fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

النسيان آفة حارتنا… اذاً فلنرقص ونوزّع الحلوى

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الشرخ العميق بين اللبنانيين نعرفه، ونعرف الفرق بين “من يشبهنا” و”من لا يشبهنا”، وبين “من يسهر بينما البلد في حرب”، وبين “من يرفض الانجرار أصلاً إلى الحرب”، وبين من هو أكثر لبنانية من الآخر، لا معنى للسؤال الأخلاقي هنا، ولا تفسير له، كلنا، ولله الحمد، أخلاقيون، وكلنا في الوقت عينه بلا أخلاق

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كانت الأغنية أحلى رثاء لسياسي في التاريخ. بيتاً إثر بيت، تصعد قصيدة شوقي بزيع في جمالها، وجملة موسيقية إثر أخرى، تصنع أغنية مارسيل خليفة من اغتيال كمال جنبلاط حدثاً رومانسياً بديعاً، يجتاز الزعيم الذي قتل، إلى مطلق زعيم أو قائد أو حتى إنسان عادي: “أظنها طلقات الغدر حين هوت تكاد لو أبصرت عينيه تعتذر”.

لكنه كان “الزمن الجميل” الذي كان اغتيال الناس فيه أحلى من قصص الحب، زمن كان اللبنانيون فيه، سياسيون وعامّة، تفيض الأخلاق من خواصرهم، ويقطر النبل من أجفانهم، وكانت المذابح تنظم في مهرجانات قروية على وقع خبطة أقدام الشباب في حلقات الدبكة، وكادت الشماتة المتبادلة لا تذكر، حتى الرصاص كان لبقاً وحنوناً ومهذباً، يُبكي قتيله بينما يقتله.

ماذا تقول عبارة نجيب محفوظ الخالدة؟ أجل، “لكنّ آفة حارتنا النسيان”. ننسى بسرعة، طوال عقدين ونحن ننسى، وفي كل حدث اغتيال جديد، تفاجئنا النذالة والسفاهة والحقارة والوضاعة (وقس على ذلك، العربية ملآنة بتنويعات لا تنتهي على هذا الوزن من المصطلح)، ننسى ونفاجأ بأن الرومانسية انتهت في السبعينات، حين لم يشمت لبناني واحد حينها باغتيال جنبلاط، بل إن لبنان بجباله وأرزه وسنديانه مشى في جنازته.

 نفاجأ، بعد كل الصراع اللبناني – اللبناني، بأن اغتيال إسرائيل قائداً في “حزب الله”، لم نكن نعرف له شكلاً ولا اسماً، سيكون فرصة جديدة لموجة من الشماتة والتشفي الصريحين على السوشال ميديا. 

ألم يحدث هذا من قبل؟ 

أن شمت معسكر الحزب بخسائر خصومه، والعكس؟ حدثَ، مع الأسف أو من دونه، هذا ليس مهماً. في كل مرة يُقتل شخص من فريق، يعتبره الفريق الآخر هدفاً سُجّل بيد إلهية، لا فرق إذا كانت يد مارادونا أو يد الحزب أو يد بنيامين نتانياهو. 

وإذا كان توزيع البقلاوة في الشوارع سابقاً أبرز أنواع خلع القفازات، فهذه عادة باتت بدورها من الزمن الجميل. السوشال ميديا الآن، لا تحتاج أحداً إلى خلع قفازاته أو سرواله والقفز إلى الساحة بالطبل والمزمار، ليسخر علناً وعلى رؤوس الأشهاد، ومن دون أن يتكلف ثمن السكاكر.

هذه حرب مديدة يخوضها مناصرو المحورين “الفسطاطين”، على غرابة هذا التعبير وبشاعة لفظه، لا مكان فيها للأخلاق، إلا حين نلجأ إليها دفاعاً عما نريده منها، لا مكان فيها لآلام الأطفال، إلا حين نريد أن نرميهم في ساحة المشاعر، ولا مكان فيها للتحسر على النبل المفقود، إلا ونحن نحاول الوقوف بعد الصفعة التي طرحتنا أرضاً لتوها، ولا مكان فيها للتكاذب الاجتماعي في اللحظة الأكثر ملاءمة للانفجار ضحكاً من الآخر وعليه.

لحظة الاغتيال هي لحظة فرز معادن الناس، الغالي فيها من الرخيص، يكتب صديق لي. أفترض معه أنه محق، وأن هذه الحرب هي فعلاً لحظة وضوح وسطوع رؤية، ثم ماذا؟ ماذا استفادت الأمة يا صديقي من سقوط القناع عن القناع؟ قد يستفيد منه الواحد على مستوى شخصي ضيق بأن يكتشف، مجدداً، المصابين بالسعار، بحسب معياره الشخصي لدرجة السعار، لا فائدة من هذا الاكتشاف، كما لا فائدة من الفرز المتكرر لمعادن الناس، اللهم إلا في تحميل الأحقاد الدفينة مزيداً منها، أحقاد لا طريق لتصريفها إلا بالهستيريا التي ستنفجر مع الهدف التالي، هدهداً كان أو اغتيالاً.

