تنتظر عديلة إبراهيم حتى منتصف النهار لبدء إعداد وجبة تتكوّن من عصيدة، وهي عبارة عن طحين الذرة الرفيعة، يُطهى مع ملح وماء على نار هادئة، لإطعام أطفالها الثلاثة الذين لا يتعدى عمر أكبرهم الـ9 سنوات.
فرت عديلة من منزل أسرتها في جنوب الخرطوم، بعد فقدان الأمل بعودة زوجها الذي فقدت التواصل معه بعد أيام من اندلاع النزاع في 15 نيسان/ أبريل 2023، إلى ولاية الجزيرة، قبل أن تنتقل مرة أخرى إلى القضارف شرق السودان، حيث تقيم في منزل متهالك.
تعتبر عديلة نفسها محظوظة، رغم أنها واحدة من أصل 84 في المئة من الأسر النازحة البالغ عددها 2.3 مليون أسرة، بعدد أفراد يصل إلى 11.5 مليون نسمة، 53 في المئة منهم أطفال بحاجة إلى الغذاء، نظراً الى وجودها في منطقة تستطيع إيجاد عمل يُوفر لأطفالها وجبة واحدة في اليوم، فيما تُرثي حال أقربائها في مخيم زمزم، في عاصمة ولاية شمال دارفور غرب السودان، حيث أشار التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي في تقرير له مطلع آب/ أغسطس 2023، الى وقوع مجاعة، وأكد استمرارها في المخيم وموقعين آخرين للنازحين وفي جبال النوبة الغربية، متوقعاً تمددها إلى 5 مناطق أخرى، فيما تواجه 17 منطقة إضافية خطر المجاعة.
أزمة جوع مكتشفة
قالت عديلة لـ “درج”، إنها تُساعد بائعة شاي في غسل الأواني خلال الفترة الصباحية مقابل 500 جنيه، أي نحو 0.21 دولار، تشتري به طحين الذرة الرفيعة مع ادخار القليل منه لشراء الملح.
وأفادت بأن ابنها الأكبر يعمل أحياناً في غسيل السيارات أو مسح الأحذية ونقل المياه، من دون أن يستجيب لمحاولة منعه من العمل خشية تعرضه للاستغلال، إذ بات مشهد عشرات الأطفال الذين يعملون في حمل الأمتعة وبيع الألعاب رديئة الصنع في جميع أسواق المدن مألوفًا في ظل تفاقم الفقر وشحّ الموارد.
ويصطف يومياً آلاف الأشخاص أمام مقار غرف الطوارئ، وهي تنظيمات تطوعية تعمل على تقديم الطعام إلى مئات الآلاف عبر المطابخ الجماعية، فيحصلون عبرها على وجبة غير مغذية خاصة للأطفال والحوامل والمرضعات، فهي أفضل من الجوع الذي تسبب في موت الكثيرين من السودانيين.
وترتكب الأطراف المتصارعة انتهاكات بحق المتطوعين في غرف الطوارئ، رغم أنهم يكافحون لتأمين الطعام في ظل تعرض بعضهم للقتل والبعض الآخر للاعتقال والتعذيب، علاوة على عرقلة وصول الإغاثة ونقص الموارد؛ ما أدى الى توقف مطابخ في جنوب الخرطوم وتهديد 50 ألف شخص بخطر الموت جوعاً.
وفيما بدأت غرف الطوارئ العمل في بداية النزاع بزخم قوي باعتبارها مبادرات نابعة من الإرث الشعبي عند الطوائف الصوفية، الذي يُعرف بـ “التكايا” أو “النفير”، لكن هذا الزخم تراجع فتوقف عملها على غرار مطابخ الأزهري في جنوب الخرطوم.
اضطر السودانيون إلى تناول علف الحيوانات وأوراق الأشجار، بخاصة في شمال دارفور وجنوب كردفان وبعض مجتمعات النازحين. ومع ذلك، يُصر طرفا النزاع وحلفاؤهما من الجماعات المسلحة التي تزداد عدداً وعتاداً يوماً بعد يوم، على إنهاء خلافاتهم بالقوة العسكرية.
يحتاج 30.4 مليون سوداني ــ 64 في المئة من السكان ــ إلى مساعدات إنسانية هذا العام، وتسعى الأمم المتحدة الى جمع 4.2 مليار دولار لتقديم مساعدات منقذة للحياة إلى 20.9 مليون شخص، منهم 50.4 في المئة أطفال و24.4 في المئة نساء. ولا يتوقع أن تحصل خطة الاستجابة الإنسانية على تمويل كافٍ، إذ مُولت في 2024 بنسبة 65.2 في المئة وفي العام الذي سبقه بنسبة 51.3 في المئة.
