fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

“الناشطيّة” بوصفها ترفّعاً عن الفعل التنظيمي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لطالما كانت لدى الأفراد الفاعلين في الحركات الاجتماعية أو السياسية تسميات واضحة تميّزهم عن غيرهم: ثوريون، راديكاليون، مناضلون، اشتراكيون، شيوعيون، نقابيون ومنظِّمون، بينما يأتي صعود كلمة “ناشط” وتعميمها على كل ما سبق في إطار تشويه سمعة اليسار عالمياً. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كتب النقابي العمالي وكاتب الأغاني الأميركي جو هيل، عام 1915، برقيّة أرسلها إلى زميله بيل هايوود، قبيل وفاته، جاء فيها: “وداعا، بيل، ها أنا أموت مثل متمرد أزرق حقيقي (مصطلح يعبر عن الثوريين ذوي البصمات التاريخية) لا تضيعوا الوقت في الحداد؛ لا تضيعوا الوقت في الحداد؛ لا تضيعوا الوقت في الحداد؛ لا تضيعوا الوقت في الحداد؛ لا تضيعوا الوقت في الحداد. تنظّموا!”. 

أُدين هيل بعدها وأُعدم بتهمة قتل صاحب بقالة يدعى جون موريسون وابنه أرلينغ قبل عام. نفى هيل ارتكاب جرائم القتل، ولكن لأسباب لا تزال مصدراً للتكهنات، لم يكن على استعداد لتقديم ذريعة أثناء محاكمته. تصادف أيضاً أن عام 1915 كان العام نفسه تقريباً الذي ظهرت فيه كلمة “ناشط” للمرة الأولى، وبطريقة ما، بدأ الحداد بالفعل على العمل التنظيمي.

ولادة الناشط الغامضة!

على عكس مصطلح “المُنَظِّم”، الذي له جذور واضحة في النقابات العمالية والسياسات العمالية، فإن لـ”الناشط” أصولاً غامضة، وفقاً لقاموس أوكسفورد للغة الإنكليزية، ظلت الكلمة غائبة عن التداول الشائع لأكثر من قرن، إذ ارتبط المصطلح في وقت مبكر بفيلسوف المثالية الألماني رودلف أوكن، الذي كان يعتقد أن الكفاح ضروري للحياة الروحية، ثم استُخدم أحياناً لوصف المؤيدين الصريحين لقوى المركز خلال الحرب العالمية الأولى.

في النهاية، أصبح المصطلح يشير بشكل فضفاض إلى العمل السياسي، وعلى الرغم من أن المسار الدقيق لهذا التحول لم يتتبّعه بدقة الباحثون المتخصصون بعد، إلا أنه من الواضح أن “الناشطية” و”الناشط” كانا متداولين بمعانيهما الحالية لفترات متقطّعة.

 في أوائل الستينات، وصفت صحيفة “نيويورك تايمز” كلاً من برتراند راسل وتشارلز رايت ميلز بأنهما “ناشطان” (اعترض محرر ميلز على التوصيف لاحقاً في رسالة غاضبة)، كما كشفت عمليات البحث في السجلات الأرشيفية من تلك الفترة، عن إشارات متفرقة الى “الناشطين العماليين”، ثم “ناشطي الحقوق المدنية”، ثم “الناشطين الطلابيين”.

التباس هويّة “الناشط”

لطالما كانت لدى الأفراد الفاعلين في الحركات الاجتماعية أو السياسية تسميات واضحة تميّزهم عن غيرهم: ثوريون، راديكاليون، مناضلون، اشتراكيون، شيوعيون، نقابيون ومنظِّمون، بينما يأتي صعود كلمة “ناشط” وتعميمها على كل ما سبق في إطار تشويه سمعة اليسار عالمياً. 

بدأ الانتشار الفعلي لـ “الناشطين” بعد انتهاء الستينات، مع اندلاع حركات اجتماعية جديدة في الولايات المتحدة، مثل الحركة النسوية، وتحرر المثليين/ات، وحماية البيئة، وحقوق ذوي الإعاقة. وبحلول الثمانينات والتسعينات، شاع استخدام المصطلح، بيد أن هذه الحركات الاجتماعية حققت قدراً هائلاً من المكاسب في إطار زمني قصير للغاية، غالباً من خلال البناء على تقنيات تنظيمية طويلة الأمد وتكييفها مع تطوير إجراءات مفتوحة وديمقراطية وغير هرمية. إلا أنه، وفي سعيها الى التخلّي عن بعض أعباء اليسار، تم أيضاً التخلي عن الأطر والتقاليد والأساليب التي قد تكون مثمرة.