 أكبر مني ومنك ومنا كلنا هذه الحرب التي تصير الآن، لكنها، بسبب إدمان اللبنانيين على الزجل، ومعهم السوريون، تتحول إلى مبارزات بالسيف والترس، ينزل فيها اليساري كتفاً إلى كتف مع شقيقه اليميني، في وصلات لا تنتهي من إعلان المواقف والهجوم على الآخرين. 

ليس أن مواقف هؤلاء جميعاً لا تعني حتى أمهاتهم، وليس أن أحداً لا يسمع أحداً في هذه الضجة، بل إن الحفل الساهر نفسه، بخسّه وفجله وخياره اللامع، ينتصب على الطاولة أمام الزجّالين، بات ممجوجاً ومملاً، لأن الزجل مباشر والوضوح شغّال والقافية متوقعة. 

الشرخ العميق بين اللبنانيين نعرفه، ونعرف الفرق بين “من يشبهنا” و”من لا يشبهنا”، وبين “من يسهر بينما البلد في حرب”، وبين “من يرفض الانجرار أصلاً إلى الحرب”، وبين من هو أكثر لبنانية من الآخر، لا معنى للسؤال الأخلاقي هنا، ولا تفسير له، كلنا، ولله الحمد، أخلاقيون، وكلنا في الوقت عينه بلا أخلاق، كلنا من المعدن نفسه، بغض النظر عن جودته وسعره.  

كلنا متفرجون بلا غاية ترجى من هذه الفرجة، وضبنا مواقفنا المسبقة وجلسنا نبرر مراكمة الأحقاد بناء عليها، ولا أحد يجرؤ على الادعاء أنه لديه من الحكمة والحياد ما يكفي، لأن يمنح صكوك الأخلاق لمن نجح في الامتحان ويحرمها عمن رسب، ولا أحد يجرؤ على الزعم بأن لديه ملكة النسيان على الرغم من نجيب محفوظ وعبارته الخلّابة، النسيان ليس آفة حارتنا…حارتنا، الضيقة، هي آفتنا.

مصطفى إبراهيم - حقوقي فلسطيني | 24.01.2025

فرح أهل غزة المؤقّت والبحث عما تبقّى من ذاتهم

المفروض أن يعود النازحون من الجنوب الى مدينة غزة وشمالها حسب اتفاق وقف إطلاق النار، وهي المرحلة الثانية من الحرب، والبحث عما تبقى من ممتلكاتهم وأملاكهم وحياتهم. في الوقت ذاته، يبحث الذين هُدمت بيوتهم عن أماكن لإيوائهم أو يسعون الى استئجار شقق والبدء من جديد. هي "حرب" جديدة قد تستمر سنوات من إعادة ترميم الذات…
01.08.2024
زمن القراءة: 3 minutes

الشرخ العميق بين اللبنانيين نعرفه، ونعرف الفرق بين “من يشبهنا” و”من لا يشبهنا”، وبين “من يسهر بينما البلد في حرب”، وبين “من يرفض الانجرار أصلاً إلى الحرب”، وبين من هو أكثر لبنانية من الآخر، لا معنى للسؤال الأخلاقي هنا، ولا تفسير له، كلنا، ولله الحمد، أخلاقيون، وكلنا في الوقت عينه بلا أخلاق


كانت الأغنية أحلى رثاء لسياسي في التاريخ. بيتاً إثر بيت، تصعد قصيدة شوقي بزيع في جمالها، وجملة موسيقية إثر أخرى، تصنع أغنية مارسيل خليفة من اغتيال كمال جنبلاط حدثاً رومانسياً بديعاً، يجتاز الزعيم الذي قتل، إلى مطلق زعيم أو قائد أو حتى إنسان عادي: “أظنها طلقات الغدر حين هوت تكاد لو أبصرت عينيه تعتذر”.

لكنه كان “الزمن الجميل” الذي كان اغتيال الناس فيه أحلى من قصص الحب، زمن كان اللبنانيون فيه، سياسيون وعامّة، تفيض الأخلاق من خواصرهم، ويقطر النبل من أجفانهم، وكانت المذابح تنظم في مهرجانات قروية على وقع خبطة أقدام الشباب في حلقات الدبكة، وكادت الشماتة المتبادلة لا تذكر، حتى الرصاص كان لبقاً وحنوناً ومهذباً، يُبكي قتيله بينما يقتله.

ماذا تقول عبارة نجيب محفوظ الخالدة؟ أجل، “لكنّ آفة حارتنا النسيان”. ننسى بسرعة، طوال عقدين ونحن ننسى، وفي كل حدث اغتيال جديد، تفاجئنا النذالة والسفاهة والحقارة والوضاعة (وقس على ذلك، العربية ملآنة بتنويعات لا تنتهي على هذا الوزن من المصطلح)، ننسى ونفاجأ بأن الرومانسية انتهت في السبعينات، حين لم يشمت لبناني واحد حينها باغتيال جنبلاط، بل إن لبنان بجباله وأرزه وسنديانه مشى في جنازته.

