fbpx

“المُمانعون الجُدد”: بلاغة التغنّي بـ”المرابطين” وتُهم “التصهين”!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ظهر مُصطلح “الممانعون الجدد” بالتزامن مع هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر، كاشفاً عن عقليات ما زالت أسيرة الحميّة وبلاغة “النصر”، تلك التي يدفع ثمنها المدنيون، الذين تُلاك أشلاؤهم التي شلّعتها ماكينة القتل الإسرائيليّة بألسنة المتشدّقين، المُحتفين بـ”استثنائيّة” لحظة “طوفان الأقصى”، وقدرتها على قلب الموازين والبيوت فوق رؤوس أصحابها، الذين لا قرار لهم سوى وزن أشلاء أحبائهم الذين سحقتهم ماكينة القتل الإسرائيليّة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

 “الممُانعون الجدد” ذوو موقف يثير الدهشة، فئة كتبت وغنت و”اشتهرت” بالتزامن مع الثورة في سوريا وخراب مُدنها، فئة ممن استقبلوا اللاجئين السوريين الهاربين من بطش السلاح الإيراني في يد النظام السوري وحزب الله، لكنهم بعد هزائم الربيع العربي المتتالية، وفشل نموذج الثورات، وانتصار الديكتاتوريات التي يدفع أثمانها المهجّرون غرقاً في البحر المتوسط، عادوا إلى بلاغة “ما قبل الربيع العربيّ”،  بوصفها الخيار الآمن في ظل ما حدث في 7 تشرين الأول، بلاغة لا تحوي أي مواجهة مع الوضع القائم وأنظمته وميليشياته، حيث مخازن السلاح بين المدنيين، والموت يهبط من السماء ساعة يريد.

هؤلاء “الممانعون الجُدد” المفرطون في “استقلاليتهم” عن السلطة/ الميليشيا، تحولوا إلى مؤيدين لـ”الاشتباك” وضرورة “دحر العدو”، والتعلم من دروس البطولة التي تقدمّ بين جدران غزّة المهدمة، فئة تفسّر تقنيات عمل “درون الهدهد” التابع لحزب الله وتتغنى بعمق وصولها بينما الطائرات الإسرائيليّة تهشّم جدار الصوت فوق رؤوسهم، وعصيّ الشرطة الألمانية تهدّد قحافهم إن هم رفعوا علم فلسطين.

يتجاهل “الممانعون الجدد” بتغنّيهم بـ”المرابطين”، أنهم ينزعون الفاعلية السياسية، بل والحق باختيار الحياة والموت من أيدي الغزيين والجنوبيين اللبنانيين والسوريين المهددين بالقصف أيضاً، عبر التأكيد بأنهم “ثمن” و”أضرار جانبيّة” من أجل النصر، الكلمات التي تُهمس  همساً أو يصمت عنها، فنساء غزّة الحوامل قادرات على تعويض “الخسائر”.

هم فئة مُريبة أولئك الجُدد، تحتفي بـ”الجمهور” الذي يُعرفون أفراده اسماً اسماً عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، لا “الجماهير المهزومة” العاجزة والغارقة في مآسيها اليوميّة، لكنهم في الوقت ذاته، أي الممانعين الجدد، على مسافة “نقديّة” فقط في ما يخص سلطة الأمر الواقع، فالأخيرة مُخيفة ومسلم بأمرها، وصاحبة السطوة والقرار الذي تقع نتائجه على “جمهور المقاومة” في جنوب لبنان مثلاً، حيث يختبر الجنوبيون قرار الحرب والتهجير وحقيقة “اللحمة الوطنيّة” التي تتحكم بالإيجارات.

يشكّل الممانعون الجدد Community لا Society،  هم  شبان وشابات  أجادوا التنكر، بعضهم ذوو أجساد موشومة وينتصرون للحرية الفرديّة بشدة، في حين يعتبرون حرية الكتلة البشرية الغزيّة شأناً إشكالياً أو أنهم يتجاهلونها، هم معاصرون جداً، دخّنوا  مع المنشقّين عن الجيش السوري السجائر الملغومة، وشتموا “الغرب” و”مؤسساته الماليّة”، هؤلاء من طرابلس إلى بيروت،  من مخيم اليرموك إلى مخيم عين الحلوة، من باريس إلى برلين،  أصدقاء.

