أيضاً في تفاقم جريمة الدكة، فمع استمرار الحروب والنزاعات جيلاً بعد جيل، أصبحت الأسلحة متوافرة بشكل واسع لدى العشائر وشاع استخدامها كوسيلة لحل الخلافات”. 

كما يلفت الشريفي إلى تراجع دور شيوخ العشائر الذين كانوا في الماضي يتحركون بحكمة ويفرضون حلولاً سلمية للنزاعات، “هؤلاء اليوم فقدوا الكثير من سلطتهم لصالح أجيال جديدة تتخذ قراراتها بعيداً عنهم”.

وينتقد السلطة التنفيذية لعدم تطبيقها القانون كما يجب: “الدكة تعد جريمة إرهابية بموجب القانون، وعدم تفعيل ذلك وتطبيقه على جميع الحالات يجعل بعض الأفراد يشعرون بأنهم محصنون من العقاب، وهو ما يشجع على تكرار هذه الأعمال التي يجب أن تواجه بعقوبات صارمة”. 

ويصف محامون وقضاة، عدم تطبيق القانون في ما يخص الدكَة العشائرية بأنه “تفريط في تطبيق العدالة”، وهذا تحديداً ما ركز عليه مصدر قضائي في بغداد، شدد على عدم إيراد اسمه أو صفته الوظيفية، قائلاً: “مع تفاقم مشكلة الدكَة، لاحظنا في سنة 2023، أن بعض محاكم التحقيق، تقوم بتغيير الوصف القانوني لجريمة الدكة، بعد وقوع الصلح بين طرفي النزاع، ما سمح بإطلاق سراح المتهمين بكفالة”.

ويرى المصدر أن ذلك الإجراء “يعطي الفرصة للمتهمين للعودة إلى ارتكاب الجريمة نفسها مرة أخرى، مع أن القانون يضعها في خانة الجرائم الإرهابية ضد المجتمع!”.

ولحل هذه المشكلة يقول المصدر القضائي، إن مجلس القضاء وجه رئاسات الاستئناف بعدم التراجع عن الدعوى حتى في حال تنازل المشتكي: “وهذا يعني أن الحق العام في هذه الجرائم يبقى ساري المفعول، ولا يمكن للصلح العشائري أن يؤثر على سير التحقيقات أو الإجراءات القضائية”. 

وذكر كذلك أن المجلس وجه وزارة الداخلية، تحديداً وكالة الاستخبارات، للقيام بالتحقيقات في قضايا الدكة العشائرية “لمحاولة ضمان أن تكون التحقيقات أكثر فاعلية، بعيداً عن تأثير الإجراءات التقليدية أو المحسوبية التي قد ترافق التحقيقات في وكالة الشرطة العادية”. 

إجراءات حصر السلاح

يقول المتحدث باسم وزارة الداخلية مقداد ميري، أن التعامل مع الدكَة العشائرية على أنها جرائم إرهابية وفقاً لأحكام المادة 2 من قانون الإرهاب لعام 2005، يعني فرض عقوبات صارمة ضد المتورطين بها، مثل السجن المؤبد. وهو يرى أن ذلك قد حد منها نوعاً ما.

ويقول إن ملف “حصر السلاح بيد الدولة” هو أحد التحديات الكبرى التي تواجه الحكومة ووزارة الداخلية، “كوننا نواجه إرثا طويلاً من النزاعات العشائرية وحيازة السلاح خارج سيطرة الدولة” (في إشارة الى الجماعات المسلحة)، ويعتقد أن المعالجة الشاملة للملف تتطلب وقتاً “لا يمكن تحديده” وبالتنسيق بين الكثير من المؤسسات.

ويشير ميري، إلى أن وزارة الداخلية بدأت في عام 2023 بتنفيذ برنامج وصفه بالطموح “لإعادة تنظيم السلاح في العراق”، ويوضح: “شكلنا لجنة متخصصة تضم ممثلين من 14 وزارة ومؤسسة تحت إشراف وزارة الداخلية، وبدأنا بإنشاء 697 مركزاً في جميع أنحاء البلاد لتنظيم عملية تسجيل السلاح الخفيف كمرحلة أولى”. 

وفي العام 2024 انتقل البرنامج إلى مرحلة تالية، تمثلت بشراء الأسلحة المتوسطة من المواطنين “بمن فيهم أبناء العشائر” ضمن جهد حكومي يستهدف “احتواء ظاهرة الدكَة العشائرية التي تجذرت في المجتمع العراقي وتركزت في محافظات جنوب البلاد، مثل ميسان والبصرة والناصرية”.

وبهدف إنجاح برنامج حصر السلام، مُدِّدت فترة العمل به، بحسب ميري، حتى 31 كانون الثاني/ يناير 2025، وبعدها بدأ العمل بالمرحلة الثالثة المتمثلة بـ”عمليات دهم وتفتيش لمصادرة الأسلحة غير المسجلة والمتوسطة”.

15 طناً من السلاح الثقيل

عن النتائج المتحققة لحملة الحد من السلاح المنفلت، يقول المتحدث باسم اللجنة الوطنية لتنظيم السلاح وحصره بيد الدولة، العميد زياد القيسي، أن المرحلة الأولى شهدت تسجيل 10500 قطعة سلاح خفيف: “منحنا أصحابها إجازات حيازة للاحتفاظ بها داخل المنازل فقط”. 

ويقول إن المرحلة الثانية، شهدت شراء أسلحة متوسطة من المواطنين بأسعار تراوحت بين 3 إلى 5 مليون دينار “حسب جودة السلاح المسلم”، بينما صودرت 15 طناً من السلاح الثقيل بما في ذلك المستخدمة في النزاعات.

ويشير الى أن اللجنة وحّدت أيضاً جهودها لدفع العشائر والمراجع الدينية الى العمل على “نبذ ثقافة الدكة العشائرية”، وحصلنا على تعهدات من شيوخ العشائر بتسليم المتهمين في قضايا الدكة العشائرية مع أسلحتهم، وهو ما يعد خطوة مهمة نحو الأمن المجتمعي، على حد تعبيره. 

إحصاءات المتحدث باسم وزارة الداخلية والتفاؤل الذي يظهر في تصريحات ممثليها، يقاطعهما واقع الحال في بغداد، فمنذ منتصف كانون الثاني/ يناير2025 تم تسجيل أربعة دكات عشائرية، في مناطق “الزعفرانية، المدائن، المحمودية، والشعلة”، كما شهدت محافظات البصرة وميسان وذي قار وقوع أربعة نزاعات عشائرية.