ازدهرت الناشطية مع ابتعاد الناس عما شعروا أنه أيديولوجيات سياسية قديمة، كالماركسية اللينينية المناهضة للإمبريالية، وتبنّت بشكل أكبر الهويات الراديكالية الناشئة. وفي أعقاب الستينات، أراد الناس أيضاً أن يكونوا أقل انجراراً وراء القيادات الكاريزماتية، التي عرّضت الحركات للخطر عندما تم اغتيال زعماء رموز (مارتن لوثر كينغ جونيور) أو تصرفوا بشكل غير مسؤول (إلدريدج كليفر) أو بدّلوا مواقفهم (جيري روبن) على مر السنين، ومع خسارة النقابات تميّزها وخضوعها لسيطرة البيروقراطية والفساد، ترسخت جذور السخرية من التغيير الاجتماعي، على الأقل داخل بعض الدوائر الداعية للمثالية.

أن تكون ناشطاً اليوم يعني فقط الدعوة المستمرة إلى التغيير، سواء كان إلغاء الأبوية أو تحقيق المساواة أو حتى “نزع الاستعمار”، لكن كيفية هذه الدعوة وأسبابها غير واضحة، وأحد أوجه المشكلة تكمن في عدم وجود مرادف دقيق، فمن هم غير الناشطين بالضبط؟ هل هم أناسٌ سلبيون؟ مشاهدون؟ أم مجرد أشخاص عاديين؟ في غموضها الشديد، تعزز الكلمة انقساماً ساماً للتنظيم الديمقراطي، الذي يعتمد على مشاركة المواطنين النشطين فعلياً، وليس حماسة شريحة صغيرة من السكان، لكي يؤتي أُكله بشكل حقيقي.

“ناشط” بلا محتوى!

كالكثير من المصطلحات الرائجة حديثاً، مثل “المحتوى” و”التحرر”، يخلو مصطلح “ناشط” من أي مضمون فعلي بشكلٍ يجعله مثيراً للريبة، إذ إنه من المؤكد أن التصنيفات ليست جديدة على العمل السياسي الجماعي، فتصنيفات مثل إلغاء عقوبة الإعدام، والشعبوية، وحق الاقتراع، والوحدوية، والاشتراكية، والماركسية تعكس جميعها موقفاً واضحاً بشأن قضية ما، لكن الناشط هو فئة عامة مرتبطة بقوالب نمطية محددة بشكل غريب. 

اليوم، لا يشير المصطلح إلى مجموعة معينة من الآراء أو السلوكيات السياسية، بقدر ما يشير إلى مزاج معين ونمط واحد تحدده بعض السمات الشخصية؛ فالناشطون يستمتعون بالاجتماعات الطويلة، يرددون الشعارات، ومعظمهم أمضى ليلة أو اثنتين في السجن. والحقيقة أن كثراً من الناشطين يستمتعون بالتهميش، ويفسرون أعدادهم الصغيرة كدليل على خصوصيتهم وعضويتهم في زمرة حصرية وصالحة، ناهيك بفعاليتهم.

في حين أن هناك استثناءات ملحوظة، فإن الكثير من فروع الناشطية المعاصرة، تخاطر بالتركيز على الذات على حساب الجماعة. وعلى النقيض من ذلك، فإن العمل التنظيمي تعاوني بحكم تعريفه: فهو يهدف إلى جلب الآخرين إلى الساحة لبناء السلطة المشتركة وممارستها. ينطوي التنظيم، بتعريف أبسط، على تحويل “كتلة اجتماعية إلى قوة سياسية”، اليوم، بإمكان أي شخص أن يكون ناشطاً، أو حتى شخصاً يعمل بمفرده (من دون الخروج من غرفته في بعض الأحيان، بفضل “ناشطية الأريكة”)، من دون مساءلة أمام أي شخص.

على سبيل المثال، يحاول كثير من ناشطي اليوم بلا هوادة “رفع مستوى الوعي” حول قضية تعتبر مهمة، ويمكن أن يكون رفع مستوى الوعي – وهو أحد الأهداف المفضّلة للنشاط المعاصر – ذا قيمة كبيرة، ولكن هذا الرفع، بصفته تعليماً في الجوهر، ليس تنظيماً أو عملاً سياسياً، فالتنظيم لا يتضمن فقط تنوير كل من يصادف أن يواجه رسالة الناشط، ولكن أيضاً تجميع الأشخاص حول مصالح مشتركة حتى يتمكنوا من استخدام قوتهم المشتركة بشكل استراتيجي.

التنظيم عمل طويل الأمد، مضجر في كثير من الأحيان، ويستلزم إنشاء البنية التحتية وتطوير المؤسسات، وإيجاد نقاط الضعف والتأثير في الموقف الذي يرغب المنظمون في تبديله، وإقناع الأفراد المتناثرين بالاعتراف بأنهم في الفريق نفسه، من ثم التصرف على هذا النحو.

جمهرات الناشطين بعد 2011

على الصعيد العربي، شهدنا انفجاراً في الحركات الناشطية منذ عام 2011، مع اندلاع ثورات ما سمّي بالربيع العربي، فكانت الناشطية بصفتها تعبيراً (محقاً) عن مشاعر المحتجين العميقة هي الأساس والاستراتيجية، إلا أن التعبير يبقى في النهاية مجرد جزء واحد من بناء الحركة التي تحتاج استراتيجية فعلية.

 اكتفى الملايين في مصر بهتاف “عيش، حرية، عدالة اجتماعية” والآلاف في سوريا واليمن وتونس بـ “الشعب يريد إسقاط النظام”، ولم توضع الخطط المزمع تنفيذها للوصول إلى تلك الأهداف، فارتفعت أسعار العيش وصادرت دولة العسكر الحرية والعدالة الاجتماعية إلى غير رجعة، وسقط النظام والمدنيّة وبدأ عصر الميليشيات.

يعتقد معظم الناشطين أن التنظيم يعني القيام بالترتيبات المادية لتجمّع أو تظاهرة أو حفل موسيقي خيري، أضف إلى هذه القائمة إنشاء “هاشتاغ” على وسائل التواصل الاجتماعي، ونشر عريضة عبر الإنترنت وجمع التواقيع عليها، ومناقشة الأشخاص على الإنترنت والاستمرار بنشر المحتوى المتعلق بـ “القضية المحقة” أياً كانت، وسيظل هذا الشعور ثابتاً بشكل أساسي.

فقد العمل التنظيمي احترامه في الكثير من دوائر الحركة، إذ ترسخ الإيمان بالتمرد العفوي والشك العميق في المؤسسات والقيادة والاستيلاء على السلطة، هذا لا يعني أنه لا توجد فائدة في التظاهرات والحفلات الموسيقية و”الهاشتاغات” والعرائض والمناقشات عبر الإنترنت، بل هي مفيدة في كثير من الأحيان. المشكلة هي أن هذه الأحداث أو التكتيكات تمثل في كثير من الأحيان أفق المشاركة السياسية.

ما بعد “الناشطيّة”

أحد التحديات الرئيسية في ظل توغل النيوليبرالية ونموذج الإنتاج الضخم، يتلخص في إيجاد طرق مبتكرة لتحديث النموذج النقابي بما يتناسب مع ظروفنا الحالية، التي تتسم بالأموَلة وانعدام الأمن وقلق المُلكية، ويتعيَّن علينا أن نعمل على خلق روابط جديدة بين الملايين من البشر المُفقَرين الذين تقطعت بهم السبل، والذين يفتقرون إلى فرص العمل المستقرة، ناهيك بعضوية النقابات، حتى يصبحوا قوة لا يستهان بها. 

أحد الأمثلة الحديثة الناجحة هو ابتكار مُنظِّمي العدالة المناخية في الولايات المتحدة (وليس نشطاؤها الذين يرمون علب الفاصولياء على اللوحات) طرقاً أصلية لتعبئة الناس للتأثير على النتائج النهائية لشركات النفط، من خلال إجبار الحكومة الفيدرالية على التوقف عن إصدار عقود إيجار جديدة لاستخراج الفحم على الأراضي العامة، ومنذ إطلاقها في عام 2012، تمكنت حملة سحب الاستثمارات في الوقود الأحفوري من الضغط على المستثمرين الذين يسيطرون على أكثر من 3.4 تريليون دولار من الأصول للخروج من السوق.

بدأ التنظيم بالطلاب في الحرم الجامعي، ثم توسع ليشمل مواطنين من شرائح مجتمعية أوسع، إذ تعهدت الآن أكثر من ستين مدينة وبلدة في مختلف أنحاء العالم بدعم التصفية الكاملة أو الجزئية لتلك الاستثمارات. وكان أحد أهم النجاحات التي حققتها حملة سحب الاستثمارات حتى الآن، هو تقويض الثقة في خطة عمل صناعة الوقود الأحفوري، فالآن، ليست كليات الفنون الليبرالية الصغيرة فقط هي التي تأخذ “مخاطر الكربون” على محمل الجد، بل المؤسسات المالية الضخمة مثل بنك إنكلترا، وصندوق الثروة السيادية النرويجي، وأنظمة التقاعد في كاليفورنيا.

إذاً، ها نحن ذا، منذ قرن من الزمان، ولدت فكرة الناشطية من الفيلسوف أوكن الذي فضَّل الصوفي على المادي، ولا يزال هذا التفضيل قائماً حتى اليوم، لأن الكثيرين ما زالوا يعتقدون أن الفعل، حتى عندما يتم فصله عن أي استراتيجية متماسكة، يمكن أن يؤدي بطريقة سحرية إلى نوع من الصحوة المجتمعية، وأن الجدال مع الغرباء ومهاجمتهم عبر الإنترنت، هو شكل من أشكال المشاركة السياسية، لا يقل أهمية عن ما كان عليه التخطيط السياسي لاعتصام أو حملة مقاطعة مدروسة ومدعومة اقتصادية وتنظيمياً.

جيفري كرم - أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية | 12.04.2025

النسيان كسياسة: عن الحرب التي لم تنتهِ في لبنان

لم تكن الحرب الأهلية اللبنانيّة مجرّد صراع أهلي تمّ تجاوزه، بل أساس للنظام الذي تلاها، وبدل أن تكون لحظة تأسيس لذاكرة وطنية، أصبحت لحظة إنتاج لسياسة النسيان. كلّ ما يُذكّر بالحرب من محاكمات إلى مناهج دراسية، إلى أرشيفات، اعتُبر تهديداً يجب إسقاطه.
14.08.2024
زمن القراءة: 7 minutes

لطالما كانت لدى الأفراد الفاعلين في الحركات الاجتماعية أو السياسية تسميات واضحة تميّزهم عن غيرهم: ثوريون، راديكاليون، مناضلون، اشتراكيون، شيوعيون، نقابيون ومنظِّمون، بينما يأتي صعود كلمة “ناشط” وتعميمها على كل ما سبق في إطار تشويه سمعة اليسار عالمياً. 

كتب النقابي العمالي وكاتب الأغاني الأميركي جو هيل، عام 1915، برقيّة أرسلها إلى زميله بيل هايوود، قبيل وفاته، جاء فيها: “وداعا، بيل، ها أنا أموت مثل متمرد أزرق حقيقي (مصطلح يعبر عن الثوريين ذوي البصمات التاريخية) لا تضيعوا الوقت في الحداد؛ لا تضيعوا الوقت في الحداد؛ لا تضيعوا الوقت في الحداد؛ لا تضيعوا الوقت في الحداد؛ لا تضيعوا الوقت في الحداد. تنظّموا!”. 

أُدين هيل بعدها وأُعدم بتهمة قتل صاحب بقالة يدعى جون موريسون وابنه أرلينغ قبل عام. نفى هيل ارتكاب جرائم القتل، ولكن لأسباب لا تزال مصدراً للتكهنات، لم يكن على استعداد لتقديم ذريعة أثناء محاكمته. تصادف أيضاً أن عام 1915 كان العام نفسه تقريباً الذي ظهرت فيه كلمة “ناشط” للمرة الأولى، وبطريقة ما، بدأ الحداد بالفعل على العمل التنظيمي.

ولادة الناشط الغامضة!

على عكس مصطلح “المُنَظِّم”، الذي له جذور واضحة في النقابات العمالية والسياسات العمالية، فإن لـ”الناشط” أصولاً غامضة، وفقاً لقاموس أوكسفورد للغة الإنكليزية، ظلت الكلمة غائبة عن التداول الشائع لأكثر من قرن، إذ ارتبط المصطلح في وقت مبكر بفيلسوف المثالية الألماني رودلف أوكن، الذي كان يعتقد أن الكفاح ضروري للحياة الروحية، ثم استُخدم أحياناً لوصف المؤيدين الصريحين لقوى المركز خلال الحرب العالمية الأولى.

في النهاية، أصبح المصطلح يشير بشكل فضفاض إلى العمل السياسي، وعلى الرغم من أن المسار الدقيق لهذا التحول لم يتتبّعه بدقة الباحثون المتخصصون بعد، إلا أنه من الواضح أن “الناشطية” و”الناشط” كانا متداولين بمعانيهما الحالية لفترات متقطّعة.

 في أوائل الستينات، وصفت صحيفة “نيويورك تايمز” كلاً من برتراند راسل وتشارلز رايت ميلز بأنهما “ناشطان” (اعترض محرر ميلز على التوصيف لاحقاً في رسالة غاضبة)، كما كشفت عمليات البحث في السجلات الأرشيفية من تلك الفترة، عن إشارات متفرقة الى “الناشطين العماليين”، ثم “ناشطي الحقوق المدنية”، ثم “الناشطين الطلابيين”.

التباس هويّة “الناشط”

لطالما كانت لدى الأفراد الفاعلين في الحركات الاجتماعية أو السياسية تسميات واضحة تميّزهم عن غيرهم: ثوريون، راديكاليون، مناضلون، اشتراكيون، شيوعيون، نقابيون ومنظِّمون، بينما يأتي صعود كلمة “ناشط” وتعميمها على كل ما سبق في إطار تشويه سمعة اليسار عالمياً. 

بدأ الانتشار الفعلي لـ “الناشطين” بعد انتهاء الستينات، مع اندلاع حركات اجتماعية جديدة في الولايات المتحدة، مثل الحركة النسوية، وتحرر المثليين/ات، وحماية البيئة، وحقوق ذوي الإعاقة. وبحلول الثمانينات والتسعينات، شاع استخدام المصطلح، بيد أن هذه الحركات الاجتماعية حققت قدراً هائلاً من المكاسب في إطار زمني قصير للغاية، غالباً من خلال البناء على تقنيات تنظيمية طويلة الأمد وتكييفها مع تطوير إجراءات مفتوحة وديمقراطية وغير هرمية. إلا أنه، وفي سعيها الى التخلّي عن بعض أعباء اليسار، تم أيضاً التخلي عن الأطر والتقاليد والأساليب التي قد تكون مثمرة.

ازدهرت الناشطية مع ابتعاد الناس عما شعروا أنه أيديولوجيات سياسية قديمة، كالماركسية اللينينية المناهضة للإمبريالية، وتبنّت بشكل أكبر الهويات الراديكالية الناشئة. وفي أعقاب الستينات، أراد الناس أيضاً أن يكونوا أقل انجراراً وراء القيادات الكاريزماتية، التي عرّضت الحركات للخطر عندما تم اغتيال زعماء رموز (مارتن لوثر كينغ جونيور) أو تصرفوا بشكل غير مسؤول (إلدريدج كليفر) أو بدّلوا مواقفهم (جيري روبن) على مر السنين، ومع خسارة النقابات تميّزها وخضوعها لسيطرة البيروقراطية والفساد، ترسخت جذور السخرية من التغيير الاجتماعي، على الأقل داخل بعض الدوائر الداعية للمثالية.

أن تكون ناشطاً اليوم يعني فقط الدعوة المستمرة إلى التغيير، سواء كان إلغاء الأبوية أو تحقيق المساواة أو حتى “نزع الاستعمار”، لكن كيفية هذه الدعوة وأسبابها غير واضحة، وأحد أوجه المشكلة تكمن في عدم وجود مرادف دقيق، فمن هم غير الناشطين بالضبط؟ هل هم أناسٌ سلبيون؟ مشاهدون؟ أم مجرد أشخاص عاديين؟ في غموضها الشديد، تعزز الكلمة انقساماً ساماً للتنظيم الديمقراطي، الذي يعتمد على مشاركة المواطنين النشطين فعلياً، وليس حماسة شريحة صغيرة من السكان، لكي يؤتي أُكله بشكل حقيقي.

“ناشط” بلا محتوى!

كالكثير من المصطلحات الرائجة حديثاً، مثل “المحتوى” و”التحرر”، يخلو مصطلح “ناشط” من أي مضمون فعلي بشكلٍ يجعله مثيراً للريبة، إذ إنه من المؤكد أن التصنيفات ليست جديدة على العمل السياسي الجماعي، فتصنيفات مثل إلغاء عقوبة الإعدام، والشعبوية، وحق الاقتراع، والوحدوية، والاشتراكية، والماركسية تعكس جميعها موقفاً واضحاً بشأن قضية ما، لكن الناشط هو فئة عامة مرتبطة بقوالب نمطية محددة بشكل غريب. 

اليوم، لا يشير المصطلح إلى مجموعة معينة من الآراء أو السلوكيات السياسية، بقدر ما يشير إلى مزاج معين ونمط واحد تحدده بعض السمات الشخصية؛ فالناشطون يستمتعون بالاجتماعات الطويلة، يرددون الشعارات، ومعظمهم أمضى ليلة أو اثنتين في السجن. والحقيقة أن كثراً من الناشطين يستمتعون بالتهميش، ويفسرون أعدادهم الصغيرة كدليل على خصوصيتهم وعضويتهم في زمرة حصرية وصالحة، ناهيك بفعاليتهم.

في حين أن هناك استثناءات ملحوظة، فإن الكثير من فروع الناشطية المعاصرة، تخاطر بالتركيز على الذات على حساب الجماعة. وعلى النقيض من ذلك، فإن العمل التنظيمي تعاوني بحكم تعريفه: فهو يهدف إلى جلب الآخرين إلى الساحة لبناء السلطة المشتركة وممارستها. ينطوي التنظيم، بتعريف أبسط، على تحويل “كتلة اجتماعية إلى قوة سياسية”، اليوم، بإمكان أي شخص أن يكون ناشطاً، أو حتى شخصاً يعمل بمفرده (من دون الخروج من غرفته في بعض الأحيان، بفضل “ناشطية الأريكة”)، من دون مساءلة أمام أي شخص.

على سبيل المثال، يحاول كثير من ناشطي اليوم بلا هوادة “رفع مستوى الوعي” حول قضية تعتبر مهمة، ويمكن أن يكون رفع مستوى الوعي – وهو أحد الأهداف المفضّلة للنشاط المعاصر – ذا قيمة كبيرة، ولكن هذا الرفع، بصفته تعليماً في الجوهر، ليس تنظيماً أو عملاً سياسياً، فالتنظيم لا يتضمن فقط تنوير كل من يصادف أن يواجه رسالة الناشط، ولكن أيضاً تجميع الأشخاص حول مصالح مشتركة حتى يتمكنوا من استخدام قوتهم المشتركة بشكل استراتيجي.

التنظيم عمل طويل الأمد، مضجر في كثير من الأحيان، ويستلزم إنشاء البنية التحتية وتطوير المؤسسات، وإيجاد نقاط الضعف والتأثير في الموقف الذي يرغب المنظمون في تبديله، وإقناع الأفراد المتناثرين بالاعتراف بأنهم في الفريق نفسه، من ثم التصرف على هذا النحو.

جمهرات الناشطين بعد 2011

على الصعيد العربي، شهدنا انفجاراً في الحركات الناشطية منذ عام 2011، مع اندلاع ثورات ما سمّي بالربيع العربي، فكانت الناشطية بصفتها تعبيراً (محقاً) عن مشاعر المحتجين العميقة هي الأساس والاستراتيجية، إلا أن التعبير يبقى في النهاية مجرد جزء واحد من بناء الحركة التي تحتاج استراتيجية فعلية.

 اكتفى الملايين في مصر بهتاف “عيش، حرية، عدالة اجتماعية” والآلاف في سوريا واليمن وتونس بـ “الشعب يريد إسقاط النظام”، ولم توضع الخطط المزمع تنفيذها للوصول إلى تلك الأهداف، فارتفعت أسعار العيش وصادرت دولة العسكر الحرية والعدالة الاجتماعية إلى غير رجعة، وسقط النظام والمدنيّة وبدأ عصر الميليشيات.

يعتقد معظم الناشطين أن التنظيم يعني القيام بالترتيبات المادية لتجمّع أو تظاهرة أو حفل موسيقي خيري، أضف إلى هذه القائمة إنشاء “هاشتاغ” على وسائل التواصل الاجتماعي، ونشر عريضة عبر الإنترنت وجمع التواقيع عليها، ومناقشة الأشخاص على الإنترنت والاستمرار بنشر المحتوى المتعلق بـ “القضية المحقة” أياً كانت، وسيظل هذا الشعور ثابتاً بشكل أساسي.