تدابير متطرفة
في محاولة للبقاء على قيد الحياة في ظل تفشّي أزمة الجوع، عمد البعض الى تزويج الطفلات والانضمام إلى الجماعات المسلحة، والنهب، وحتى ممارسة الجنس مقابل الغذاء والمياه.
وقالت أبرار برعي ـ اسم مستعار ـ إنها اضطرت إلى ممارسة الجنس مقابل المال مع مقاتلي قوات الدعم السريع ومسلحين آخرين، لإعالة طفلتها البالغة أربع سنوات وزوجها المعاق، من دون علم أسرتها.
وأفادت لـ “درج” بأنها حاولت بيع البنزين في العبوات الصغيرة لأصحاب الدراجات النارية والتوك توك، لكنها لم تجنِ مالاً كافياً، ما جعلها تقوم بأفعال يعاقب المجتمع المرأة عليها بالقتل على يد أحد أفراد الأسرة.
وتوضح أبرار أن الواقع الذي تعيش فيه دفع الكثير من الأسر إلى تزويج الطفلات للتخلص من إعالتهن، رغم احتمال تعرضهن للعنف القائم على النوع الاجتماعي، الذي يُتوقع أن تتعرض له 12 مليون امرأة وفتاة ورجل وفتى، بخاصة مع وجود 17 مليون طفل خارج المدرسة.
ويؤدي تعطّل الدراسة إلى جعل الأطفال عُرضة للتجنيد في الجماعات المسلحة واستخدامهم كمقاتلين وجواسيس وعمال، فيما يُعرض الفتيات لمخاطر العنف الجنسي والإساءة والاستغلال، إذ تشير تقارير الأمم المتحدة إلى وقوع 160 حادثة ضد الأطفال خلال النصف الأخير من العام الماضي، منها 80 في المئة حالات قتل وتشويه.
ويتوقع أن يعاني 3.2 مليون طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية الحاد هذا العام، بما في ذلك 772 ألف طفل يُتوقع أن يعانوا من سوء التغذية الحاد، الذي أودى بحياة نصف مليون طفل رضيع على الأقل منذ اندلاع الحرب.
إقرأوا أيضاً:
القدرة على الصمود
تواجه النساء في السودان مخاطر عدة، تشمل الاغتصاب والاستغلال الجنسي وتشويه الأعضاء التناسلية والنزوح ونقص الرعاية الصحية وعدم توافر المياه وانقطاع الكهرباء؛ إضافة الى تحديات تتمثل في الاعتقال من الجيش والجماعات المتحالفة بذريعة التعاون مع قوات الدعم السريع.
ولا يتورع المقاتلون عن الإساءة والاعتداء على السيدات، على غرار ما حدث في إحدى مناطق ولاية الجزيرة التي استعاد الجيش وحلفاؤه السيطرة عليها حديثاً، حيث تم تعذيب وإعدام معلمة في منطقة السقاي شمال الخرطوم بسبب مطالبتها بالإفراج عن ابنها المعتقل لديهم.
وقالت مديرة وحدة مكافحة العنف ضد المرأة في وزارة التنمية الاجتماعية، سليمي إسحاق، إن النساء السودانيات يدفعن دائماً ثمن الحروب، إذ يتعرضن للعنف الجنسي، والزواج المبكر جداً، وبتر الأعضاء التناسلية وتشويهها.
وأشارت إلى أن الحكومة تعمل على تعزيز آليات حماية النساء، وهذا اعتراف منها بأن مسألة الانتهاكات ضد المرأة تؤثر على وضع الدولة وتظهر تدهورها، معتبرةً ذلك تغييراً إيجابياً رغم استمرار الصراع.
وشددت سليمي، خلال حديثها لـ “درج”، على أن النساء هن أكثر الفئات تماسُكاً وقدرة على الصمود رغم الانتهاكات الواسعة التي تُرتكب بحقهن.
لكن تقييم سليمي إسحاق مغرق في التفاؤل، فالانتهاكات واسعة النطاق ضد النساء، ونشاط الوحدة يقتصر على المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش فقط.
دعارة قسرية ومحاكمات جائرة
قالت الناشطة والمدافعة عن حقوق الإنسان نون كشكوش، لـ”درج”، إن معظم النساء نزحن ولجأن إلى الدول المجاورة من دون أزواجهن، فيما العالقات في مناطق الصراع النشطة يرعين المسنين والمرضى أو يبحثن عن مفقودين من أفراد أسرهن، ما يرتب عليهن آثاراً نفسية واقتصادية سيئة جداً.
وأفادت بأن كل الأسر السودانية في مناطق النزاع فقدت مصادر الدخل والوظائف، ما يؤثر على النساء ويجعلهن أكثر عرضة للعنف الجنسي المرتبط بالصراع والاختطاف وممارسة الجنس مقابل الغذاء وزواج القاصرات، فيما تدفع الأوضاع الاقتصادية السيئة الأسر إلى تزويج الفتيات قسرياً.
وذكرت كشكوش، وهي محامية ناشطة في مرصد الجزيرة الذي يعمل على كشف الانتهاكات، أنهم رصدوا أكثر من 11 حالة زواج قسري في ولاية الجزيرة وسط السودان، إضافة إلى رصد حالات بيع لنساء، وإجبار قوات الدعم السريع النساء على ممارسة الجنس مقابل المال في مناطق سيطرتها.
وتحدثت عن غياب العدالة الذي تعاني منه النساء السودانيات، إذ واجهن عنفاً مبنياً على النوع الاجتماعي أو عنفاً أسرياً، مستدلة بمقتل محامية على يد شقيقها في مركز إيواء في مدينة بورتسودان الواقعة شرق السودان، والتي اتخذها الجيش مركزاً لإدارة شؤون البلاد بعد التدمير الواسع الذي لحق بالعاصمة الخرطوم جراء الحرب.
وكشفت كشكوش عن رصدهم حالات كثيرة لفتيات ونساء حُوكمن بموجب المادتين 50 و51 من القانون الجنائي لسنة 1991، واللتين تتعلقان بتقويض النظام الدستوري وإثارة الحرب ضد الدولة، وكل مادة منهما تصل العقوبة فيها إلى الإعدام، بدعوى التعاون مع قوات الدعم السريع.
وقالت إن هذه المحاكمات تحدث رغم أن البينات المقدمة ضد النساء ضعيفة، وتتمثل في صور أو رسائل في الهاتف المحمول من دون التحقق منها. كما لا تتوافر فيها معايير المحاكمة العادلة بدءاً من لحظة التوقيف والتحقيق والحق في تمثيل قانوني، إذ عادة ما يتعلق الاتهام بوجودهن في مناطق تخضع لسيطرة الدعم السريع.
وأضافت: “يمضي بعض النساء والفتيات بعد صدور حكم محكمة الموضوع، فترات طويلة في السجون في انتظار الاستئناف، ما يترك أثراً نفسياً كبيراً عليهن”.
لا مستقبل سواء كان مشرقاً أو مظلماً
بعد انهيار أنظمة المياه والصرف الصحي، وانقطاع الاتصالات في مناطق واسعة من الخرطوم والجزيرة ودارفور وكردفان، بما يمنع الوصول إلى المعلومات والخدمات المصرفية، قصفت قوات الدعم السريع بالطائرات المسيرة محطات الكهرباء في سنار والقضارف ومروي ودنقلا.
ويهدد قصف محطات الكهرباء بظلام شامل يعيق استمرار خدمات الإنترنت والمياه والصحة، علماً أن 25 في المئة فقط من المرافق الصحية في مناطق النزاع تعمل، و45 في المئة في المناطق الأخرى، ما يؤثر بشدة على النساء، لا سيما اللواتي أنجبن حديثاً.
تمضي حياة النساء والأطفال في مزيد من التدهور، في ظل استمرار النزاع وتزايد الجماعات المسلحة وتفاقم الاستقطاب الأهلي وانعدام الأمن والخدمات، والارتفاع المتوالي في أسعار السلع والبطالة.
ويُرجح أن يقود ما يحدث في السودان إلى التفكك الأسري والاجتماعي في ظل ازدياد الانتهاكات، مثل الاغتصاب والقتل الجماعي والإعدام وسجن النساء وقتل الأسرى والمدنيين بشبهة الانتماء والتعاون مع الأطراف، بطرق متنوعة منها إطلاق الرصاص عليهم أمام الجميع، والذبح، وبقر البطون، والرمي في النيل.
السودانيون بأطيافهم كافة، لا سيما النساء منهم، يدفعون ثمناً باهظاً بسبب تقاتل أمراء الحرب على السلطة، فمن يخفّف عنهم؟.
إقرأوا أيضاً: