قد يتعجّب المرء وهو يتابع التطورات الاجتماعية في السعودية، التي تمكنت في وقت قصير نسبياً، من الانتقال من طغيان السلطة الدينية إلى الانفتاح ومواكبة التطورات العالمية. ومع ذلك، أقدمت على إزالة سلطة الغطاء الديني واقعياً، لتتوشّح افتراضياً بأسماء مزيّفة وحسابات وهمية، تطغى على مواقع التواصل الاجتماعي، بخاصة منصة “إكس” (تويتر سابقاً).
هذه المنصة التي عُرفت في مرحلة الربيع العربي وما تلاه، بأنها الأكثر استخداماً في السعودية؛ بأسماء في غالبيتها صريحة، باتت اليوم مساحة للتراشق بين الناشطين، أو من يحاولون خلق حزب معارض من خارج البلاد وبين أبواق النظام. لكن وعلى عكس التوقعات، ولعّله من المثير للدهشة، تخفّي الأصوات المؤيدة خلف حسابات وهمية، مقابل ظهور الناشطين في الخارج بأسمائهم الصريحة.
شهدت المملكة العربية السعودية تغييرات اجتماعية خلال السنوات الأخيرة، بخاصة في ما يتعلق بأوضاع النساء. تاريخياً، كانت النساء اللواتي يطمحن الى العمل في مجالات مثل الإعلام والكتابة، غالباً ما يضطررن للاختباء خلف أسماء مستعارة بسبب الضغوط الاجتماعية وتأثير الشرطة الدينية.
استغرق الأمر وقتاً وجهداً كبيرين، حتى تمكنت النساء من كسر هذه الحواجز، فخضن معركة مواجهة مع المجتمع السعودي ضد معايير مزدوجة تحدّ من رؤيتهن ومشاركتهن في الحياة العامة، فضلاً عن حرمانهن من دراسة الصحافة والإعلام مثل نظرائهن الذكور، وبالتالي لم يُسمح لهن بالعمل في التلفزيون أو الراديو، بشكل رئيسي، بسبب تنفيذ الشرطة الدينية تفسيرات محافظة للإسلام.
وأخيراً، أدت المثابرة والصلابة لدى نساء سعوديات إلى تغييرات تدريجية، ما أتاح لهن دخول هذه المجالات، وأصبحن شخصيات عامة مرئية، مثلها مثل مجالات عدة تمكنت المرأة السعودية منها بعد عقود من الإصرار، لكن نجاحاتها تُنسب اليوم الى رؤية لم تكمل العقد من عمرها!
اليوم، وعلى رغم أن الصورة الدولية العامة تؤكد ظهور التغييرات الاجتماعية في إطار ما تقدمه السعودية تحت رؤية 2030، وامتلاك النساء في السعودية فرصاً أكثر من أي وقت مضى، إذ بات بإمكانهن القيادة، والسفر من دون وصاية، والمشاركة بحرية أكبر في القوى العاملة، بما في ذلك الإعلام والصحافة، لكن ما نفع ذلك كله وأصواتهن ما عادت مسموعة؟!
ليس هنّ فحسب، بل أطياف المجتمع السعودي كافة! أين هو؟ لماذا لا نسمع أصواته في أبسط مطالبه اليومية؟ كيف يمكن لنا أن نصدق أن مجتمعاً كاملاً انقلب في مدة قصيرة من مُطالب وذي رأي إلى خامد هكذا تقوده في الغالب حسابات وهمية وأسماء لا يعرفها أحد داخل البلاد!
إقرأوا أيضاً:
هذه التغييرات تثير تساؤلات لا تنتهي حول التغييرات الأساسية في هياكل السلطة والديناميات الاجتماعية داخل المملكة.
ففي الصورة العامة، بات سعوديون كثر، بمن فيهم النساء، يستخدمون أسماء مستعارة وملفات شخصية مجهولة، لكنها في واقع الأمر، غالباً ما تكون هذه الحسابات “ذباباً” أو تُدار من جهات حكومية في البلاد، فقلة من السعوديين يجرأون اليوم على استخدام المنصة مثلما اعتادوا سابقاً، وسط أخبار متابعة أحوال الاعتقالات والأحكام التعسفية، التي قضت بسجن البعض بسبب حساباته على منصة “إكس”، مثل سلمى الشهاب ونورة القحطاني، لمدة تجاوزت الأربعة عقود!
يشير هذا الاتجاه إلى أنه على الرغم من المظهر الخارجي للإصلاح، لا تزال هناك قيود كبيرة على حرية التعبير، فالخوف من الانتقام من الحكومة أو رد الفعل الاجتماعي، يجبر الكثيرين على إخفاء هوياتهم الحقيقية عبر الإنترنت، أو محو حساباتهم من الأساس، ما يدل على تحوّل الحالة في البلاد خلال أقل من عقد، من الشرطة الدينية إلى الشرطة الحكومية التعسّفية.
كان التحوّل من الشرطة الدينية إلى الشرطة الحكومية مهماً. ففيما كانت الأولى تركز على فرض الممارسات الدينية المحافظة، تهتم الأخيرة أكثر بالتحكم في الخطاب السياسي والحفاظ على رواية واحدة. أدى هذا التحول إلى نوع مختلف من القمع، إذ تحوّل الصراع من الحرية الدينية والاجتماعية إلى الحرية في التعبير. ونظرة فاحصة على مشهد الإعلام والصحافة اليوم تكشف عن غياب ملحوظ للأسماء التي كانت نشطة وشعبية قبل عقد من الزمان.
هذه التغييرات لم تقتصر على الوجوه والأسماء في الإعلام، بل شملت الاقتصاد والسياسة وحتى النخب الدينية وأثرياء البلاد. وفي كثير من النواحي، نجحت السعودية في هندسة دولة برأي واحد، حيث يكون التنوع في الفكر والتعبير محدوداً بشدة.
لذا، فإن استمرار الرقابة والسيطرة يشير إلى أن الرحلة نحو الحرية الحقيقية والتنوع في التعبير قد اندثرت. ولعل المعيار الحقيقي للتقدم هو كيفية مواصلة السعودية موازنة هذه التغييرات مع الحرية الحقيقية والتنوع في الفكر، وضمان أن يتم سماع أصوات جميع مواطنيها من دون خوف من الانتقام.
إقرأوا أيضاً: