قبل أسابيع قليلة، كانت حياة أحمد أبو زيد تسير في مسار مختلف تماماً، اسمه تصدر قوائم المرشحين لجائزة “قمة المليار متابع”، وهي جائزة عالمية مرموقة تُمنح لأكثر صُنَّاع المحتوى تأثيراً حول العالم، بقيمة تصل إلى مليون دولار. بالنسبة الى شاب انطلق من قريته الصغيرة ليبني إمبراطورية تعليمية عبر الإنترنت، كان الترشيح أكثر من مجرد تقدير؛ كان اعترافاً عالمياً بمشروعه الذي غيّر حياة الملايين.
الجائزة، التي تعتمد على التصويت الجماهيري، حفّزت موجة من الدعم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث احتفى الكثيرون بترشح أحمد كرمز للنجاح المصري في مجال التعليم الرقمي. لكن الفرحة لم تدم طويلًا. في خضم احتفاله بالدعم الشعبي، تغيرت مسارات الأحداث بشكل مفاجئ ومأساوي.
قبل أيام عدة، اعتُقل أحمد بشكل مفاجئ، وتبع ذلك صدور قرار من نيابة أمن الدولة العليا بحبسه 15 يوماً على ذمة التحقيق. الاتهامات، التي شملت “الانضمام لجماعة إرهابية” و”حيازة عملة أجنبية بطرق غير قانونية”، بدت غير متجانسة مع شخصية أحمد الذي اشتهر بدوره التعليمي البحت، بعيداً من أي جدل سياسي أو أيديولوجي.
هذه الحادثة لم تضع فقط أحلام أحمد قيد الاحتجاز، بل أعادت طرح تساؤلات أعمق حول كيفية تعامل المجتمع والنظام مع النماذج الناجحة التي تنشأ خارج المنظومة الرسمية.
يحصل هذا في مجتمع يعاني من قيود على الطموح المستقل، يمكن أن تتحول حتى الإنجازات إلى مصادر للشبهة، ويصبح النور الذي تسير نحوه الأحلام بداية لمسار مظلم مليء بالتحديات.
صانع أحلام الملايين في مواجهة قتلة الأحلام
على مدار سنوات، أصبح اسم أحمد أبو زيد مرادفاً للفرص التي يمكن أن تُخلق من الصفر. عبر قناته التعليمية “دروس أونلاين”، استطاع أحمد أن يقدم نموذجاً جديداً لصانع المحتوى في العالم العربي: شخص يضع التعليم والمعرفة في متناول الجميع، بأسلوب بسيط وأدوات فعالة. في بلد غالباً ما يواجه فيه الشباب تحديات كبيرة للحصول على تعليم جيد، كان أحمد يقدم بديلاً مجانياً وعملياً، جاعلاً من قناته منصة تعليمية بديلة يتابعها الملايين.
لكن كما هو الحال دائماً، النجاح الفردي في مصر ليس مجرد إنجاز، بل تحدٍّ للنظام السائد. قبل أسابيع قليلة، أصبح أحمد أبو زيد محور حديث منصات التواصل الاجتماعي بعد ترشيحه لجائزة “قمة المليار متابع”، وهي جائزة عالمية تُمنح لأبرز صُنَّاع المحتوى تأثيراً، وقيمتها تصل إلى مليون دولار. في لحظة واحدة، بدا أن شاباً قروياً بسيطاً استطاع أن يضع نفسه ومصر على خريطة المنافسة العالمية.
إلا أن هذا الزخم لم يدم طويلاً. اعتقال أحمد جاء ليقلب كل شيء رأساً على عقب. لم يكن الأمر مجرد احتجاز عابر، بل تبعه استبعاده المفاجئ من الجائزة، وهو ما أثار موجة من التساؤلات حول دوافع هذا التوقيت الغريب، بخاصة أن الجائزة ممولة من دولة الإمارات. هل كانت التهم الموجهة إليه – “حيازة عملة أجنبية” و”الانتماء لجماعة إرهابية” – تحمل مصداقية حقيقية؟ أم أن هناك رغبة في تحجيم نجاحه ووضع سقف له؟
ما يجعل القصة أكثر إثارة للتساؤلات هو معرفة الجمهور بمصدر دخل أحمد، وهو العائدات المشروعة من قناته على “يوتيوب”، التي تُحوَّل إليه بطرق مصرفية قانونية. هذا التناقض بين طبيعة التهم وسجل أحمد الواضح جعل من السهل على الناس التشكيك في النوايا الحقيقية وراء احتجازه.
رؤية الدولة: قمع باسم المصلحة العامة
في المشهد المصري، تتجلى رؤية الدولة التي تصر على لعب دور الوصي الأوحد، إذ تُعامل المواطن كشخص غير قادر على اتخاذ القرارات الصائبة بشأن حياته. هذه الفلسفة تمنح السلطة تفويضاً ضمنياً بتجاوز القوانين والأعراف، ما دامت تعتبر أن ذلك يخدم “المصلحة العامة”. لكن، كما تُظهر قضية أحمد أبو زيد، يؤدي هذا النهج غالباً إلى نتائج معاكسة تماماً لما تدعيه السلطة.
اعتقال أحمد، على رغم وضوح شرعية مصدر دخله، يكشف الطريقة التي يتم بها التعامل مع النجاح الفردي في مصر. الإنجاز الشخصي، إذا لم يكن تحت مظلة الدولة، يتحول إلى تصرف مريب يستوجب الترويض. الدولة، في هذا السياق، لا ترى في النجاح المستقل إضافة للمجتمع، بل تنظر إليه كتهديد لهيمنتها على صياغة رواية النجاح.
هذا النهج لا يضر فقط بأمثال أحمد أبو زيد، بل يخلق ديناميكية أكثر تعقيداً بين الدولة ومواطنيها. الغضب الشعبي الذي قد يبدو هادئاً في الظاهر يتراكم مع كل حالة مشابهة، ما يخلق فجوة متزايدة بين الطرفين. هذه ليست مجرد أزمة تتعلق بشخص واحد، بل هي انعكاس لخلل أعمق في كيفية إدارة العلاقة بين السلطة وإمكانات الأفراد.
إقرأوا أيضاً:
التهم الملفقة وخطاب الأمن الوطني
في مصر، لا تُعد حيازة العملة الأجنبية جريمة قانونية إذا تم التعامل معها ضمن القنوات المصرفية المصرح بها. ومع ذلك، يبدو أن هذه القاعدة القانونية تُعاد صياغتها، بحسب تحليل صفحة الموقف المصري، عندما تكون القضايا مرتبطة بأشخاص مثل أحمد أبو زيد. التهمة الموجهة إليه بحيازة عملة أجنبية ليست سوى جزء من خطاب أمني أوسع، يعيد تعريف الحدود بين القانون والسيطرة المفرطة، ما يخلق حالة من الالتباس في فهم حقوق المواطنين.
في سياق اقتصادي مضطرب، حيث يتعرض الجنيه المصري لضغوط مستمرة، يصبح الاحتفاظ بالدولارات أو الذهب سلوكاً مبرراً لأي مواطن يسعى الى حماية مدخراته. هذا الواقع ليس خافياً على أحد، بمن في ذلك المسؤولون الذين من المرجح أنهم يتبعون استراتيجيات مشابهة. ومع ذلك، بدلاً من مواجهة الأسباب الجذرية لهذه الأزمة، يُختزل الأمر إلى اتهام فردي، يجعل من أحمد أبو زيد مثالاً على تحويل الشخص الناجح إلى مذنب.
هذه الممارسات ليست عشوائية، بل تعكس نمطاً يتجاوز القوانين، إذ تُستخدم التهم الملفقة كأداة لضبط مساحات الحرية الفردية. لا يتعلق القلق هنا فقط بانتهاك حقوق أحمد، بل بما تحمله القضية من رسالة أعمق، وهي أن النجاح، بخاصة إذا تحقق خارج الأطر التي ترسمها السلطة، يمكن أن يصبح خطراً يستدعي المواجهة.
من خلال هذا النهج، لا تُضعف الدولة فقط إمكانات الأفراد، بل ترسل إشارة إلى كل من يحاول تحقيق نجاح مستقل بأن هذه الخطوة قد تكون محفوفة بالمخاطر، ليس بسبب فشلهم، بل بسبب خوف السلطة من نجاحهم.
رؤية شخصية: أحمد أبو زيد من منظور أحد المتابعين
في واحدة من أكثر القصص تأثيراً، التي ظهرت حول أحمد أبو زيد، يروي المدون واليوتيوبر إسلام عاكف، صاحب قناة “ستوديو عاكف،” تجربة شخصية تلقي الضوء على البُعد الإنساني والتعليمي لصانع المحتوى الذي أصبح رمزاً للنجاح المستقل. في تدوينة كتبها، وصف إسلام كيف وجد نفسه، بشكل غير متوقع، شاهداً على تأثير أحمد في تغيير حياة الآخرين، حتى من دون أن يدرك الأخير ذلك.