 نفاجأ، بعد كل الصراع اللبناني – اللبناني، بأن اغتيال إسرائيل قائداً في “حزب الله”، لم نكن نعرف له شكلاً ولا اسماً، سيكون فرصة جديدة لموجة من الشماتة والتشفي الصريحين على السوشال ميديا. 

ألم يحدث هذا من قبل؟ 

أن شمت معسكر الحزب بخسائر خصومه، والعكس؟ حدثَ، مع الأسف أو من دونه، هذا ليس مهماً. في كل مرة يُقتل شخص من فريق، يعتبره الفريق الآخر هدفاً سُجّل بيد إلهية، لا فرق إذا كانت يد مارادونا أو يد الحزب أو يد بنيامين نتانياهو. 

وإذا كان توزيع البقلاوة في الشوارع سابقاً أبرز أنواع خلع القفازات، فهذه عادة باتت بدورها من الزمن الجميل. السوشال ميديا الآن، لا تحتاج أحداً إلى خلع قفازاته أو سرواله والقفز إلى الساحة بالطبل والمزمار، ليسخر علناً وعلى رؤوس الأشهاد، ومن دون أن يتكلف ثمن السكاكر.

هذه حرب مديدة يخوضها مناصرو المحورين “الفسطاطين”، على غرابة هذا التعبير وبشاعة لفظه، لا مكان فيها للأخلاق، إلا حين نلجأ إليها دفاعاً عما نريده منها، لا مكان فيها لآلام الأطفال، إلا حين نريد أن نرميهم في ساحة المشاعر، ولا مكان فيها للتحسر على النبل المفقود، إلا ونحن نحاول الوقوف بعد الصفعة التي طرحتنا أرضاً لتوها، ولا مكان فيها للتكاذب الاجتماعي في اللحظة الأكثر ملاءمة للانفجار ضحكاً من الآخر وعليه.

لحظة الاغتيال هي لحظة فرز معادن الناس، الغالي فيها من الرخيص، يكتب صديق لي. أفترض معه أنه محق، وأن هذه الحرب هي فعلاً لحظة وضوح وسطوع رؤية، ثم ماذا؟ ماذا استفادت الأمة يا صديقي من سقوط القناع عن القناع؟ قد يستفيد منه الواحد على مستوى شخصي ضيق بأن يكتشف، مجدداً، المصابين بالسعار، بحسب معياره الشخصي لدرجة السعار، لا فائدة من هذا الاكتشاف، كما لا فائدة من الفرز المتكرر لمعادن الناس، اللهم إلا في تحميل الأحقاد الدفينة مزيداً منها، أحقاد لا طريق لتصريفها إلا بالهستيريا التي ستنفجر مع الهدف التالي، هدهداً كان أو اغتيالاً.

 أكبر مني ومنك ومنا كلنا هذه الحرب التي تصير الآن، لكنها، بسبب إدمان اللبنانيين على الزجل، ومعهم السوريون، تتحول إلى مبارزات بالسيف والترس، ينزل فيها اليساري كتفاً إلى كتف مع شقيقه اليميني، في وصلات لا تنتهي من إعلان المواقف والهجوم على الآخرين. 

ليس أن مواقف هؤلاء جميعاً لا تعني حتى أمهاتهم، وليس أن أحداً لا يسمع أحداً في هذه الضجة، بل إن الحفل الساهر نفسه، بخسّه وفجله وخياره اللامع، ينتصب على الطاولة أمام الزجّالين، بات ممجوجاً ومملاً، لأن الزجل مباشر والوضوح شغّال والقافية متوقعة. 

الشرخ العميق بين اللبنانيين نعرفه، ونعرف الفرق بين “من يشبهنا” و”من لا يشبهنا”، وبين “من يسهر بينما البلد في حرب”، وبين “من يرفض الانجرار أصلاً إلى الحرب”، وبين من هو أكثر لبنانية من الآخر، لا معنى للسؤال الأخلاقي هنا، ولا تفسير له، كلنا، ولله الحمد، أخلاقيون، وكلنا في الوقت عينه بلا أخلاق، كلنا من المعدن نفسه، بغض النظر عن جودته وسعره.  

كلنا متفرجون بلا غاية ترجى من هذه الفرجة، وضبنا مواقفنا المسبقة وجلسنا نبرر مراكمة الأحقاد بناء عليها، ولا أحد يجرؤ على الادعاء أنه لديه من الحكمة والحياد ما يكفي، لأن يمنح صكوك الأخلاق لمن نجح في الامتحان ويحرمها عمن رسب، ولا أحد يجرؤ على الزعم بأن لديه ملكة النسيان على الرغم من نجيب محفوظ وعبارته الخلّابة، النسيان ليس آفة حارتنا…حارتنا، الضيقة، هي آفتنا.