قبل عامين، أعلن الممثل الراحل مصطفى درويش تبرؤه من فيلم “الملحد”، الذي صوّر 4 أيام فيه بحسب منشوره على مواقع التواصل الاجتماعي، ليس بسبب قصته، فهو أكد في المنشور نفسه أن الفيلم ليس فيه ما يسيء الى الدين أو يشجع على الإلحاد، بل لأن مؤلف الفيلم هو إبراهيم عيسى، معلناً أيضاً مقاطعة برامج عيسى كافة على خلفية تصريحات الأخير حول إنكاره الإسراء والمعراج، متهماً المؤلف بممارسة حرب ممنهجة على الإسلام.
تأكيدات درويش أن الفيلم لا يشجع على الإلحاد، لم تشفع له لدى جمهور السلفيين، الذين طالبوا بمنع الفيلم على مواقع التواصل الاجتماعي، بل وصل الأمر إلى لعن المشاركين كافة في الفيلم، ليتحول الى أزمة ما بين تصريحات تؤكد منعه، وتصريحات أخرى تقول إنه أُجِّل فقط لإنهاء بعض عمليات الإنتاج غير المكتملة.
بين المنع والتأجيل
في مطلع الشهر الحالي، أطلق المنتج أحمد السبكي الإعلان الترويجي للفيلم، بالتزامن مع موعد طرحه في دور السينما، في 14 آب/ أغسطس الحالي.
إعلان الفيلم لاقى الكثير من الهجوم، ومن أبرز الانتقادات التي وُجهت إليه تصوير المتديّن على أنه شخص عنيف، وهو الانتقاد الذي وجهه اليوتيوبر الإسلامي محمد الفرماوي الذي نشر فيديو تحت عنوان “مطلعين الشيخ بيعض الناس في الفيلم” عقب طرح الإعلان الترويجي له بأقل من 24 ساعة فقط.
طبقاً لإعلان الفيلم، فإنه يروي قصة الشاب يحيى ابن الشيخ حافظ، أحد أقطاب السلفية، الذي يطبّق ما يعتبره شرع الله بيده مع جماعته، ويعلن على المنبر أن أي شخص يعرف ملحداً عليه أن يقوم باستتابته 3 أيام ثم قتله إذا لم يرجع عن إلحاده، قبل أن يعلن ابنه يحيى بأنه ملحد، لتدور تجربة بين الأب الذي يجد نفسه في حيرة ما بين تطبيق ما قاله على المنبر وبين حبه لابنه يحيى، وبين الابن الذي يرفض أن يتراجع، فيقرر الأب عمل جلسة استتابة لابنه، وسط رجاء ليحيى من باقي العائلة بأن يتراجع عما قاله حتى لو بالكذب.
قبل يومين فقط من الموعد المقرر، فوجئ الجمهور بتصريح المنتج محمد العدل عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي عن المنع بقوله: “الفكر يتواجه بالفكر مش بالمنع والحكم للناس!”. وقبل أن يعلن عن موعد عرض الفيلم، تقدّم بالاعتذار لأصدقائه الذين دعاهم لحضور الفيلم، معلناً أنه لا يعرف سبب عدم عرض الفيلم في موعده، وأن الإجابة موجودة لدى الرقيب، ناشراً صورة من تصريح الرقابة، ونص الجملة التي كتبت الرقابة في الورقة الأخيرة من السيناريو، وهي “الفيلم لا يشوه الدين الإسلامي قط بل يكشف الحجاب عن بعض الذين يفسرون الإسلام على أهوائهم”.
أما مؤلف الفيلم إبراهيم عيسى، فدخل على خط مهاجمة المنع عبر حسابه على موقع “X”، إذ نشر قائلاً: “ماذا فعل العظيم نجيب محفوظ حين منعوا روايته أولاد حارتنا؟ كتب رواية جديدة، ماذا فعل العظيم عبدالرحمن الشرقاوي حين منعوا عرض مسرحيته “الحسين ثائرا” كتب مسرحية جديدة، واستمرت أولاد حارتنا والحسين ثائراً يقرأها جيل وراء جيل وعاشت كلماتهم خالدة في الوجدان والعقل… الفن أقوى من المنع ومن الرصاص بل ومن الموت، يموت المفكر وتخلد الفكرة. يموت الفنان ويخلد فنه”.
كذلك نشر عيسى عبر حسابه صورة من مادتي الدستور 65 و67 المتعلقتين بحرية الرأي والتعبير، معلقاً عليها بقوله: “الملحد ليس مجرد فيلم سينمائي بل هي الدولة المدنية الحديثة التي ندافع عنها ونحترم دستورها”.
في المقابل، نفى منتج الفيلم منعه من العرض، قائلاً إن عرضه تأخر لاستكمال أعمال المكساج، وإنه سيعرض نهاية العام. لكن المخرج محمد العدل نفي ذلك معلناً أن الفيلم تم الانتهاء من مراحله كافة.
ليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها منع الفيلم، فقد تم تأجيل تصويره قبل ذلك بسبب دعوى قضائية أقامها المخرج نادر سيف الدين ضد الفيلم، نظراً الى إخراجه فيلماً عام 2014 بالاسم نفسه، “الملحد”، على رغم أنه لم يلاقِ أي نجاح، ولم يحقق أكثر من 133 ألف جنيه، ما اضطر العدل إلى تغيير اسمه إلى “يحيى”، وتم الانتهاء من تصويره في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، قبل أن يتعطّل عرضه مرة أخرى من دون الإعلان عن تفاصيل.
قبل أيام عدة، تقدّم محامٍ مصري بإنذار رسمي لوزارة الثقافة لتغيير اسم فيلم “الملحد” للمرة الثالثة، باعتبار أنه يوحي بأن لاسم الملحد كياناً مؤثراً في المجتمع، وفكرة الإلحاد هي فكرة جديرة بالمناقشة تقف على مستوى واحد مع فكرة التدين، وترقية لقيم الإلحاد الى مرتبة لا يستحقّها.
إقرأوا أيضاً:
هل إبراهيم عيسى السبب؟
في السينما المصرية، تداولت أفلام كثيرة الإلحاد، بداية من فيلم “الشحات” المأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ تحمل الاسم نفسه، ثم “الأخوة الأعداء”، و”لقاء هناك”، و”الرقص مع الشيطان”، إضافة الى الأفلام الثلاثة الأخيرة من بطولة نور الشريف، صاحب أكبر نصيب من أدوار الإلحاد في السينما المصرية، وأخيراً فيلم “الملحد” 2014.
لم يتم منع أي من الأفلام المذكورة من العرض السينمائي أو حتى التلفزيوني، وكلّها انتهت أحداثها بعودة البطل مرة أخرى عن الإلحاد الى الدين بصور مختلفة. ففي “الشحات”، عاد البطل الى الدين عبر التصوف، وفي “لقاء هناك” عاد بإرادته الحرة بعيداً عن ضغط والده الذي كان السبب في إلحاده.
أثارت الأعمال الفنية التي قدّمها عيسى الجدل، بداية من فيلم “مولانا”، ثم “الضيف” و”صاحب المقام”. كذلك، خاض فاتن أمل حربي عبر مسلسلاته، معركة ضخمة مع مؤسسة الأزهر بسبب قوانين الأحوال الشخصية. ولا يقتصر الجدل فقط على محتوى هذه الأعمال، وإنما بسبب شخصية إبراهيم عيسى نفسه، وتصريحاته التي يراجع فيها التراث الإسلامي بلا خوف. إلا أن لفيلم “الملحد” خصوصية تتعلق بأن موعد عرضه جاء بعد شهور قليلة من أزمة مؤسسة “تكوين” للفكر العربي.
“تكوين” هي مؤسسة بحثية أُسست في أيار/ مايو الماضي، وتهدف إلى نشر التنوير الفكري ومحاربة الأفكار الدينية المتطرفة. وقد لاقت هجوماً من المؤسسات الدينية ورجال الدين، على رأسهم أسامة الأزهري وزير الأوقاف الحالي، بالإضافة إلى الكاتب الصحافي مصطفى بكري الذي قدم بياناً عاجلاً لمجلس الوزراء حول تأسيس المؤسسة.
وعلى رغم استقالة يوسف زيدان من رئاسة مجلس أمنائها، إلا أن المؤسسة ما زالت مستمرة، وتمتلئ صفحتها على مواقع التواصل الاجتماعي بفيديوهات لإبراهيم عيسى يناقش فيها الكثير من الأفكار الدينية والتاريخ الاسلامي.
كان إبراهيم عيسى كلمة السر في أسباب الغضب من الفيلم، وبحسب تصريحات إعلامية للناقد الفني طارق الشناوي، فإن المرجح أن الحملة ضد الفيلم تسببت في تدخل مسؤول كبير لم يحدّد اسمه، طالباً من المنتج أحمد السبكي شفهياً عدم عرض الفيلم ولكن من دون قرار رسمي، متهماً وسائل التواصل الاجتماعي بالتسبب في الأزمة، وأن السوشيال ميديا أصبحت تقود الساحة الفنية والمسؤولين أيضاً، قبل أن يعود ويصرح بأن الأزمة ستنتهي خلال أسبوع.
قد تنتهي بالفعل أزمة الفيلم ويخرج الى النور أخيراً بعد سنوات من التأجيل، وقد لا تنتهي ويُمنع الفيلم نهائياً ليعرض بعد سنوات أو أسابيع على المنصات العالمية. لكن في النهاية، يظل “الملحد” عالقاً في الذاكرة بكونه الفيلم الذي خضعت فيه الساحة الفنية في مصر لمزاج السلفيين وسطوتهم وسلطتهم.