 تبنى بعض هؤلاء مفهوم “الأمّة” الذي يتشابه مع كلمة “عرب” التي يتبناها الخطاب الإسرائيلي، الذي يرى الغزيين و”كل” من حولهم من لدنة واحدة، متشابهين، يمكن نقلهم بين الجغرافيات “العربية” من دون مشكلة، في النهاية هم كلهم “أمّة”، الكلمة التي يرى بعض الممانعون الجدد أنها وسيلة لــ”مواجه الاستعمار” بعدما فشلت دراسات التظلم ونزع الاستعمار في إيقاف المقتلة، واقتصرت على تدريب الناشطين وتخريج الباحثين في دراسات الشرق الأوسط!

الـ”قدسية” المُفترضة لعملية “طوفان الأقصى” جعلتها محاطة بهالة لا يمكن انتقادها، يصونها “المُمانعون الجدد” عبر “نشر الوعي” ومنع التفكير بهذه “العملية” حتى ضمن قواعد الاشتباك العسكرية، المسموح فقط التغني بشجاعة أن تستهدف دبابة إسرائيلية ثم تختفي تحت الأرض لأن “رمضان الجاية بالأقصى”.

 هذه الفئة عادت إلى ما قبل 2011، إلى زمن الديكتاتوريات التي تمنعنا من شتمها وتغرقنا في الخوف والصمت، لكنها تبيح شتم إسرائيل، وهنا بالضبط تحول “الأصدقاء” إلى “ممانعين جُدد” يتغنون بــ”الرباط على الثغور”، ويهمسون سراً بضرورة “المقاومة”، لا مقاومة الموت، ولا المقاومة بمعناها الرومانسي، بل مقاومة تبدو غامضة، تتغنى بالآني والفرديّ والشجاع الذي يصلح لمنشور فيسبوك أو صورة إنستغرام، في تجاهل للقوى السياسية القائمة وتاريخها.

الغُموض المُتعمّد

 هناك غموض في مصطلحات “الممُانعين الجدد”، إذ تكثر أبيات التغنّي بالمُثلث الأحمر الذي يستهدف “العدو”، والتأكيد على شدة المعركة وسطوة المقاتلين بالقمصان الممزقة، لكن أمام كل فيديو لمقاتل من حماس من ذوي الرمي السديد، هناك آلاف القتلى. لكن لا يهم.  إطلاق النار على “إسرائيل” يشفع لكل شيء، حتى لحياة الغزيين أنفسهم الذين تجاوز عدد موتاهم الـ40 ألفاً.

يستطيع أولئك “الجُدد” و”المستقلون” التمييز بدقة بين الأنواع الموسيقيّة، هم أيضاً قرأوا دفاتر أنطونيو غرامشي في السجن، ويقتبسون من مفهوم  “الرفض العظيم” لهيربيت ماركوزة  وذوي ملاحظات على كتاب “إدارة التوحش”، يستخدم أولئك مصطلحات تثير الريبة، كـ”المرابطين”، “عقيدة القتال” و”العلاقة مع التراث” و”الأمة”.

 موقف هؤلاء يعيدنا إلى الصورة النمطية الرثة عن “المثقف العربي” في عقود سابقة، إذ بعد إتيان “معارف الغرب” يعود إلى “التراث” ويعيد قراءته، تلك اللعنة التي لا فكاك منها، لكننا هذه المرة أمام عودة “صوفيّة/ روحانيّة” تنفض عنها غبار الماركسية وبهرجات الليبرالية الجديدة، لتقويم”النفس الأمارة بالسوء”، والإيمان بأن بندقيّة قادرة على الوقوف بوجه نظام ذكاء اصطناعيّ يولد مئات الأهداف باليوم، لكن هذه مقارنة عدميّة لا تجوز الإشارة إليها.

3 أسئلة ممنوعة!

التغني بفيديوهات القسام وقفزات المقاتلين بين الحطام نحو الدبابات، الفعل الواضح للمواجهة من “المسافة صفر” ترافقه عبارات اختزاليّة مثيرة للحيرة لدى “الممانعين الجديد”، لا حديث عن حل سياسي (دولة واحدة، حل دولتين، فيدراليات…ألخ)، بل التمسك ببلاغة مقاتلة العدو. لكن ما المقصود بدقة بـ”مقاتلة العدو”، هل هو القضاء على إسرائيل؟ أم إنقاذ الغزيين الذين يقتلون يومياً؟ أم الإطاحة بحماس واستبدالها بخيار وطني موحّد؟

 لا إجابة عن أي واحد من هذه الأسئلة، بل التأكيد على أن المعركة مستمرة، والمفارقة ألا أحد مستعدّ لخوضها من الممانعين الجدد.

كل واحد من الأسئلة السابقة بلا إجابة، بسبب مواجهة محليّة مع سلطة الميليشيا التي يتم تجاهلها عمداً، وهنا تظهر فائدة الغموض المتعمد، فـ”القضاء على إسرائيل” وحمل السلاح، يعنيان التوجه إلى الجبهات، تلك المغلقة والمسيطر عليها بدقة من حزب الله، الذي قرر زعيمه معاقبة إسرائيل بـ”الانتظار”. أما إنقاذ الغزيين، فبعد 9 أشهر من المقتلة، لا أحد بيده هذا الخيار، ربما السنوار، لكن بعد تعيينه رئيساً لحركة حماس، التواصل معه الآن صار أشدّ صعوبة.

نأتي الى الخيار الأخير، الإطاحة بحماس أو الضغط عليها، والتي يتجاهل “الممانعون الجدد” في أنحاء العالم، أن ذلك لا يتم بالتظاهرات والأغنيات والتمنيات، حتى حوار وطنيّ فلسطيني فهو غير موجود، إذاً نحن أمام مفارقة مشابهة لتلك التي أوقعنا بها حزب الله، نحن أمام ميليشيا تتحرك بين “حركة مقاومة مسلحة” و”سلطة سياسية حاكمة” التنسيق بينهما، كما في حالة حماس، ليس ضرورياً،  إذ لم تعلم القيادة السياسية في قطر ولا “الداعمون” في إيران عن الطوفان إلا بعد حدوثه!

كل مُحاولات الإجابة عن الأسئلة السابقة أو حتى طرحها، تحوّل قائلها فوراً إلى متّهم بالعمالة والصهينة لأنه يتبنى بلاغة السلطة في إسرائيل وخطابها. لكن كلما طال وقت “الانتظار” اشتدت المقتلةً دماءً، وهنا تأتي البلاغة، لنسمّهم “شهداء” هؤلاء الذين قتلوا، هكذا نتأوّل على الكلمة حيث يتحوّل القتيل إلى شاهد، وقربان رباني للنصر، لا ثمن لعوامل أرضية-ميليشياويّة- إباديّة.

أطياف العملاء وبلاغة المؤامرة

طيف المُنتقدين، من الساخرين إلى الجديين، مُتهم دوماً بـ”التصهين”، أي بصورة ما، تبني خطاب إسرائيل حين انتقاد حماس وطوفان الأقصى كخيار دمر  قطاع غزة والجنوب اللبنانيّ، وكأن انتقاد حماس يعني الصمت على جرائم إسرائيل، وهنا يأتي تبرير التهمة، يجب فقط الإشارة الى “عدو” مهما كان خيار “المقاومة” عدمياً، ويدفع نحو حرب لم يخترها أحد، تُقصف فيها 3 عواصم: دمشق، بيروت، بغداد.

فئة أشد إشكالية من الممانعين الجدد، هي جزء من الفلسطينيين الذين نفضوا سوريتهم عنهم، تحولت سوريا ودمارها الذي شملهم أيضاً إلى ذاكرة بعيدة.  بصورة ما، لا وقت الآن للحديث عن “الشر الأصغر” المتمثل بنظام الأسد وحلفائه ومن يمدّونه بالسلاح، فنحن الآن في مواجهة مع “الشر الأكبر”، أي إسرائيل.

 علاقة العداوة بين “الشريّن” هي الإشكالية، لتبدأ بعدها موازنة الضحايا، من أشد إثارة للشفقة، السوري القتيل أم الفلسطينيّ القتيل؟ أشد ما يثير الحزن (والاستغراب) هو أن يقرر من كبر وتربى وقتل معك، أن ينزع سوريته جاعلاً منك “آخر” لا يفقه معنى القتل!