إسلام كان يحاول تعليم قريب له اللغة الإنكليزية أثناء إقامته في الخارج، مجنداً كل طاقته وجهوده لإعداد دروس يومية. لكن القريب اكتشف في النهاية قناة “دروس أونلاين”، التي يديرها أحمد أبو زيد، والتي سرعان ما أصبحت المصدر الأساسي لتعلمه. يقول إسلام، بنبرة ساخرة: “في تلك اللحظة، كان أحمد أبو زيد بالنسبة إلي خصماً أكثر منه معلماً. لقد سحب البساط من تحت قدمي”.
لكن هذه المنافسة الظريفة تحولت بمرور الوقت إلى احترام وإعجاب. تابع إسلام كيف تطورت قناة أحمد لتصبح منصة تعليمية رائدة تجمع بين الاحترافية والبساطة، ما أكسبها ثقة الملايين. بالنسبة الى إسلام، أحمد لم يكن مجرد معلم رقمي، بل نموذجاً لشخص استطاع أن يجد توازناً فريداً بين القيم والمحتوى الذي يقدمه.
ورغم اختلاف الخلفيات الفكرية بينهما، أقر إسلام بأن أحمد أبو زيد نجح في الحفاظ على استقلاله، متجنباً المزايدات السياسية والدينية التي تُفسد غالباً المشهد الرقمي. في عالم حيث يُنظر إلى المحتوى على أنه وسيلة للتأثير أو الربح فقط، استطاع أحمد أن يظل صادقاً مع جمهوره ومع نفسه.
في ختام تدوينته، لخّص إسلام المعنى الأعمق لقضية أحمد: “إن استهداف شخص مثل أحمد أبو زيد لا يعني فقط تقييد حريته، بل يوجه رسالة خاطئة لجيل كامل من الشباب الطموحين. الرسالة واضحة: النجاح، إذا لم يكن تحت سيطرة السلطة، يمكن أن يتحول إلى جريمة”.
قضية أحمد، من هذا المنظور، هي أكثر من مسألة فردية؛ إنها انعكاس للصدام المستمر بين الإبداع الفردي وقيود السلطة التي تسعى الى تحديد معالم النجاح ضمن إطارها الخاص.
القمع كمنظومة
اعتقال أحمد أبو زيد يتجاوز كونه حدثاً فردياً ليكشف عن نمط متكرر في العلاقة بين الدولة وشبابها. الرسالة التي تحملها هذه الواقعة واضحة: النجاح المستقل، عندما يتم خارج حدود الهيمنة الرسمية، يُعتبر تهديداً يستوجب الإحباط. في بيئة حيث يتم التعامل مع الطموح الفردي بريبة، يُصبح الشباب أمام خيارين: إما البقاء في الظل أو المخاطرة بالتعرض للتضييق.
قضية أبو زيد تمثل صورة مصغرة لنهج أوسع يستهدف حصر إمكانات الشباب ضمن إطار ضيق تفرضه السلطة. في نظام يفضل السيطرة على التطوير، يُنظر إلى الإبداع والتفكير المستقل كعناصر مقلقة بدلاً من كونها فرصاً لتقدم المجتمع. النتيجة هي خنق الطاقات، وإضعاف الأمل لدى الأجيال الصاعدة التي ترى أن كل خطوة نحو تحقيق الذات قد تؤدي إلى الاصطدام بجدران غير مرئية.
ما يجعل الأمر أكثر إلحاحاً هو التناقض الذي تعيشه الدولة. فمن جهة، تواجه تحديات اقتصادية واجتماعية هائلة تتطلب مساهمات شبابية مبتكرة، ومن جهة أخرى، تضيق على تلك المساهمات بحجة الحفاظ على السيطرة. هذه الازدواجية لا تخلق فقط فجوة بين الشباب والسلطة، بل تهدد بتدمير الثقة في أي إمكانية لتحقيق تغيير إيجابي.
في هذا السياق، اعتقال شخص مثل أحمد أبو زيد ليس مجرد قضية شخصية، بل يمثل اختباراً لطموحات جيل كامل. كيف بإمكان شباب مصر أن يُبدعوا ويزدهروا إذا كان الطريق نحو التميز محفوفاً بالمخاطر؟ وكيف بإمكان دولة أن تتطلع إلى مستقبل أفضل بينما تُحجم أكبر مواردها: العقول الشابة المستقلة؟ هذه أسئلة تظل الإجابة عنها غائبة، فيما يحتاج المجتمع إلى التفكير العميق في مساره ومستقبله.