اليوم السابع من انتفاضة اللبنانيين تحول في النبطية جنوب لبنان إلى كربلاء حقيقية، التي تعرفها المدينة تاريخاً ونهجاً وسيرة ودماء. ففي قلب النبطية، حيث يحي اللبنانيون الشيعة كل عام ذكرى عاشوراء، تحولت المدينة الى ساحة صدام سالت فيها دماء مواطنين عزل طالبوا بحقوقهم، فوقفة المتظاهرين السلميين القليلي العدد، أمام جحافل مناصري الثنائي الشيعي أمل وحزب الله وشرطة بلدية النبطية، المدججين بالقوة والجبروت والقدرة على السحق والقمع، كانت أشبه بوقفة الإمام الحسين وأنصاره السبعين في وجه جيش يزيد بن معاوية الجرار. والباحة أمام السراي الحكومي، كانت صورة مصغرة عن عاشوراء، بعد صدور قرار القمع الحازم.
عند حوالي الساعة الثالثة عصرا، وبينما كان المحتجون منشغلين بتركيب منصة على مقربة من السراي الحكومي، حيث كانوا قد اتفقوا صباحاً، على إقامة “هايد بارك” للشباب، ليتيحوا لهم التعبير عن آرائهم ومطالبهم، استرعى انتباه عدد من المحتجين انسحاب عناصر قوى الأمن إلى داخل مبنى السراي وإغلاق بوابته الرئيسية، وما هي إلا لحظات حتى تدفق عشرات من الشبان الغاضبين يتقدمهم عناصر من شرطة البلدية، واجتاحوا مكان الاعتصام، حاملين العصي والحدائد، وهجموا كما يقال في سيرة عاشوراء “هجمة رجل واحد” وانهالوا على المعتصمين ضرباً وركلاً وسحلاً، ولم يوفروا النساء والأطفال، فيما عمد عناصر شرطة البلدية إلى تفكيك المنصة، وقطع كابلات التجهيزات الصوتية وتكسيرها، لم يسلم الصحافيون أيضاً من الاعتداء، فقد صودرت معظم الكاميرات وتم الاعتداء على المصور الصحافي علي مزرعاني، كما صادر المعتدون هواتف عدد كبير من المعتصمين.
يقول شهود عيان إن المعتدين كانوا قد عقدوا اجتماعا مسبقا في قاعة الإرشاد في المدينة، وهي قاعة يقيم فيها حزب الله نشاطات دينية وثقافية وسياسية، وهناك صور توثق لحظة خروجهم من القاعة وتوجههم إلى مكان الاعتصام سيراً على الأقدام. كما أنهم، عند اقتحامهم مكان الاعتصام، عمدوا إلى خطف عدد كبير من الشبان، واقتيادهم إلى شارع فرعي، لضربهم بعيداً عن أعين الناس والكاميرات.
كانت شرطة البلدية قبل أيام، قد حاولت فض الاعتصام، وعمد عناصرها، إلى إزالة العوائق الحديدية من أمام السراي، فتصدى لهم المعتصمون، وحصل تلاسن بينهم، كاد أن يتطور إلى عراك، لكن تم تطويقه بعد تدخل قوى الأمن ومخابرات الجيش، وعلى ما يبدو، أن عجز البلدية عن القيام بهذه المهمة، استدعى تدخل “الأخوة” في أمل وحزب الله (كما يطلق عليهم محلياًَ)، الذين برعوا اليوم، بقمع المعتصمين مستخدمين القوة المفرطة.
حصيلة الاعتداء، ما بين 20 إلى 25 جريحاً، سبعة منهم لازموا المستشفى حيث أن إصابات اثنين خطيرة، استدعت حملة للتبرع بالدم، هذا إضافة إلى حالات الإغماء بين صفوف النساء والأطفال، التي أسعفت في أرضها.