وتظهر مقاطع فيديو متداولة على وسائل التواصل، تبادل إطلاق نار كثيف يستمر لساعات وتستخدم فيه أسلحة متوسطة، بخاصة في المحافظات الجنوبية، ما يهدد حياة مواطنين ليست لهم علاقة بالنزاع، كما أنه يتسبب بتعطيل الحياة لأيام بعد كل جولة اشتباك. 

ووفقاً لشهادات أبناء تلك المناطق، فقد أسفرت النزاعات الأخيرة عن سقوط ضحايا، الى جانب ترويع الأهالي وإلحاق أضرار بالكثير من المنازل، ما دفع بعض العائلات إلى مغادرة منازلها وهي حالة شائعة بعد كل اشتباك أو تهديد عشائري.

أرقام رسمية

أظهرت إحصاءات وزارة الداخلية، التي اطلع عليها معد التقرير، الخاصة بالنزاعات العشائرية في عام 2024 انخفاضا بنسبة 30 في المئة في عدد النزاعات العشائرية المسجلة مقارنة بعام 2023، فقد تم تسجيل 320 نزاعاً عشائرياً، مقابل 460 نزاعاً في عام 2023.

وسجلت تلك الإحصاءات انخفاضاً بنسبة 35 في المئة في أعداد الضحايا الناتجة من النزاعات العشائرية، إذ بلغت 150 شخصاً في عام 2024، بينما سقط 230 شخصاً في عام 2023.

أما في ما يخص النزاعات العشائرية التي تطورت إلى أعمال عنف مسلح، فقد انخفضت بنسبة 25 في المئة، إذ تم تسجيل 80 حالة تطورت إلى عنف مسلح في عام 2024، مقارنة بـ 110 حالات في عام 2023.

من جهة أخرى، شهدت الجهود المبذولة للمصالحة العشائرية زيادة ملحوظة بنسبة 40 في المئة في عدد الاتفاقيات الموقعة بين العشائر، فقد تم توقيع 200 اتفاقية في عام 2024، مقارنة بـ 140 اتفاقية في عام 2023.

وتظهر الأرقام الرسمية تضاعف عدد الأسلحة التي ضُبطت في العام 2024، ما حد من عدد النزاعات، كما يبدو. ففي العام 2023، اعتُقل 1209 متهماً على خلفية نزاعات عشائرية، وُضبطت 9909 قطعة سلاح من مختلف الأنواع، بينما سجل في العام 2024، وبعد تكثيف الشرطة الاتحادية لعملياتها الأمنية، اعتقال 22361 شخصاً، من بينهم متهمون في نزاعات عشائرية، وصودرت 95442 قطعة سلاح وكميات كبيرة من الذخيرة والمقذوفات. 

ويحذر عضو مجلس النواب عن محافظة البصرة هيثم الفهد، من تداعيات استمرار النزاعات العشائرية وظاهرة الدكة، ويقول “السلم المجتمعي لا يمكن أن يتم في ظل وجود سلاح منفلت منتشر بين الشباب والعشائر، وبعضه بيد الميليشيات” ويتم رفعه والتهديد به مع كل خلاف.

ويضيف: “قوانين وقرارات عدة لم تنفذ بشكل فعال بسبب الضغوطات والمحاباة، ما أدى إلى استمرار ظاهرة الدكة العشائرية”، في إشارة الى عدم اعتقال المتورطين في الكثير من النزاعات بسبب مواقعهم العشائرية أو في أجهزة الدولة.

ويكشف عن فكرة قال إنه طرحها في مجلس النواب تهدف إلى “تجريم من يروج أو ينشر هذه الظاهرة على مواقع التواصل الاجتماعي، مع معاملتهم كما لو كانوا إرهابيين”. ويستدرك: “لا يحق لأي شخص ترويع المواطنين أو الأطفال، أو بث الخوف والقتل في المجتمع”. 

الفقر واستمرار المشكلة

على الرغم من الجهود الحكومية لمكافحة النزاعات الاجتماعية التي تستخدم فيها الأسلحة بما فيها الدكة العشائرية، لكن نشطاء مدنيين ومراقبون للظاهرة، يشككون في نسبة التراجع المعلنة من الأجهزة الأمنية، ويؤكدون أن الكثير من النزاعات يبدو أنها لا تسجل.

يقول الشيخ محسن البطاط، من محافظة ميسان، إن الظاهرة مستمرة، إذ سجلت المحافظة أكثر من 180 نزاعاً خلال عام 2024 تنوعت أسبابها بين صراعات على الأرض او “مشاكل مع الشركات النفطية، أو نزاعات على الأراضي التابعة للمواطنين، والتي استغلتها شركات استثمارية”. 

ويصف ما يحدث قائلاً: “يطلقون نيران أسلحتهم من مسافات مختلفة على البيوت والسيارات، ويتم ترويع الناس، ويسقط ضحايا”.

ويرى البطاط أن الحل في النهاية يكمن في حصر السلاح بيد الدولة، وأن يكون القانون “هو الفيصل في حل جميع المشاكل بين الأفراد والجماعات”. 

بدوره، يؤكد الشيخ محمد الجابري، رئيس رابطة العشائر العراقية للتفاوض وحل النزاعات، استمرار ظاهرة النزاعات العشائرية المسلحة، سواء في بغداد أو محافظات الجنوب، ويقول إن “الذين يقومون بها هم من أبناء العشائر أو أشخاص يتم تأجيرهم لتنفيذ المهمة مقابل أموال طائلة”. 

ويرى أن تطبيق القانون لمكافحة النزاعات العشائرية المسلحة، لا يزال قاصراً: “فهناك بطء في تطبيق الإجراءات القانونية والأمنية تجاه مرتكبي هذه الجرائم”. 

ويلقي باللائمة أيضاً على من يصفهم بـ”الدخلاء على المشيخة” لأنهم وحسب تعبيره أصبحوا شيوخاً جدداً على الساحة بفضل المال، وهم الذين يتسببون بالمشاكل والاضطرابات كالدكَة وغيرها!

لكن أمين عام المجلس المركزي لشيوخ عشائر العراق، الشيخ علي الدليمي، يضيف سبباً آخر الى استمرار النزاعات المسلحة، وهو الفقر المنتشر في وسط البلاد وجنوبها، “بسببه تتطور المشاكل بين الأفراد لتصل الى العنف واستخدام السلاح في طريقة تنم عن الجهل”.

وهو ما يشير إليه أيضا، رئيس محكمة الاستئناف في محافظ البصرة أقصى جنوب العراق، عادل عبد الرزاق، إذ قال خلال مقابلة مع صحيفة القضاء الإلكترونية في شباط/ فبراير 2024، إن جفاف الأهوار وتلاشي الزراعة وانتشار البطالة، أمور عمقت النزاعات العشائرية المسلحة في المحافظة. 

وأضاف الى ذلك دخول الاستثمارات النفطية لأراضي مناطق العشائر، وتعويضات الدولة للبعض منها، وتسبب ذلك بنشوب “معارك قبلية” على عائدية الأرض. وبين أن ظاهرة النزاعات العشائرية المسلحة تنتشر منذ عقود في البصرة “إلا أنها استفحلت بعد سنة 2003” أي بعد انهيار النظام العراقي السابق.

ولفت إلى أن النزاعات العشائرية تتركز في شمال محافظة البصرة ولا سيما “قضاء القرنة والمدينة والدير وناحية الهارثة”، مؤكداً أن السلطات التنفيذية اتخذت إجراءات عدة خلال السنوات الأخيرة، بهدف إنهاء تلك النزاعات، منها “القبض على عدد كبير من مثيري النزاعات العشائرية وإحالتهم إلى محاكم الجنايات وصدرت الأحكام بحقهم”.

الدروع العشائرية لجني المال

اللواء الحقوقي سلمان الحسناوي، من مديرية شؤون العشائر بوزارة الداخلية، يكشف عن ظهور مجاميع مسلحة تتبع بعض العشائر، تطلق على نفسها اسم “الدروع العشائرية”، وتتبنى مهمة الدفاع عن العشيرة وتنفيذ الدكات العشائرية أو إثارة النزاعات مقابل مبالغ مالية.

قوام هذه المجاميع، أفراد يكونون غالباً عاطلين من العمل، فيحصلون بذلك على بعض المال من الطرف الذي يدعو للدكَة أو يشرف عليها، وهذا يدعم ما ذهب إليه الشيخ علي الدليمي في إشارته الى الفقر كسبب للدكَة العشائرية.

أما الشيخ صدام العطواني من بغداد، فيشير إلى وجود أشخاص يدعون انتماءهم الى العشائر: “أصبحت مهنتهم جني الأموال من تنفيذ جريمة الدكَة العشائرية”، ويوضح :”بعض الأشخاص يدعون المشيخة، ويحيطون أنفسهم بمجموعة من الأفراد يستخدمونهم في تنفيذ الدكة العشائرية، وتهديد المواطنين الضعفاء”. 

وبالعودة إلى الحسناوي، فهو يعتبر هذه المجاميع المسلحة مخالفة وبنحو صريح للقانون، ويلفت إلى أن المادة 9/ب من الدستور العراقي النافذ “يحظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة”، وأن وزارة الداخلية تعاملت مع”الدروع العشائرية” وفقاً لهذا المنطلق. وتم اتخاذ إجراءات قانونية ضد هذه المجاميع المسلحة.

وفي ما يخص المتضررين من الدكات العشائرية، يؤكد الحسناوي، أن بإمكانهم اللجوء إلى القضاء لرفع دعاوى ضد المتورطين “حتى ضد شيوخ العشائر الذين قد يكونون جزءاً منها”. 

وغالباً يحصل منفذو الدكات والشيوخ المشرفون عليها، على أموال بشكل مباشر أو غير مباشر، كما يحصل الشيوخ على جزء من مبالغ التسويات المالية المرتبطة بالنزاعات بين الأفراد التي يتم الفصل فيها داخل مجالس العشائر.  

من جانبه يؤكد اللواء فاخر الزيدي، مدير شؤون العشائر في جهاز الأمن الوطني، أن المديرية تتابع الظواهر السلبية المرتبطة بتحركات بعض العشائر خارج القانون، وتعمل على القضاء عليها، فضلاً عن رصد التجمعات العشائرية المسلحة مثل “الدروع العشائرية” وتجريمها.

ويوضح اللواء الزيدي أن المديرية تسعى إلى تهذيب وتعديل العادات والتقاليد العشائرية بما يتماشى مع القيم المجتمعية المعاصرة، والمساهمة الفعالة في حل النزاعات المسلحة التي تهدد أمن الدولة، كما تعمل على متابعة قضايا مدعي المشيخة والأشخاص الذين يثيرون النزاعات في الاجتماعات العشائرية. 

كل تلك الإجراءات، ما زالت غير كافية لإنهاء القصص المأساوية للنزاعات العشائرية، حيث يسقط مئات الضحايا سنوياً ويبقى الجاني طليقاً أو غير معروف الهوية، كان مصطفى عادل (23 سنة) واحداً منهم. فالأب لطفلين، خسر حياته في نيسان/ أبريل 2024 إثر رصاصة اخترقت ظهره، أثناء مروره في موقع شهد نزاعاً عشائرياً.

عائلة الشاب التي تسكن منطقة الكمالية شرق بغداد، تؤكد أن مصطفى كان لحظتها برفقة شقيقه الأصغر على دراجة نارية، عندما وجدا نفسيهما وسط إطلاق نار كثيف أدى الى إصابته.

يقول والده إنه تلقى يومها اتصالاً من المستشفى أفاد بإصابة ابنه البكر، فهرع الى هناك وهو لا يفهم ما حصل. يصمت برهة ثم يواصل بعينين دامعتين: “كانت أمه معي، وجدناه مغطى بالدماء ويلفظ آخر أنفاسه”. يبكي الوالد بحرقة ثم يضيف ويده على جبينه: “لم يستطع الأطباء فعل شيء، مات بين أيدينا، تاركاً طفلين وزوجة شابة”. 

لم تفض الشكوى التي تقدم بها والد مصطفى إلى شيء، على الرغم من مرور نحو عشرة أشهر، فلا جناة معروفين بالاسم ليلاحقوا. يقول: “لا أحد يعرف من أطلق النار، وبهذا ضاع حقنا في معاقبة الجاني، ورحل ابني بلا ذنب، تاركاً عائلة بلا معيل لا أحد يسأل عن مصيرها”.

أنُجز التقرير بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية.

رنا الصبّاغ- كاتبة وصحافية أردنية | 23.05.2025

الرقص على أوجاع الغزّيين !…عندما تعطّل واشنطن وتل أبيب ديناميات الأمم المتّحدة 

أثناء كتابة هذا المقال، بدأت كوادر في الشركات الجديدة ومتعهّدون أمنيون ومرتزقة، بالوصول مع معدّاتهم إلى إسرائيل، استعداداً لدخول غزّة، وتطبيق الخطّة الإشكالية البديلة عن المسار الأممي.
17.04.2025
زمن القراءة: 16 minutes

على الرغم من الجهود الحكومية لمكافحة النزاعات الاجتماعية التي تستخدم فيها الأسلحة بما فيها الدكة العشائرية، لكن نشطاء مدنيين ومراقبون للظاهرة، يشككون في نسبة التراجع المعلنة من الأجهزة الأمنية، ويؤكدون أن الكثير من النزاعات يبدو أنها لا تسجل.

اعتقد بادئ الأمر أنه عالق في كابوس واحتاج إلى لحظات لكي يستفيق من الصدمة، ويستوعب وهو مرتعبٌ في سريره أن أصوات الرصاص التي يسمعها إنما تستهدف منزله وقد حطمت زجاج نوافذه، ولم يكن أمامه وأفراد أسرته سوى البقاء منبطحين على أرضية الغرفة لحين انتهاء الهجوم المباغت.

هذا ما عاشته أسرة تاجر المفروشات في منطقة الشورجة وسط بغداد (ع، هـ 63 سنة) فجر 16 كانون الثاني/ يناير 2024، إثر تعرّض منزلهم الكائن في منطقة الشعلة، إلى هجوم عشائري تحذيري (دكَة عشائرية) استُخدمت فيه أنواع مختلفة من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة. وهي هجمات تقع المئات منها سنوياً في جنوب البلاد ووسطها، بما فيه العاصمة بغداد، في مؤشر إلى عجز الدولة وأجهزتها عن تطبيق القانون. 

بدأت القصة في 26 حزيران/ يونيو 2022، عندما أبرم (ع،ه) اتفاقاً مع أحد زبائنه الشباب، بأن يبيعه بضاعة بقيمة 75 مليون دينار، بعد سداد 25 مليوناً، على أن يسدد المبلغ المتبقي، 50 مليوناً، خلال سنة، وذلك مقابل وصولات أمانة.

مع انقضاء السنة، تخلف الشاب عن سداد ما بذمّته، ولم يكن (ع.هـ) يلقى من زبونه غير”المماطلة والتهرب”، على حد تعبيره. وبعد نفاد صبره، لجأ إلى مركز الشرطة في منطقة الشعلة لتحرير شكوى مستنداً إلى وصولات الأمانة التي بحوزته، فأخذ الشاب المدين يتوسله ليسحب شكواه مقابل وعد بالسداد القريب. 

يضيف: “سحبتها بالفعل، لكنه ماطل مجدداً، وهذه المرة مع التهديد العشائري، وأخذ يوجه لي تحذيرات بأنني سأتعرض لدكَة عشائرية إن لم أتوقف عن المطالبة بحقي وسحب الشكوى الجديدة التي قدمتها ضده”. 

والدكَة العشائرية عُرفٌ يلبي بموجبه أفراد من عشيرة واحدة نداء فرد منها طلب مساعدتهم ضد شخص أو مجموعة من الأشخاص، فيجتمعون مسلحين ويتوجهون إلى منزل الخصم أو محل عمله لإبراز قوتهم وتحذيره من عواقب الاستمرار في العداء من خلال إطلاق النار الكثيف.

بعد تعرض منزله للهجوم المسلح، أصر (ع، هـ) على التوجه مجدداً إلى الشرطة، مدعوماً بتسجيلات كاميرات المراقبة المنزلية وشهادة عدد من الجيران، إيماناً منه بالقانون. لكن آخرين مروا بموقفه نفسه قد لا يمضون في ذلك الطريق خوفاً من النتائج، إذ تتطور غالبية قصص التدخلات العشائرية لحل الخلافات بعيداً عن القانون، الى نزاعات مسلحة يقع خلالها ضحايا. 

وتظهر الأرقام الرسمية حصول المئات من الاشتباكات نتيجة الممارسات العشائرية غير القانونية، وتحولها الى نزاعات دامية في ظل عجز الأجهزة الأمنية، ففي العامين 2023 و2024 سُجلت رسمياً 780 نزاعاً مسلحاً.

وشهدت هذه الهجمات تصاعداً كبيراً في العقدين الأخيرين في ظل انتشار الأسلحة وتزايد قوة العشائر مقابل تراجع قوة الدولة، وهو ما دعا مجلس القضاء الأعلى الى التعامل مع (الدكات العشائرية) بموجب قانون مكافحة الإرهاب، وذلك في بيان صدر عنه في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر2018.

جاء فيه أن “جرائم التهديد عبر ما يعرف بـ(الدكات العشائرية) تعد صورة من صور التهديد الإرهابي، وفق أحكام المادة 2 من قانون مكافحة الإرهاب”.

يؤكد قضاة ومسؤولون في الأجهزة الأمنية أن النزاعات العشائرية المسلحة بما فيها العرف المتمثل بـ(الدكَة)، ما زالت تشكل تهديداً للدولة ولسيادة القانون وهيبة الحكومة، على الرغم من الجهود المستمرة لمواجهتها، وأن تصنيف “الدكَات” كنوع من الإرهاب لم ينجح في إنهاء الهجمات العشائرية المسلّحة التي تتكرر بشكل يومي.

استمرار المشكلة نتيجة عدم قدرة الأجهزة التنفيذية على اعتقال غالبية أفراد العشائر التي تلجأ الى الدكات، دفع مجلس الوزراء في 3 كانون الثاني/ يناير 2024 الى تخصيص 15 مليار دينار (نحو 11.5 مليون دولار) لشراء السلاح من المواطنين، بواقع مليار دينار لكل محافظة من المحافظات العراقية الـ15، باستثناء محافظات إقليم كردستان العراق الثلاث، على أمل تشجيع أبناء العشائر على تسليم أسلحتهم مقابل مبالغ مالية بدل رفعها وتهديد المواطنين بها.

المبلغ المحدد خصص من احتياطي الطوارئ، استنادا إلى أحكام قانون الموازنة العامة للسنوات المالية 2023-2025، في إطار تنفيذ البرنامج الحكومي لتنظيم الأسلحة وحصرها بيد الدولة، وفقاً لما أعلنه مجلس الوزراء في بيان رسمي. 

لكنه تحرك “غير مجد” ويثبت عجز الحكومة عن تطبيق القانون وفرض إرادة الدولة، فيما يزداد عدد من يضطرون للجوء الى العشائر وشيوخها لحل مشاكلهم بدل اللجوء الى القانون وإجراءات الدولة، بحسب المحامي جميل علي.

يتابع علي قائلاً: “النزاعات العشائرية المسلحة تهز البلد يومياً وتتصدر عناوين الأخبار، حتى أن بعض الساسة ومسؤولي الحكومة والمحامين باتوا يلجأون الى الشيخ لاسترداد حقوقهم أو مواجهة التهديدات التي تطاولهم”.

تحولات الدكَة

تعود جذور الدكة العشائرية في العراق إلى مئات السنين عندما كانت المجتمعات القبلية تحكم نفسها بعيداً عن سلطة الدولة المركزية، إذ كانت العشائر تلجأ إلى أساليب مختلفة لفض النزاعات وتسويتها، وكان التهديد الرمزي أحد هذه الأساليب، حسبما يقول المؤرخ الاجتماعي عبد العزيز الجبوري. 

ويضيف: “لم تكن الدكة في بداياتها تعتمد على العنف المسلح، بل كانت تتمثل في تجمع أفراد العشيرة أمام بيت الخصم وهم يرفعون أصواتهم محتجين أو يطرقون أبواب المنازل بعصيهم أو يطلقون بضع طلقات تحذيرية في الهواء، كرسالة مفادها: تعالوا للتفاوض قبل أن تتفاقم الأمور”. 

ويشير إلى أن “هذا العرف العشائري كان جزءاً من منظومة قيمية تقدر السلم الاجتماعي وتحاول منع سفك الدماء، فالعشائر تدرك أن أي نزاع طويل سيؤدي إلى خسائر كبيرة لكلَي الطرفين، لكن مع مرور الزمن، وخصوصاً بعد انتشار الأسلحة بكثافة في العقود الأخيرة، فقدت الدكة العشائرية رمزيتها وأصبحت أداة عنف خطيرة عبر إطلاق النار بشكل مباشر على منازل الخصوم، وأحياناً تستخدم القنابل اليدوية، ما يعرض حياة الناس للخطر باستمرار”. 

أبو خالد، أحد شيوخ قبيلة البدور في ذي قار بجنوب العراق، يعبر عن أسفه حيال ما يصفه بـ”خروج الدكة العشائرية عن سياقها”، ويقول:”المشكلة أن بعض الشباب غير المنضبطين يستخدمونها لأسباب تافهة، مثل خلافات مالية بسيطة أو نزاعات عائلية أو خلاف على قطعة أرض أو حتى منشور على مواقع التواصل الاجتماعي، ويتطور الأمر الى نزاعات مسلحة باتت تهدد السلم الأهلي”.

واحدة من الأسباب التي تحدث عنها الشيخ أبو خالد، أودت في 13 حزيران/ يونيو 2024، بحياة رسول اعلان محيبس القريشي( 29 سنة)، إذ كان يسير بالقرب من منزله في محافظة واسط، فاعترضت طريقه سيارة من نوع (تويوتا لاندكروزر) يستقلها ثلاثة أشخاص، صوّب أحدهم فوهة مسدسه إليه، وأطلق أربعة رصاصات أصابت صدره وبطنه، وأردته قتيلاً على الفور.

اتضح لاحقاً أن الجناة ينتمون الى عشيرة قبيلة شمر، وأنهم كانوا داخلين في نزاع مع أفراد من عشيرة القتيل، وهي (البركاوي)، بشأن ملكية قطعة أرض زراعية.

يروي شقيقه الأكبر، سجاد، تفاصيل اللحظات الأخيرة من حياة شقيقه قائلاً: “أثناء نقله إلى المستشفى، أخبر والدي بمن أطلق عليه النار، ولم تمر سوى دقائق حتى فارق الحياة بين يديه”. 

وعلى الرغم من تقديم العائلة شكوى رسمية وصدور مذكرات قبض بحق الجناة، إلا أن “العدالة بقيت غائبة” يقول الشقيق. ويتابع وهو يرفع صوته ويهز كلتَي يديه :”القتلة ما زالوا هاربين من العدالة، لا تعرف الشرطة مكان وجودهم، وشيخ عشيرتنا يشدد على حسم القضية بالقانون، إلا أننا لن نسكت طويلاً”.

وفي بغداد، لم يكن محسن طارق التميمي (12 عاماً)، يعلم أن جلوسه  عصر العشرين من كانون الثاني/ يناير 2025 على سطح منزله في منطقة الشعلة، محاطاً بكتبه المدرسية، سيكون المشهد الأخير من حياته.

ففي غضون ذلك، كان نزاع مسلح بين أفراد عشيرتي (الوحيلات والبو علي) قد اندلع للتو بالقرب من منزله، بسبب خلاف على طائر “حمام منزلي” لا تتجاوز قيمته الألفي دينار عراقي. 

يقول طارق بصوت مبحوح بعد نفس عميق: “طفلي قتل بسبب طير، وبسبب ضعف الإجراءات الحكومية… إذا لم تستطع الدولة حماية الناس فكلنا مهددون بالموت بهذا الإرهاب العشائري”.

يسكت للحظات ثم يتابع: “شيخ العشيرة اليوم أقوى من أي وزير أو مسؤول”، في إشارة الى ما تعطيه الأصوات الانتخابية لأبناء عشيرته من قوة وحصانة، متسائلاً: “إلى متى يبقى الدم هو لغة الحل؟”.

يطالب طارق بإلقاء القبض سريعاً والقصاص من القتلة الذين قال إنهم ما زالوا هاربين من العدالة، ويضيف مهدداً: “العين بالعين والسن بالسن، والبادي أظلم، إذا لم تستطع الحكومة اعتقال الجناة، فسنأخذ حقنا بأيدينا”. 

الشيخ أبو حيدر آل شدود، أحد شيوخ العشائر في الناصرية مركز محافظة ذي قار، يوضح أسباب لجوء العشائر إلى السلاح والدكَة العشائرية: “في أعرافنا العشائرية، يعتبر المساس بالعرض أو محاولة الاستيلاء على أراضينا تجاوزاً لا يمكن السكوت عنه”.

ويضيف مستدركاً: “على رغم ذلك نحرص دائماً على حل خلافاتنا بالطرق السلمية من خلال المجالس العشائرية، لكن عندما ترفض الحلول الودية ولا يتم احترام التفاهمات، يصبح اللجوء إلى السلاح خيارنا، فهو جزء من عاداتنا وتقاليدنا”.

كما يعبر عن عدم الثقة بالقضاء الحكومي وإجراءاته :”حسم النزاعات في المحاكم قد يستغرق سنوات، والمطلوبون يظلون طلقاء، وكثيراً ما نجد أن القانون لا ينصف، فالأحكام لا تكون أحياناً عادلة، ما يضطرنا إلى الدفاع عن حقوقنا بأنفسنا”.

ويرجع أيضاً لجوؤهم الى أعراف العشائر، الى ضعف الدولة: “مؤسسات البلد منذ عقود تعاني من الضعف بسبب الحروب والتدهور الأمني والفساد، فإن كانت الدولة قوية والقانون عادلاً وسريعاً، نحن أول من يلتزم به، ولكن في غياب ذلك كله، تصبح العشيرة هي القانون”. 

ويعود للتأكيد أن الدكَة العشائرية لا تعكس رغبته أو أبناء قبيلته على استخدام العنف: “بل هي وسيلة لردع من تسوّل له نفسه التعدي علينا، ويصبح الرد بالسلاح ضرورة عندما يتعرض أحد أفراد عشيرتنا لاعتداء أو إساءة فنحن لا نسكت عن حقنا”.

غياب الردع 

يرى الخبير الأمني أحمد الشريفي، أن تفشّي النزاعات العشائرية المسلحة بما فيه “جريمة الدكة” وتحولها إلى تهديد حقيقي يعود إلى مجموعة من العوامل الرئيسية، أبرزها: “ضعف سلطة القانون”، ويوضح: “تراكم الأزمات السياسية والأمنية في العراق أثر بشكل كبير على قدرة الدولة في فرض سيادتها القانونية”. 

هذا التراجع في سلطة القانون يدفع المواطنين إلى اللجوء للعشيرة كحل بديل لحل نزاعاتهم، “ما أعطى زخماً إضافياً لهذه الجريمة” يقول مؤكداً. 

ثم يضيف سبباً آخر: “انتشار السلاح خارج سيطرة الدولة ساهم أيضاً في تفاقم جريمة الدكة، فمع استمرار الحروب والنزاعات جيلاً بعد جيل، أصبحت الأسلحة متوافرة بشكل واسع لدى العشائر وشاع استخدامها كوسيلة لحل الخلافات”. 

كما يلفت الشريفي إلى تراجع دور شيوخ العشائر الذين كانوا في الماضي يتحركون بحكمة ويفرضون حلولاً سلمية للنزاعات، “هؤلاء اليوم فقدوا الكثير من سلطتهم لصالح أجيال جديدة تتخذ قراراتها بعيداً عنهم”.

وينتقد السلطة التنفيذية لعدم تطبيقها القانون كما يجب: “الدكة تعد جريمة إرهابية بموجب القانون، وعدم تفعيل ذلك وتطبيقه على جميع الحالات يجعل بعض الأفراد يشعرون بأنهم محصنون من العقاب، وهو ما يشجع على تكرار هذه الأعمال التي يجب أن تواجه بعقوبات صارمة”. 

ويصف محامون وقضاة، عدم تطبيق القانون في ما يخص الدكَة العشائرية بأنه “تفريط في تطبيق العدالة”، وهذا تحديداً ما ركز عليه مصدر قضائي في بغداد، شدد على عدم إيراد اسمه أو صفته الوظيفية، قائلاً: “مع تفاقم مشكلة الدكَة، لاحظنا في سنة 2023، أن بعض محاكم التحقيق، تقوم بتغيير الوصف القانوني لجريمة الدكة، بعد وقوع الصلح بين طرفي النزاع، ما سمح بإطلاق سراح المتهمين بكفالة”.

ويرى المصدر أن ذلك الإجراء “يعطي الفرصة للمتهمين للعودة إلى ارتكاب الجريمة نفسها مرة أخرى، مع أن القانون يضعها في خانة الجرائم الإرهابية ضد المجتمع!”.

ولحل هذه المشكلة يقول المصدر القضائي، إن مجلس القضاء وجه رئاسات الاستئناف بعدم التراجع عن الدعوى حتى في حال تنازل المشتكي: “وهذا يعني أن الحق العام في هذه الجرائم يبقى ساري المفعول، ولا يمكن للصلح العشائري أن يؤثر على سير التحقيقات أو الإجراءات القضائية”. 

وذكر كذلك أن المجلس وجه وزارة الداخلية، تحديداً وكالة الاستخبارات، للقيام بالتحقيقات في قضايا الدكة العشائرية “لمحاولة ضمان أن تكون التحقيقات أكثر فاعلية، بعيداً عن تأثير الإجراءات التقليدية أو المحسوبية التي قد ترافق التحقيقات في وكالة الشرطة العادية”. 

إجراءات حصر السلاح

يقول المتحدث باسم وزارة الداخلية مقداد ميري، أن التعامل مع الدكَة العشائرية على أنها جرائم إرهابية وفقاً لأحكام المادة 2 من قانون الإرهاب لعام 2005، يعني فرض عقوبات صارمة ضد المتورطين بها، مثل السجن المؤبد. وهو يرى أن ذلك قد حد منها نوعاً ما.

ويقول إن ملف “حصر السلاح بيد الدولة” هو أحد التحديات الكبرى التي تواجه الحكومة ووزارة الداخلية، “كوننا نواجه إرثا طويلاً من النزاعات العشائرية وحيازة السلاح خارج سيطرة الدولة” (في إشارة الى الجماعات المسلحة)، ويعتقد أن المعالجة الشاملة للملف تتطلب وقتاً “لا يمكن تحديده” وبالتنسيق بين الكثير من المؤسسات.

ويشير ميري، إلى أن وزارة الداخلية بدأت في عام 2023 بتنفيذ برنامج وصفه بالطموح “لإعادة تنظيم السلاح في العراق”، ويوضح: “شكلنا لجنة متخصصة تضم ممثلين من 14 وزارة ومؤسسة تحت إشراف وزارة الداخلية، وبدأنا بإنشاء 697 مركزاً في جميع أنحاء البلاد لتنظيم عملية تسجيل السلاح الخفيف كمرحلة أولى”. 

وفي العام 2024 انتقل البرنامج إلى مرحلة تالية، تمثلت بشراء الأسلحة المتوسطة من المواطنين “بمن فيهم أبناء العشائر” ضمن جهد حكومي يستهدف “احتواء ظاهرة الدكَة العشائرية التي تجذرت في المجتمع العراقي وتركزت في محافظات جنوب البلاد، مثل ميسان والبصرة والناصرية”.

وبهدف إنجاح برنامج حصر السلام، مُدِّدت فترة العمل به، بحسب ميري، حتى 31 كانون الثاني/ يناير 2025، وبعدها بدأ العمل بالمرحلة الثالثة المتمثلة بـ”عمليات دهم وتفتيش لمصادرة الأسلحة غير المسجلة والمتوسطة”.

15 طناً من السلاح الثقيل

عن النتائج المتحققة لحملة الحد من السلاح المنفلت، يقول المتحدث باسم اللجنة الوطنية لتنظيم السلاح وحصره بيد الدولة، العميد زياد القيسي، أن المرحلة الأولى شهدت تسجيل 10500 قطعة سلاح خفيف: “منحنا أصحابها إجازات حيازة للاحتفاظ بها داخل المنازل فقط”. 

ويقول إن المرحلة الثانية، شهدت شراء أسلحة متوسطة من المواطنين بأسعار تراوحت بين 3 إلى 5 مليون دينار “حسب جودة السلاح المسلم”، بينما صودرت 15 طناً من السلاح الثقيل بما في ذلك المستخدمة في النزاعات.

ويشير الى أن اللجنة وحّدت أيضاً جهودها لدفع العشائر والمراجع الدينية الى العمل على “نبذ ثقافة الدكة العشائرية”، وحصلنا على تعهدات من شيوخ العشائر بتسليم المتهمين في قضايا الدكة العشائرية مع أسلحتهم، وهو ما يعد خطوة مهمة نحو الأمن المجتمعي، على حد تعبيره. 