فقد العمل التنظيمي احترامه في الكثير من دوائر الحركة، إذ ترسخ الإيمان بالتمرد العفوي والشك العميق في المؤسسات والقيادة والاستيلاء على السلطة، هذا لا يعني أنه لا توجد فائدة في التظاهرات والحفلات الموسيقية و”الهاشتاغات” والعرائض والمناقشات عبر الإنترنت، بل هي مفيدة في كثير من الأحيان. المشكلة هي أن هذه الأحداث أو التكتيكات تمثل في كثير من الأحيان أفق المشاركة السياسية.

ما بعد “الناشطيّة”

أحد التحديات الرئيسية في ظل توغل النيوليبرالية ونموذج الإنتاج الضخم، يتلخص في إيجاد طرق مبتكرة لتحديث النموذج النقابي بما يتناسب مع ظروفنا الحالية، التي تتسم بالأموَلة وانعدام الأمن وقلق المُلكية، ويتعيَّن علينا أن نعمل على خلق روابط جديدة بين الملايين من البشر المُفقَرين الذين تقطعت بهم السبل، والذين يفتقرون إلى فرص العمل المستقرة، ناهيك بعضوية النقابات، حتى يصبحوا قوة لا يستهان بها. 

أحد الأمثلة الحديثة الناجحة هو ابتكار مُنظِّمي العدالة المناخية في الولايات المتحدة (وليس نشطاؤها الذين يرمون علب الفاصولياء على اللوحات) طرقاً أصلية لتعبئة الناس للتأثير على النتائج النهائية لشركات النفط، من خلال إجبار الحكومة الفيدرالية على التوقف عن إصدار عقود إيجار جديدة لاستخراج الفحم على الأراضي العامة، ومنذ إطلاقها في عام 2012، تمكنت حملة سحب الاستثمارات في الوقود الأحفوري من الضغط على المستثمرين الذين يسيطرون على أكثر من 3.4 تريليون دولار من الأصول للخروج من السوق.

بدأ التنظيم بالطلاب في الحرم الجامعي، ثم توسع ليشمل مواطنين من شرائح مجتمعية أوسع، إذ تعهدت الآن أكثر من ستين مدينة وبلدة في مختلف أنحاء العالم بدعم التصفية الكاملة أو الجزئية لتلك الاستثمارات. وكان أحد أهم النجاحات التي حققتها حملة سحب الاستثمارات حتى الآن، هو تقويض الثقة في خطة عمل صناعة الوقود الأحفوري، فالآن، ليست كليات الفنون الليبرالية الصغيرة فقط هي التي تأخذ “مخاطر الكربون” على محمل الجد، بل المؤسسات المالية الضخمة مثل بنك إنكلترا، وصندوق الثروة السيادية النرويجي، وأنظمة التقاعد في كاليفورنيا.

إذاً، ها نحن ذا، منذ قرن من الزمان، ولدت فكرة الناشطية من الفيلسوف أوكن الذي فضَّل الصوفي على المادي، ولا يزال هذا التفضيل قائماً حتى اليوم، لأن الكثيرين ما زالوا يعتقدون أن الفعل، حتى عندما يتم فصله عن أي استراتيجية متماسكة، يمكن أن يؤدي بطريقة سحرية إلى نوع من الصحوة المجتمعية، وأن الجدال مع الغرباء ومهاجمتهم عبر الإنترنت، هو شكل من أشكال المشاركة السياسية، لا يقل أهمية عن ما كان عليه التخطيط السياسي لاعتصام أو حملة مقاطعة مدروسة ومدعومة اقتصادية وتنظيمياً.

14.08.2024
زمن القراءة: 7 minutes
|
آخر القصص
المُعتقَل في الدراما التلفزيونية السورية… حساسية الجرح المفتوح
علاء الدين العالم - كاتب ومسرحي فلسطيني سوري | 12.04.2025
النسيان كسياسة: عن الحرب التي لم تنتهِ في لبنان
جيفري كرم - أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية | 12.04.2025
من سهول دونباس في أوكرانيا إلى بادية الشام… وثائق حصرية ومصادر مفتوحة تكشف تكثيف روسيا حرب المسيّرات في سماء سوريا 
محمد بسيكي (سراج) عبد القادر ضويحي، كريستسان مامو، أليكسينا كالونكي (osint for ukraine) | 11.04.2025

اشترك بنشرتنا البريدية