والسؤال الوجيه، لماذا النبطية؟
انطلقت الاحتجاجات في النبطية بالتزامن مع المناطق اللبنانية الأخرى، لكن النبطية كانت ثاني يوم الحراك على موعد مع إحياء أربعينية الإمام الحسين، وهذا يعني أن المدينة كان يجب أن تكون عائمة فوق بحر من الرايات السود، ولا يسمع فيها سوى صوت الندبيات ومجالس العزاء. الاعتصام غير وجه المدينة بين ليلة وضحاها، واكتشف أهلها أنهم يجيدون الفرح والغناء والتفاعل مع الموسيقى، بل يتوقون إلى هذه الأمور، ومن الطبيعي ألا يعجب هذا التحول السريع، القيمون على عقول الناس وأفئدتهم، فسرعان ما علت الأصوات المعترضة على تحويل مدينة الحسين إلى “ديسكوتيك”، من دون أي احترام للمناسبة الحزينة.
عدا ذلك، فمنذ ثلاثين سنة، يغيب النشيد الوطني اللبناني، عن الفضاء العام في النبطية، اللهم إلا في عيد الاستقلال حيث يسمع من خلف أسوار المدارس، أو يكاد لا يسمع في بعض المناسبات الرسمية التي تقام في أماكن مغلقة، الحراك الشعبي أعاد للنشيد الوطني حضوره، كذلك للعلم اللبناني، فمن يزور النبطية، أو أي منطقة في الجنوب، لا تقع عيناه على علم الوطن، الأعلام الحزبية تحتل كل مساحات النظر، حسب القوة المهمينة على البقعة الجغرافية، فإذا كانت بلدة ما تابعة بأغلبيتها لحزب الله نرى الأعلام الصفراء، وإذا كانت مؤيدة لحركة أمل نرى الأعلام الخضراء.
وليس تفصيلا أبدا، أن تهتف النبطية “كلن يعني كلن” حتى لو كان الهتاف من دون إضافات كما يحصل في المناطق الأخرى، وليس تفصيلا أن تهتف أيضاً “الشعب يريد إسقاط النظام” أو “يسقط يسقط حكم الأزعر”، ففي هكذا هتافات رسائل سياسية مبطنة، يفهمها جيداً من يسمعها.
في اليوم الأول للحراك، هتف المعتصمون أما مبنى فرع مصرف لبنان في النبطية “نبيه بري حرامي”، إضافة إلى هتافات ضد عقيلته رندة ” التي رفعت شعارات عديدة ضدها في تظاهرات لبنان احتجاجاً على تورطها في ملفات فساد.
وليلاً هجم المحتجون على منازل نواب المنطقة الثلاثة ومكاتبهم: محمد رعد، ياسين جابر وهاني قبيسي، وكسروا مداخلها وأضرموا النيران أمامها، وهذه رسالة سياسية علنية لمن يجيد القراءة.
طبعا، هذه الهبة التي شهدتها النبطية، في أول أيام الحراك، لم تمر مرور الكرام، حيث انتهز شبان من حركة أمل ليلتها، عودة الناس إلى بيوتهم بعد منتصف الليل، وبقاء عدد قليل من الشبان أمام السراي، فهجموا عليهم بالعصي والسكاكين، وشهدت شوارع المدينة معارك كر وفر حتى الرابعة فجراً، وأسفر عنها سقوط جريحين.
بعدها، تم التفاوض مع المحتجين، على عدم ترديد الشعارات والهتافات الاستفزازية والشتائم، وعدم تسمية أي من المسؤولين بأسمائهم، والتركيز فقط على المطالب المعيشية، وهكذا كان.
اليوم السابع، صدر القرار، كما يبدو، الذي قضى بفضّ الاعتصام بكل الوسائل، خصوصا أن المعتصمين تمادوا برأي المناصرين، بالرقص والغناء وترديد شعارات مشبوهة، فأتت الضربة القاضية.
للانتفاضة يوم آخر في النبطية، المعتصمون لم يتراجعوا عن قرار النزول إلى الشارع، والمناصرون أيضا، هكذا صار يطلق على الطرفين، فهل ستواصل النبطية التحاقها بالانتفاضة اللبنانية أم سينجح “الاخوة” في لجم ثورتها؟