إحصاءات المتحدث باسم وزارة الداخلية والتفاؤل الذي يظهر في تصريحات ممثليها، يقاطعهما واقع الحال في بغداد، فمنذ منتصف كانون الثاني/ يناير2025 تم تسجيل أربعة دكات عشائرية، في مناطق “الزعفرانية، المدائن، المحمودية، والشعلة”، كما شهدت محافظات البصرة وميسان وذي قار وقوع أربعة نزاعات عشائرية.

وتظهر مقاطع فيديو متداولة على وسائل التواصل، تبادل إطلاق نار كثيف يستمر لساعات وتستخدم فيه أسلحة متوسطة، بخاصة في المحافظات الجنوبية، ما يهدد حياة مواطنين ليست لهم علاقة بالنزاع، كما أنه يتسبب بتعطيل الحياة لأيام بعد كل جولة اشتباك. 

ووفقاً لشهادات أبناء تلك المناطق، فقد أسفرت النزاعات الأخيرة عن سقوط ضحايا، الى جانب ترويع الأهالي وإلحاق أضرار بالكثير من المنازل، ما دفع بعض العائلات إلى مغادرة منازلها وهي حالة شائعة بعد كل اشتباك أو تهديد عشائري.

أرقام رسمية

أظهرت إحصاءات وزارة الداخلية، التي اطلع عليها معد التقرير، الخاصة بالنزاعات العشائرية في عام 2024 انخفاضا بنسبة 30 في المئة في عدد النزاعات العشائرية المسجلة مقارنة بعام 2023، فقد تم تسجيل 320 نزاعاً عشائرياً، مقابل 460 نزاعاً في عام 2023.

وسجلت تلك الإحصاءات انخفاضاً بنسبة 35 في المئة في أعداد الضحايا الناتجة من النزاعات العشائرية، إذ بلغت 150 شخصاً في عام 2024، بينما سقط 230 شخصاً في عام 2023.

أما في ما يخص النزاعات العشائرية التي تطورت إلى أعمال عنف مسلح، فقد انخفضت بنسبة 25 في المئة، إذ تم تسجيل 80 حالة تطورت إلى عنف مسلح في عام 2024، مقارنة بـ 110 حالات في عام 2023.

من جهة أخرى، شهدت الجهود المبذولة للمصالحة العشائرية زيادة ملحوظة بنسبة 40 في المئة في عدد الاتفاقيات الموقعة بين العشائر، فقد تم توقيع 200 اتفاقية في عام 2024، مقارنة بـ 140 اتفاقية في عام 2023.

وتظهر الأرقام الرسمية تضاعف عدد الأسلحة التي ضُبطت في العام 2024، ما حد من عدد النزاعات، كما يبدو. ففي العام 2023، اعتُقل 1209 متهماً على خلفية نزاعات عشائرية، وُضبطت 9909 قطعة سلاح من مختلف الأنواع، بينما سجل في العام 2024، وبعد تكثيف الشرطة الاتحادية لعملياتها الأمنية، اعتقال 22361 شخصاً، من بينهم متهمون في نزاعات عشائرية، وصودرت 95442 قطعة سلاح وكميات كبيرة من الذخيرة والمقذوفات. 

ويحذر عضو مجلس النواب عن محافظة البصرة هيثم الفهد، من تداعيات استمرار النزاعات العشائرية وظاهرة الدكة، ويقول “السلم المجتمعي لا يمكن أن يتم في ظل وجود سلاح منفلت منتشر بين الشباب والعشائر، وبعضه بيد الميليشيات” ويتم رفعه والتهديد به مع كل خلاف.

ويضيف: “قوانين وقرارات عدة لم تنفذ بشكل فعال بسبب الضغوطات والمحاباة، ما أدى إلى استمرار ظاهرة الدكة العشائرية”، في إشارة الى عدم اعتقال المتورطين في الكثير من النزاعات بسبب مواقعهم العشائرية أو في أجهزة الدولة.

ويكشف عن فكرة قال إنه طرحها في مجلس النواب تهدف إلى “تجريم من يروج أو ينشر هذه الظاهرة على مواقع التواصل الاجتماعي، مع معاملتهم كما لو كانوا إرهابيين”. ويستدرك: “لا يحق لأي شخص ترويع المواطنين أو الأطفال، أو بث الخوف والقتل في المجتمع”. 

الفقر واستمرار المشكلة

على الرغم من الجهود الحكومية لمكافحة النزاعات الاجتماعية التي تستخدم فيها الأسلحة بما فيها الدكة العشائرية، لكن نشطاء مدنيين ومراقبون للظاهرة، يشككون في نسبة التراجع المعلنة من الأجهزة الأمنية، ويؤكدون أن الكثير من النزاعات يبدو أنها لا تسجل.

يقول الشيخ محسن البطاط، من محافظة ميسان، إن الظاهرة مستمرة، إذ سجلت المحافظة أكثر من 180 نزاعاً خلال عام 2024 تنوعت أسبابها بين صراعات على الأرض او “مشاكل مع الشركات النفطية، أو نزاعات على الأراضي التابعة للمواطنين، والتي استغلتها شركات استثمارية”. 

ويصف ما يحدث قائلاً: “يطلقون نيران أسلحتهم من مسافات مختلفة على البيوت والسيارات، ويتم ترويع الناس، ويسقط ضحايا”.

ويرى البطاط أن الحل في النهاية يكمن في حصر السلاح بيد الدولة، وأن يكون القانون “هو الفيصل في حل جميع المشاكل بين الأفراد والجماعات”. 

بدوره، يؤكد الشيخ محمد الجابري، رئيس رابطة العشائر العراقية للتفاوض وحل النزاعات، استمرار ظاهرة النزاعات العشائرية المسلحة، سواء في بغداد أو محافظات الجنوب، ويقول إن “الذين يقومون بها هم من أبناء العشائر أو أشخاص يتم تأجيرهم لتنفيذ المهمة مقابل أموال طائلة”. 

ويرى أن تطبيق القانون لمكافحة النزاعات العشائرية المسلحة، لا يزال قاصراً: “فهناك بطء في تطبيق الإجراءات القانونية والأمنية تجاه مرتكبي هذه الجرائم”. 

ويلقي باللائمة أيضاً على من يصفهم بـ”الدخلاء على المشيخة” لأنهم وحسب تعبيره أصبحوا شيوخاً جدداً على الساحة بفضل المال، وهم الذين يتسببون بالمشاكل والاضطرابات كالدكَة وغيرها!

لكن أمين عام المجلس المركزي لشيوخ عشائر العراق، الشيخ علي الدليمي، يضيف سبباً آخر الى استمرار النزاعات المسلحة، وهو الفقر المنتشر في وسط البلاد وجنوبها، “بسببه تتطور المشاكل بين الأفراد لتصل الى العنف واستخدام السلاح في طريقة تنم عن الجهل”.

وهو ما يشير إليه أيضا، رئيس محكمة الاستئناف في محافظ البصرة أقصى جنوب العراق، عادل عبد الرزاق، إذ قال خلال مقابلة مع صحيفة القضاء الإلكترونية في شباط/ فبراير 2024، إن جفاف الأهوار وتلاشي الزراعة وانتشار البطالة، أمور عمقت النزاعات العشائرية المسلحة في المحافظة. 

وأضاف الى ذلك دخول الاستثمارات النفطية لأراضي مناطق العشائر، وتعويضات الدولة للبعض منها، وتسبب ذلك بنشوب “معارك قبلية” على عائدية الأرض. وبين أن ظاهرة النزاعات العشائرية المسلحة تنتشر منذ عقود في البصرة “إلا أنها استفحلت بعد سنة 2003” أي بعد انهيار النظام العراقي السابق.

ولفت إلى أن النزاعات العشائرية تتركز في شمال محافظة البصرة ولا سيما “قضاء القرنة والمدينة والدير وناحية الهارثة”، مؤكداً أن السلطات التنفيذية اتخذت إجراءات عدة خلال السنوات الأخيرة، بهدف إنهاء تلك النزاعات، منها “القبض على عدد كبير من مثيري النزاعات العشائرية وإحالتهم إلى محاكم الجنايات وصدرت الأحكام بحقهم”.

الدروع العشائرية لجني المال

اللواء الحقوقي سلمان الحسناوي، من مديرية شؤون العشائر بوزارة الداخلية، يكشف عن ظهور مجاميع مسلحة تتبع بعض العشائر، تطلق على نفسها اسم “الدروع العشائرية”، وتتبنى مهمة الدفاع عن العشيرة وتنفيذ الدكات العشائرية أو إثارة النزاعات مقابل مبالغ مالية.

قوام هذه المجاميع، أفراد يكونون غالباً عاطلين من العمل، فيحصلون بذلك على بعض المال من الطرف الذي يدعو للدكَة أو يشرف عليها، وهذا يدعم ما ذهب إليه الشيخ علي الدليمي في إشارته الى الفقر كسبب للدكَة العشائرية.

أما الشيخ صدام العطواني من بغداد، فيشير إلى وجود أشخاص يدعون انتماءهم الى العشائر: “أصبحت مهنتهم جني الأموال من تنفيذ جريمة الدكَة العشائرية”، ويوضح :”بعض الأشخاص يدعون المشيخة، ويحيطون أنفسهم بمجموعة من الأفراد يستخدمونهم في تنفيذ الدكة العشائرية، وتهديد المواطنين الضعفاء”. 

وبالعودة إلى الحسناوي، فهو يعتبر هذه المجاميع المسلحة مخالفة وبنحو صريح للقانون، ويلفت إلى أن المادة 9/ب من الدستور العراقي النافذ “يحظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة”، وأن وزارة الداخلية تعاملت مع”الدروع العشائرية” وفقاً لهذا المنطلق. وتم اتخاذ إجراءات قانونية ضد هذه المجاميع المسلحة.

وفي ما يخص المتضررين من الدكات العشائرية، يؤكد الحسناوي، أن بإمكانهم اللجوء إلى القضاء لرفع دعاوى ضد المتورطين “حتى ضد شيوخ العشائر الذين قد يكونون جزءاً منها”. 

وغالباً يحصل منفذو الدكات والشيوخ المشرفون عليها، على أموال بشكل مباشر أو غير مباشر، كما يحصل الشيوخ على جزء من مبالغ التسويات المالية المرتبطة بالنزاعات بين الأفراد التي يتم الفصل فيها داخل مجالس العشائر.  

من جانبه يؤكد اللواء فاخر الزيدي، مدير شؤون العشائر في جهاز الأمن الوطني، أن المديرية تتابع الظواهر السلبية المرتبطة بتحركات بعض العشائر خارج القانون، وتعمل على القضاء عليها، فضلاً عن رصد التجمعات العشائرية المسلحة مثل “الدروع العشائرية” وتجريمها.

ويوضح اللواء الزيدي أن المديرية تسعى إلى تهذيب وتعديل العادات والتقاليد العشائرية بما يتماشى مع القيم المجتمعية المعاصرة، والمساهمة الفعالة في حل النزاعات المسلحة التي تهدد أمن الدولة، كما تعمل على متابعة قضايا مدعي المشيخة والأشخاص الذين يثيرون النزاعات في الاجتماعات العشائرية. 

كل تلك الإجراءات، ما زالت غير كافية لإنهاء القصص المأساوية للنزاعات العشائرية، حيث يسقط مئات الضحايا سنوياً ويبقى الجاني طليقاً أو غير معروف الهوية، كان مصطفى عادل (23 سنة) واحداً منهم. فالأب لطفلين، خسر حياته في نيسان/ أبريل 2024 إثر رصاصة اخترقت ظهره، أثناء مروره في موقع شهد نزاعاً عشائرياً.

عائلة الشاب التي تسكن منطقة الكمالية شرق بغداد، تؤكد أن مصطفى كان لحظتها برفقة شقيقه الأصغر على دراجة نارية، عندما وجدا نفسيهما وسط إطلاق نار كثيف أدى الى إصابته.

يقول والده إنه تلقى يومها اتصالاً من المستشفى أفاد بإصابة ابنه البكر، فهرع الى هناك وهو لا يفهم ما حصل. يصمت برهة ثم يواصل بعينين دامعتين: “كانت أمه معي، وجدناه مغطى بالدماء ويلفظ آخر أنفاسه”. يبكي الوالد بحرقة ثم يضيف ويده على جبينه: “لم يستطع الأطباء فعل شيء، مات بين أيدينا، تاركاً طفلين وزوجة شابة”. 

لم تفض الشكوى التي تقدم بها والد مصطفى إلى شيء، على الرغم من مرور نحو عشرة أشهر، فلا جناة معروفين بالاسم ليلاحقوا. يقول: “لا أحد يعرف من أطلق النار، وبهذا ضاع حقنا في معاقبة الجاني، ورحل ابني بلا ذنب، تاركاً عائلة بلا معيل لا أحد يسأل عن مصيرها”.

أنُجز التقرير بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية.

17.04.2025
زمن القراءة: 16 minutes
|
آخر القصص
وثائق إيلي كوهين تعود إلى تل أبيب: حفظ الحقيقة أم تكريس للسلطة الاستعمارية؟
جيفري كرم - أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية | 23.05.2025
شهر على جيرة البحيرة
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 23.05.2025

اشترك بنشرتنا البريدية