أي محاولة للانتقاد تعني أننا متآمرون، متصهينون، لا بلاغة قادرة على الإشارة الى أخطاء “المقاومة” الفادحة في لبنان وغزّة من دون تخوين، خصوصاً حين ينطق بالانتقاد سوريّ، الذي اتُّهم بالتمركز حول قضيته! والتفريط بالقضية الفلسطينية، والتعامل مع الصهاينة، وعليه أيضاً عدم الشماتة بقتلى حزب الله الذين شاركوا في “عمليات عسكريّة” في سوريا!.

 هذه التهم كلها، سببها أن البعض قال إن هناك ميليشيات اختارت الحرب التي يدفع ثمنها المدنيون، ثمنٌ كَشفَ وحشية إسرائيل، تلك التي لا نعلم لمَ نحن بحاجة الى تذكرها، مع ذلك، ما زال خطاب الممانعين الجدد مستمراً بعد 9 أشهر، متبنياً فرضية هذه “ليست اللحظة المناسبة للانتقاد”، وخلال هذه الأشهر التسعة، اكتشفنا أن إسرائيل قادرة على اغتيال من تريد متى تريد من دون أي رادع!

إذاً، نموذج المقاومة بشكله الحالي (ميليشيات دينيّة مدعومة من إيران تحكم مجتمعات محلية وتعرقل الثورات والحراك السياسيّ) نموذج فاشل، لا هو “قضى على العدو”، ولا قارعه سياسياً، ولا خلق نماذج وطنيّة قادرة على الحكم، هو فقط يرمي بالناس إلى الموت لأجل فيديوهات الهدهد والسهم الأحمر وتحليلات الدوري، إذاً أي درب نحو الانتصار يتحدث عنه الممانعون الجدد سوى”رفع الوعي بالقضيّة”.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 13.09.2024

انتخابات الأردن: “الإخوان” هم الإجابة الهاشميّة عن الترانسفير 

وصول "الإخوان المسلمين"، الذين تصنفهم دول خليجية كجماعة إرهابية، إلى البرلمان، يكشف أيضاً عن طبيعة التوتر الصامت بين عمان وبين دول اتفاقات "إبراهام"، التي زادت من مخاوف الأردن الديموغرافية، بفعل عدم ربطها بين السلام وبين حق الفلسطينيين بدولة في الضفة الغربية والقدس. ولا بد والحال هذه من تذكير الدول الإبراهيمية باحتمالات السلام المجاني، و"الإخوان المسلمين"…
19.08.2024
زمن القراءة: 6 minutes

ظهر مُصطلح “الممانعون الجدد” بالتزامن مع هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر، كاشفاً عن عقليات ما زالت أسيرة الحميّة وبلاغة “النصر”، تلك التي يدفع ثمنها المدنيون، الذين تُلاك أشلاؤهم التي شلّعتها ماكينة القتل الإسرائيليّة بألسنة المتشدّقين، المُحتفين بـ”استثنائيّة” لحظة “طوفان الأقصى”، وقدرتها على قلب الموازين والبيوت فوق رؤوس أصحابها، الذين لا قرار لهم سوى وزن أشلاء أحبائهم الذين سحقتهم ماكينة القتل الإسرائيليّة.

 “الممُانعون الجدد” ذوو موقف يثير الدهشة، فئة كتبت وغنت و”اشتهرت” بالتزامن مع الثورة في سوريا وخراب مُدنها، فئة ممن استقبلوا اللاجئين السوريين الهاربين من بطش السلاح الإيراني في يد النظام السوري وحزب الله، لكنهم بعد هزائم الربيع العربي المتتالية، وفشل نموذج الثورات، وانتصار الديكتاتوريات التي يدفع أثمانها المهجّرون غرقاً في البحر المتوسط، عادوا إلى بلاغة “ما قبل الربيع العربيّ”،  بوصفها الخيار الآمن في ظل ما حدث في 7 تشرين الأول، بلاغة لا تحوي أي مواجهة مع الوضع القائم وأنظمته وميليشياته، حيث مخازن السلاح بين المدنيين، والموت يهبط من السماء ساعة يريد.

هؤلاء “الممانعون الجُدد” المفرطون في “استقلاليتهم” عن السلطة/ الميليشيا، تحولوا إلى مؤيدين لـ”الاشتباك” وضرورة “دحر العدو”، والتعلم من دروس البطولة التي تقدمّ بين جدران غزّة المهدمة، فئة تفسّر تقنيات عمل “درون الهدهد” التابع لحزب الله وتتغنى بعمق وصولها بينما الطائرات الإسرائيليّة تهشّم جدار الصوت فوق رؤوسهم، وعصيّ الشرطة الألمانية تهدّد قحافهم إن هم رفعوا علم فلسطين.

يتجاهل “الممانعون الجدد” بتغنّيهم بـ”المرابطين”، أنهم ينزعون الفاعلية السياسية، بل والحق باختيار الحياة والموت من أيدي الغزيين والجنوبيين اللبنانيين والسوريين المهددين بالقصف أيضاً، عبر التأكيد بأنهم “ثمن” و”أضرار جانبيّة” من أجل النصر، الكلمات التي تُهمس  همساً أو يصمت عنها، فنساء غزّة الحوامل قادرات على تعويض “الخسائر”.

هم فئة مُريبة أولئك الجُدد، تحتفي بـ”الجمهور” الذي يُعرفون أفراده اسماً اسماً عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، لا “الجماهير المهزومة” العاجزة والغارقة في مآسيها اليوميّة، لكنهم في الوقت ذاته، أي الممانعين الجدد، على مسافة “نقديّة” فقط في ما يخص سلطة الأمر الواقع، فالأخيرة مُخيفة ومسلم بأمرها، وصاحبة السطوة والقرار الذي تقع نتائجه على “جمهور المقاومة” في جنوب لبنان مثلاً، حيث يختبر الجنوبيون قرار الحرب والتهجير وحقيقة “اللحمة الوطنيّة” التي تتحكم بالإيجارات.

يشكّل الممانعون الجدد Community لا Society،  هم  شبان وشابات  أجادوا التنكر، بعضهم ذوو أجساد موشومة وينتصرون للحرية الفرديّة بشدة، في حين يعتبرون حرية الكتلة البشرية الغزيّة شأناً إشكالياً أو أنهم يتجاهلونها، هم معاصرون جداً، دخّنوا  مع المنشقّين عن الجيش السوري السجائر الملغومة، وشتموا “الغرب” و”مؤسساته الماليّة”، هؤلاء من طرابلس إلى بيروت،  من مخيم اليرموك إلى مخيم عين الحلوة، من باريس إلى برلين،  أصدقاء.

 تبنى بعض هؤلاء مفهوم “الأمّة” الذي يتشابه مع كلمة “عرب” التي يتبناها الخطاب الإسرائيلي، الذي يرى الغزيين و”كل” من حولهم من لدنة واحدة، متشابهين، يمكن نقلهم بين الجغرافيات “العربية” من دون مشكلة، في النهاية هم كلهم “أمّة”، الكلمة التي يرى بعض الممانعون الجدد أنها وسيلة لــ”مواجه الاستعمار” بعدما فشلت دراسات التظلم ونزع الاستعمار في إيقاف المقتلة، واقتصرت على تدريب الناشطين وتخريج الباحثين في دراسات الشرق الأوسط!

الـ”قدسية” المُفترضة لعملية “طوفان الأقصى” جعلتها محاطة بهالة لا يمكن انتقادها، يصونها “المُمانعون الجدد” عبر “نشر الوعي” ومنع التفكير بهذه “العملية” حتى ضمن قواعد الاشتباك العسكرية، المسموح فقط التغني بشجاعة أن تستهدف دبابة إسرائيلية ثم تختفي تحت الأرض لأن “رمضان الجاية بالأقصى”.

 هذه الفئة عادت إلى ما قبل 2011، إلى زمن الديكتاتوريات التي تمنعنا من شتمها وتغرقنا في الخوف والصمت، لكنها تبيح شتم إسرائيل، وهنا بالضبط تحول “الأصدقاء” إلى “ممانعين جُدد” يتغنون بــ”الرباط على الثغور”، ويهمسون سراً بضرورة “المقاومة”، لا مقاومة الموت، ولا المقاومة بمعناها الرومانسي، بل مقاومة تبدو غامضة، تتغنى بالآني والفرديّ والشجاع الذي يصلح لمنشور فيسبوك أو صورة إنستغرام، في تجاهل للقوى السياسية القائمة وتاريخها.

الغُموض المُتعمّد

 هناك غموض في مصطلحات “الممُانعين الجدد”، إذ تكثر أبيات التغنّي بالمُثلث الأحمر الذي يستهدف “العدو”، والتأكيد على شدة المعركة وسطوة المقاتلين بالقمصان الممزقة، لكن أمام كل فيديو لمقاتل من حماس من ذوي الرمي السديد، هناك آلاف القتلى. لكن لا يهم.  إطلاق النار على “إسرائيل” يشفع لكل شيء، حتى لحياة الغزيين أنفسهم الذين تجاوز عدد موتاهم الـ40 ألفاً.

يستطيع أولئك “الجُدد” و”المستقلون” التمييز بدقة بين الأنواع الموسيقيّة، هم أيضاً قرأوا دفاتر أنطونيو غرامشي في السجن، ويقتبسون من مفهوم  “الرفض العظيم” لهيربيت ماركوزة  وذوي ملاحظات على كتاب “إدارة التوحش”، يستخدم أولئك مصطلحات تثير الريبة، كـ”المرابطين”، “عقيدة القتال” و”العلاقة مع التراث” و”الأمة”.

 موقف هؤلاء يعيدنا إلى الصورة النمطية الرثة عن “المثقف العربي” في عقود سابقة، إذ بعد إتيان “معارف الغرب” يعود إلى “التراث” ويعيد قراءته، تلك اللعنة التي لا فكاك منها، لكننا هذه المرة أمام عودة “صوفيّة/ روحانيّة” تنفض عنها غبار الماركسية وبهرجات الليبرالية الجديدة، لتقويم”النفس الأمارة بالسوء”، والإيمان بأن بندقيّة قادرة على الوقوف بوجه نظام ذكاء اصطناعيّ يولد مئات الأهداف باليوم، لكن هذه مقارنة عدميّة لا تجوز الإشارة إليها.

3 أسئلة ممنوعة!

التغني بفيديوهات القسام وقفزات المقاتلين بين الحطام نحو الدبابات، الفعل الواضح للمواجهة من “المسافة صفر” ترافقه عبارات اختزاليّة مثيرة للحيرة لدى “الممانعين الجديد”، لا حديث عن حل سياسي (دولة واحدة، حل دولتين، فيدراليات…ألخ)، بل التمسك ببلاغة مقاتلة العدو. لكن ما المقصود بدقة بـ”مقاتلة العدو”، هل هو القضاء على إسرائيل؟ أم إنقاذ الغزيين الذين يقتلون يومياً؟ أم الإطاحة بحماس واستبدالها بخيار وطني موحّد؟

 لا إجابة عن أي واحد من هذه الأسئلة، بل التأكيد على أن المعركة مستمرة، والمفارقة ألا أحد مستعدّ لخوضها من الممانعين الجدد.

كل واحد من الأسئلة السابقة بلا إجابة، بسبب مواجهة محليّة مع سلطة الميليشيا التي يتم تجاهلها عمداً، وهنا تظهر فائدة الغموض المتعمد، فـ”القضاء على إسرائيل” وحمل السلاح، يعنيان التوجه إلى الجبهات، تلك المغلقة والمسيطر عليها بدقة من حزب الله، الذي قرر زعيمه معاقبة إسرائيل بـ”الانتظار”. أما إنقاذ الغزيين، فبعد 9 أشهر من المقتلة، لا أحد بيده هذا الخيار، ربما السنوار، لكن بعد تعيينه رئيساً لحركة حماس، التواصل معه الآن صار أشدّ صعوبة.

نأتي الى الخيار الأخير، الإطاحة بحماس أو الضغط عليها، والتي يتجاهل “الممانعون الجدد” في أنحاء العالم، أن ذلك لا يتم بالتظاهرات والأغنيات والتمنيات، حتى حوار وطنيّ فلسطيني فهو غير موجود، إذاً نحن أمام مفارقة مشابهة لتلك التي أوقعنا بها حزب الله، نحن أمام ميليشيا تتحرك بين “حركة مقاومة مسلحة” و”سلطة سياسية حاكمة” التنسيق بينهما، كما في حالة حماس، ليس ضرورياً،  إذ لم تعلم القيادة السياسية في قطر ولا “الداعمون” في إيران عن الطوفان إلا بعد حدوثه!

كل مُحاولات الإجابة عن الأسئلة السابقة أو حتى طرحها، تحوّل قائلها فوراً إلى متّهم بالعمالة والصهينة لأنه يتبنى بلاغة السلطة في إسرائيل وخطابها. لكن كلما طال وقت “الانتظار” اشتدت المقتلةً دماءً، وهنا تأتي البلاغة، لنسمّهم “شهداء” هؤلاء الذين قتلوا، هكذا نتأوّل على الكلمة حيث يتحوّل القتيل إلى شاهد، وقربان رباني للنصر، لا ثمن لعوامل أرضية-ميليشياويّة- إباديّة.

أطياف العملاء وبلاغة المؤامرة

طيف المُنتقدين، من الساخرين إلى الجديين، مُتهم دوماً بـ”التصهين”، أي بصورة ما، تبني خطاب إسرائيل حين انتقاد حماس وطوفان الأقصى كخيار دمر  قطاع غزة والجنوب اللبنانيّ، وكأن انتقاد حماس يعني الصمت على جرائم إسرائيل، وهنا يأتي تبرير التهمة، يجب فقط الإشارة الى “عدو” مهما كان خيار “المقاومة” عدمياً، ويدفع نحو حرب لم يخترها أحد، تُقصف فيها 3 عواصم: دمشق، بيروت، بغداد.

فئة أشد إشكالية من الممانعين الجدد، هي جزء من الفلسطينيين الذين نفضوا سوريتهم عنهم، تحولت سوريا ودمارها الذي شملهم أيضاً إلى ذاكرة بعيدة.  بصورة ما، لا وقت الآن للحديث عن “الشر الأصغر” المتمثل بنظام الأسد وحلفائه ومن يمدّونه بالسلاح، فنحن الآن في مواجهة مع “الشر الأكبر”، أي إسرائيل.

 علاقة العداوة بين “الشريّن” هي الإشكالية، لتبدأ بعدها موازنة الضحايا، من أشد إثارة للشفقة، السوري القتيل أم الفلسطينيّ القتيل؟ أشد ما يثير الحزن (والاستغراب) هو أن يقرر من كبر وتربى وقتل معك، أن ينزع سوريته جاعلاً منك “آخر” لا يفقه معنى القتل!

أي محاولة للانتقاد تعني أننا متآمرون، متصهينون، لا بلاغة قادرة على الإشارة الى أخطاء “المقاومة” الفادحة في لبنان وغزّة من دون تخوين، خصوصاً حين ينطق بالانتقاد سوريّ، الذي اتُّهم بالتمركز حول قضيته! والتفريط بالقضية الفلسطينية، والتعامل مع الصهاينة، وعليه أيضاً عدم الشماتة بقتلى حزب الله الذين شاركوا في “عمليات عسكريّة” في سوريا!.

 هذه التهم كلها، سببها أن البعض قال إن هناك ميليشيات اختارت الحرب التي يدفع ثمنها المدنيون، ثمنٌ كَشفَ وحشية إسرائيل، تلك التي لا نعلم لمَ نحن بحاجة الى تذكرها، مع ذلك، ما زال خطاب الممانعين الجدد مستمراً بعد 9 أشهر، متبنياً فرضية هذه “ليست اللحظة المناسبة للانتقاد”، وخلال هذه الأشهر التسعة، اكتشفنا أن إسرائيل قادرة على اغتيال من تريد متى تريد من دون أي رادع!

إذاً، نموذج المقاومة بشكله الحالي (ميليشيات دينيّة مدعومة من إيران تحكم مجتمعات محلية وتعرقل الثورات والحراك السياسيّ) نموذج فاشل، لا هو “قضى على العدو”، ولا قارعه سياسياً، ولا خلق نماذج وطنيّة قادرة على الحكم، هو فقط يرمي بالناس إلى الموت لأجل فيديوهات الهدهد والسهم الأحمر وتحليلات الدوري، إذاً أي درب نحو الانتصار يتحدث عنه الممانعون الجدد سوى”رفع الوعي بالقضيّة”.

إقرأوا أيضاً: