fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

النشأة الملتوية للوطنيّات العربيّة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

حديثة هي الوطنيّة خارج أوروبا. أمّا عندنا تحديداً، في المشرق العربيّ، فربّما كانت أشدّ تعاسة ممّا في أجزاء أخرى من “العالم الثالث”. تعاستها هذه بدأت مع بداياتها: فالرواية التي شاعت عن أنّ شعوب المنطقة كرهت السلطنة العثمانيّة وطلبت الاستقلال عنها أقرب إلى الاستعجال والتعميم منها إلى الدقّة. حتّى الضبّاط الذين انشقّوا عن الجيش العثمانيّ ليقاتلوا في جيش الهاشميّين و”لورانس العرب” أقلّ كثيراً ممّا صُوّروا، كما أنّ بعضهم وقعوا أسرى حرب فضُمّوا إلى “الجيش العربيّ”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

حديثة هي الوطنيّة خارج أوروبا. أمّا عندنا تحديداً، في المشرق العربيّ، فربّما كانت أشدّ تعاسة ممّا في أجزاء أخرى من “العالم الثالث”. تعاستها هذه بدأت مع بداياتها: فالرواية التي شاعت عن أنّ شعوب المنطقة كرهت السلطنة العثمانيّة وطلبت الاستقلال عنها أقرب إلى الاستعجال والتعميم منها إلى الدقّة. حتّى الضبّاط الذين انشقّوا عن الجيش العثمانيّ ليقاتلوا في جيش الهاشميّين و”لورانس العرب” أقلّ كثيراً ممّا صُوّروا، كما أنّ بعضهم وقعوا أسرى حرب فضُمّوا إلى “الجيش العربيّ”.
قصارى القول إنّ نشأة الأوطان لدينا، في المشرق، لم تكن حدثاً مثيراً للمخيّلة. لقد بدت أمراً واقعاً، وإلى حدّ بعيد، كئيباً ومرفوضاً. الهجاء المتواصل لسايكس – بيكو ينمّ عن شيء من هذا. الجنازة، منذ اليوم الأوّل، غلبت العرس.
ما دعانا الواقعُ المؤلم إلى دفنه لم يكن السلطنة العثمانيّة وحدها، بل أيضاً فكرة “الوحدة” التي تجعلنا “سلطنة” عربيّة. بنرجسيّة جريحة تساءلنا مُحتجّين: لقد ضحّينا بالعثمانيّة، فهل نضحّي بالسلطنة أيضاً؟
سوريّا، على نحو خاصّ، رفضت أن ترسو على مصير كهذا. في وعيها الجمعيّ أنّ “الوحدة” تكبير لذاتها، أو أنّها “استعادة” لأجزاء “بُترت” عنها في لبنان وفلسطين وشرق الأردن.
لكنّ الوقائع كانت تشتغل على نحو مختلف. فهناك عصبيّات ومصالح وأنظمة تعليم وطرق مواصلات نشأت مع الدول والهويّات الجديدة وباتت تدافع عنها. وعلى عكس أوروبا حيث تناغمت سيرورتا التشكّل القوميّ ونشأة الدولة، تأسّست الدول عندنا ثمّ جاء القوميّون يطالبونها بأن تحلّ نفسها لمصلحة كيان “قوميّ” أكبر. تقليدنا لأوروبا لم يكن خلاّقاً.
النتيجة، وكما نعرف جميعاً، جاءت سلبيّة جدّاً. بيد أنّ هذا لا يلغي أنّ الوطنيّات العربيّة احتفظت بالخجل في التعبير عن نفسها، وهو خجل لازم طويلاً الفكر السياسيّ السوريّ الذي اختبأ مرّةً وراء “القطر” (بوصفه جزءاً ومرحلة عابرة نحو بلوغ الكلّ القوميّ)، ومرّة وراء “العربيّة” التي تمارس الرقابة على “السوريّة” والحدّ منها، وربّما التكفير عنها. لقد عاشت سوريّا أسيرة ذنبٍ يؤرّقها هي أنّها صارت وطناً ودولة.
هذا لا يعني أنّ الوطنيّات العربيّة، بما فيها السوريّة، لم تدافع عن نفسها، ولم تحاول أن تعرّف ذاتها ولو بصيغة سلبيّة تميّزها عن “آخر” ما. لكنّها فعلت ذلك بارتباك وحرج. وقد يكون التعبير الأكبر عن الواقع الجديد هو ما عرفته المدّة القصيرة لـ “الحكم العربيّ” في دمشق. فالسوريّون وجدوا أنفسهم في مواجهة فرنسا، متحالفين مع الإنكليز، لا بل، وبحسب نجدة فتحي صفوت، عرض حاييم وايزمن على فيصل الأوّل “تقديم أموال وخبراء للحكومة العربيّة في سوريّا، كما عرض أن يقوم بإقناع الحكومة الفرنسيّة بالتخلّي عن ادّعاءاتها في المنطقة الداخليّة من سوريّا، مقابل ضمان مساعدة الأمير على تحقيق البرامج الصهيونيّة”. كان طبيعيّاً، والحال هذه، أن يتعاظم نفور الفلسطينيّين، في صراعهم مع الانتداب البريطانيّ والحركة الصهيونيّة، ممّا يحاول فيصل توطيده في دمشق.
مَن ظلّوا من الفلسطينيّين أقرب إلى فيصل والدعوة الوحدويّة هم الذين أسّسوا لاحقاً “حزب الاستقلال” الفلسطينيّ، وهم مثقّفون قوميّون عرب ضعيفو التمثيل الشعبيّ في فلسطين، بعضهم لبنانيّون كعجاج نويهض، وبعضهم سوريّون كخير الدين الزركلي وأحمد مريود ورشيد طليع.
مذّاك نشأ تنافر بين السوريّة والفلسطينيّة بلغ أوجه، بعد عقود، في صراع حافظ الأسد وياسر عرفات حول “القرار الوطنيّ المستقلّ”: السوريّة تنوي مصادرة الفلسطينيّة وطيّها تحت جناحها، الفلسطينيّة تخاف الشهيّة السوريّة للابتلاع.
فلسطين، في القاموس السوريّ، هي “جنوب فلسطين”.
في لبنان، لم يُخف المسيحيّون، الرافعون يومذاك للفكرة والوطنيّة اللبنانيّتين، عداءهم للدولة الفيصليّة. “عصابات” الجنوب ضاعفت العداء. لكنّ المسلمين اللبنانيّين أيضاً امتعضوا من إرسال فيصل لشكري الأيوبي إلى بيروت كي يحكمها باسم والده الشريف حسين. لقد أرادوا واحداً من مدينتهم حاكماً لهم.
وأهمّ من ذلك كانت المنافسات بين الضبّاط السوريّين والعراقيّين على المناصب في دمشق. الحساسيّات التي أثارتها تلك المنافسات لم تكن قليلة، سيّما وأنّ العراقيّين جنحوا إلى مواقف أكثر جذريّة حيال الفرنسيّين، وهو ما اعتبره السوريّون توريطاً لهم. فالأوّلون، بحسب الرواية السوريّة الغالبة، يستطيعون في اللحظة العصيبة أن يفرّوا إلى بلادهم فيما نُترك “وحدنا”.
تتمّة القصّة شهدها شرق الأردن. فالأمير عبد الله، كأخيه فيصل، كان معنيّاً بـ “القضيّة العربيّة” حتّى أنّه حوّل إمارة شرق الأردن نقطة انطلاق لسوريّين ولبنانيّين يريدون مقاومة الانتداب الفرنسيّ. أكثر من هذا: سلّم بعض هؤلاء مناصب ومسؤوليّات عليا. أحدهم، رشيد طليع، تولّى رئاسة الحكومة الأردنيّة. لكنْ مبكراً بدا أنّ التوفيق مستحيل بين استقرار الإمارة المرعيّة بريطانيّاً، في ظلّ تفاهم بريطانيّ – فرنسيّ، والمضيّ في السياسات “القوميّة”. في 1921، ومن خلال كمين أقاموه، تمكّن “القوميّون”، غير الأردنيّين، من خطف الجنرال غورو المفوّض الفرنسيّ الأعلى في سوريّا ولبنان. اضطرّت عمّان إلى إبعاد طليع وباقي “القوميّين” السوريّين واللبنانيّين عن مناصبهم. انتبه عبد الله إلى مسائل كضبط الحدود والالتزامات الدوليّة.
المتعلّمون الجدد في الأردن أكملوا ما بدأه أميرهم مطالبين بأردنة الوظائف والكفّ عن توظيف السوريّين واللبنانيّين. المدهش أنّ بعض المطالبين هؤلاء كانوا قوميّين عرباً أقحاحاً يأخذون على عبد الله ممالأته للإنكليز.
في الصراع على فلسطين، كان واضحاً، للمرّة الثانية، ذاك التنازع بين خطّ الوطنيّة الفلسطينيّة كما مثّله الحاج أمين الحسيني والخطّ العربيّ، لا سيّما السوريّ، الذي أراد فرض وصايته على الفلسطينيّين. عسكريّاً، تجسّد الازدواج في “جيش الإنقاذ”، وعلى رأسه اللبنانيّ فوزي القاوقجي، مقابل مجاهدي عبد القادر الحسيني الذي قضى في معركة القسطل قبل شهر على وقوع النكبة.
لكنْ كما خاف الفلسطينيّون واللبنانيّون سوريّا خاف السوريّون العراق. في 1949، ما إن أعلن قائد الانقلاب الثاني سامي الحنّاوي نيّته إقامة وحدة مع بغداد حتّى أطاحه الانقلاب الثالث الذي نفّذه أديب الشيشكلي. مصر البعيدة نسبيّاً، وذات الزعامة و”الانتصارات” الاستثنائيّة لعبد الناصر، بدت منقذاً للسوريّين المتخبّطين في أزماتهم. لكنْ ما إن قامت وحدة مصريّة – سوريّة في شباط (فبراير) 1958 حتّى تلاها انفصال سوريّ عن “الجمهوريّة العربيّة المتّحدة” في أيلول (سبتمبر) 1961. كان الانفصال استقلالاً سوريّاً ثانياً وضربة قاصمة للاحتمال الوحدويّ والقوميّ العربيّ. ولم يكن قليل المعنى أنّ أكثر من قاتلوا دفاعاً عن الوحدة كانوا فلسطينيّي سوريّا الذين قضى سوء حظّهم بحرمانهم الوطن والدولة.
في هذه الغضون، شقّ المشرقَ نزاعان بالغا الأهميّة والدلالة: خلاف جمال عبد الناصر وحزب البعث العربيّ الاشتراكيّ. الخلاف هذا الذي انفجر في 1959، بعد دور أساسيّ لعبه البعث في الدفع إلى الوحدة السوريّة – المصريّة، أبان عن حساسيّة سوريّة حيال “الهيمنة المصريّة”. في الوقت نفسه حلّ الصدام بين عبد الناصر والزعيم العراقيّ عبد الكريم قاسم. قاسم قلّد انقلاب عبد الناصر المصريّ بانقلابه في العراق في تمّوز (يوليو) 1958، وهو فعل ما فعله عبد الناصر بالنظام الملكيّ، وإن بدمويّة ورعونة أكبر بلا قياس. كذلك عبّر قاسم عن تطلّعات اجتماعيّة وعن “مناهضة للاستعمار” كالتي عبّر عنها عبد الناصر في بلده. مع هذا، أبت الوطنيّة العراقيّة، من خلال زعيمها الجديد، أن تسير في ركاب الزعيم المصريّ.
في 1963، وبفارق شهر، وصل حزب البعث إلى السلطة في العراق وسوريّا. يومها كان الحزب واحداً وبقيادة واحدة. زعم أنّه ينوي بناء وحدة ثلاثيّة مع مصر ثمّ أفشلها بسحقه الناصريّين في البلدين. لكنْ بين سوريّا والعراق نفسهما، جرت محاولة لوضع خطّة مشتركة لاستثمار الفرات ودجلة. كلّ واحد من الطرفين حاول تحقيق استفادة أكبر تأتي على حساب الآخر. لم توضع خطّة. عبد السلام عارف أطاح البعث العراقيّ في أواخر 1963.
عارف، “الناصريّ”، دعا إلى الوحدة مع مصر. لكنّه، هو أيضاً، لم يُقم وحدة فكسب عداء الناصريّين، وتعرّض لمحاولة انقلاب فاشلة نفّذها، في أيلول (سبتمبر) 1965، رئيس وزرائه الناصريّ المتحمّس والمغامر عارف عبد الرزّاق. عبد السلام عارف لجأ إلى شخصيّة تقليديّة أبرد في العروبة وأسخن في الإسلام، هو صاحب “الاشتراكيّة الرشيدة” عبد الرحمن البزّاز.
على جبهة أخرى، لم يعد خافياً أنّ حركة “فتح” كانت منذ نشأتها تنعطف عن القوميّة العربيّة لعبد الناصر والبعث نحو إعادة الاعتبار للوطنيّة الفلسطينيّة. الفلسطينيّون، إذاً، “يحرّرون فلسطين”، لا “العرب” وجيوشهم. الناصريّون اتّهموا “فتح” بالإسلاميّة والارتباط بالسعوديّة. البعثيّون في سوريّا اعتقلوا ياسر عرفات في 1965 ومعه بعض قيادات تنظيمه كخليل الوزير (أبو جهاد)، ثمّ اعتقلوا جورج حبش، مؤسّس “الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين”، التنظيم الفلسطينيّ الثاني. أنشأوا، كذلك، “منظّمة الصاعقة” التي ضمّت بعثيّين فلسطينيّين، فأنشأ منافسوهم البعثيّون في العراق “جبهة التحرير العربيّة”. المطلوب دائماً أن لا يكون قرار فلسطينيّ مستقلّ.
الكراهية التي نشأت لاحقاً بين حافظ الأسد وياسر عرفات صارت من أشهر الكراهيّات السياسيّة في التاريخ. التنافس بين الأسد وصدّام حسين على فلسطين و”تحريرها” صار أيضاً من أشهر ما شهده التاريخ من تنافس. هذا لم يردع الأسد عن قتل أعداد من الفلسطينيّين في لبنان تفوق كثيراً ما قتلته إسرائيل، وعن إخضاعهم على نحو جائر لمصالح السلطة السوريّة. هو أيضاً لم يردع صدّام عن سحب قوّاته في الأردن إبّان مواجهات 1970 الفلسطينيّة – الأردنيّة بحيث تُرك الفلسطينيّون من دون داعم “قوميّ” دعمُه كفيل بتوريط العراق.
تلك الحرب الأهليّة كانت برهاناً ساطعاً على أنّ “قضيّة العرب المركزيّة” لا تعود كذلك حين تصطدم بمصالح دولة معيّنة وباستقرارها، ولو عبّرت عصبيّة بعينها عن تلك المصالح. التمرين الأردنيّ في 1970 اتّخذ أبعاداً أكبر وأخطر في لبنان بعد خمس سنوات. المسيحيّون آنذاك قاتلوا الفلسطينيّين، لكنْ بعد سنوات انقلبت فيها الموازين اللبنانيّة، تولّى الشيعة، في “حرب المخيّمات”، هذه المهمّة.
في هذه الغضون توفّي عبد الناصر في 1970. الوحدة صارت هزلاً قذّافيّاً. لكنّ الوطنيّات، مع هذا، ظلّت خجولة مرتبكة بذاتها. لوحظ في العراق بعد 2003، ثمّ في سوريّا بعد 2011، ما يكاد يرقى إلى مبدأ: ما إن يتداعى نظام استبداديّ وينكشف أنّ البلد المعنيّ يتمتّع بداخل وسياسة ومسائل خاصّة به، حتّى ينعطف اهتمام أبناء البلد “القوميّين” عن القضيّة الفلسطينيّة. لقد نشأت لهم قضيّة اكتشفوها اكتشافاً. تتمّة هذا المبدأ أنّ بيئة القضيّة الفلسطينيّة تتحوّل إلى إحدى أكثر البيئات عداء للتحوّل الجديد.
لا يؤثر كثيراً اختلاف الأنظمة، “رجعيّة” و”تقدّميّة” أو “يمينيّة” و”يساريّة” في هذه السيرورة. قادة اليمن الجنوبيّ “الماركسيّ اللينينيّ” صاروا قادة في “الحراك الجنوبيّ” الذي يسعى للانفصال عن اليمن الشماليّ. الأكراد الشيوعيّون صاروا أكراداً قوميّين. في المقابل، فإنّ رفيق الحريري، الملياردير اليمينيّ، رمز إلى حركة تحرّر لبنانيّ من الوصاية السوريّة.
أما التشقّق داخل الوطنيّات نفسها فقصّة أخرى. لكنّ التخلّص من الخجل بالوطنيّة قد يكون مفيداً في الحدّ من هذا التشقّق ومن الهيمنات الفئويّة داخل تلك الوطنيّات، وكذلك من الاحتقان الذي يدفع بها أحياناً إلى الشوفينيّة وربّما إلى العنصريّة.[video_player link=””][/video_player]

10.02.2018
زمن القراءة: 7 minutes

حديثة هي الوطنيّة خارج أوروبا. أمّا عندنا تحديداً، في المشرق العربيّ، فربّما كانت أشدّ تعاسة ممّا في أجزاء أخرى من “العالم الثالث”. تعاستها هذه بدأت مع بداياتها: فالرواية التي شاعت عن أنّ شعوب المنطقة كرهت السلطنة العثمانيّة وطلبت الاستقلال عنها أقرب إلى الاستعجال والتعميم منها إلى الدقّة. حتّى الضبّاط الذين انشقّوا عن الجيش العثمانيّ ليقاتلوا في جيش الهاشميّين و”لورانس العرب” أقلّ كثيراً ممّا صُوّروا، كما أنّ بعضهم وقعوا أسرى حرب فضُمّوا إلى “الجيش العربيّ”.

حديثة هي الوطنيّة خارج أوروبا. أمّا عندنا تحديداً، في المشرق العربيّ، فربّما كانت أشدّ تعاسة ممّا في أجزاء أخرى من “العالم الثالث”. تعاستها هذه بدأت مع بداياتها: فالرواية التي شاعت عن أنّ شعوب المنطقة كرهت السلطنة العثمانيّة وطلبت الاستقلال عنها أقرب إلى الاستعجال والتعميم منها إلى الدقّة. حتّى الضبّاط الذين انشقّوا عن الجيش العثمانيّ ليقاتلوا في جيش الهاشميّين و”لورانس العرب” أقلّ كثيراً ممّا صُوّروا، كما أنّ بعضهم وقعوا أسرى حرب فضُمّوا إلى “الجيش العربيّ”.
قصارى القول إنّ نشأة الأوطان لدينا، في المشرق، لم تكن حدثاً مثيراً للمخيّلة. لقد بدت أمراً واقعاً، وإلى حدّ بعيد، كئيباً ومرفوضاً. الهجاء المتواصل لسايكس – بيكو ينمّ عن شيء من هذا. الجنازة، منذ اليوم الأوّل، غلبت العرس.
ما دعانا الواقعُ المؤلم إلى دفنه لم يكن السلطنة العثمانيّة وحدها، بل أيضاً فكرة “الوحدة” التي تجعلنا “سلطنة” عربيّة. بنرجسيّة جريحة تساءلنا مُحتجّين: لقد ضحّينا بالعثمانيّة، فهل نضحّي بالسلطنة أيضاً؟
سوريّا، على نحو خاصّ، رفضت أن ترسو على مصير كهذا. في وعيها الجمعيّ أنّ “الوحدة” تكبير لذاتها، أو أنّها “استعادة” لأجزاء “بُترت” عنها في لبنان وفلسطين وشرق الأردن.
لكنّ الوقائع كانت تشتغل على نحو مختلف. فهناك عصبيّات ومصالح وأنظمة تعليم وطرق مواصلات نشأت مع الدول والهويّات الجديدة وباتت تدافع عنها. وعلى عكس أوروبا حيث تناغمت سيرورتا التشكّل القوميّ ونشأة الدولة، تأسّست الدول عندنا ثمّ جاء القوميّون يطالبونها بأن تحلّ نفسها لمصلحة كيان “قوميّ” أكبر. تقليدنا لأوروبا لم يكن خلاّقاً.
النتيجة، وكما نعرف جميعاً، جاءت سلبيّة جدّاً. بيد أنّ هذا لا يلغي أنّ الوطنيّات العربيّة احتفظت بالخجل في التعبير عن نفسها، وهو خجل لازم طويلاً الفكر السياسيّ السوريّ الذي اختبأ مرّةً وراء “القطر” (بوصفه جزءاً ومرحلة عابرة نحو بلوغ الكلّ القوميّ)، ومرّة وراء “العربيّة” التي تمارس الرقابة على “السوريّة” والحدّ منها، وربّما التكفير عنها. لقد عاشت سوريّا أسيرة ذنبٍ يؤرّقها هي أنّها صارت وطناً ودولة.
هذا لا يعني أنّ الوطنيّات العربيّة، بما فيها السوريّة، لم تدافع عن نفسها، ولم تحاول أن تعرّف ذاتها ولو بصيغة سلبيّة تميّزها عن “آخر” ما. لكنّها فعلت ذلك بارتباك وحرج. وقد يكون التعبير الأكبر عن الواقع الجديد هو ما عرفته المدّة القصيرة لـ “الحكم العربيّ” في دمشق. فالسوريّون وجدوا أنفسهم في مواجهة فرنسا، متحالفين مع الإنكليز، لا بل، وبحسب نجدة فتحي صفوت، عرض حاييم وايزمن على فيصل الأوّل “تقديم أموال وخبراء للحكومة العربيّة في سوريّا، كما عرض أن يقوم بإقناع الحكومة الفرنسيّة بالتخلّي عن ادّعاءاتها في المنطقة الداخليّة من سوريّا، مقابل ضمان مساعدة الأمير على تحقيق البرامج الصهيونيّة”. كان طبيعيّاً، والحال هذه، أن يتعاظم نفور الفلسطينيّين، في صراعهم مع الانتداب البريطانيّ والحركة الصهيونيّة، ممّا يحاول فيصل توطيده في دمشق.
مَن ظلّوا من الفلسطينيّين أقرب إلى فيصل والدعوة الوحدويّة هم الذين أسّسوا لاحقاً “حزب الاستقلال” الفلسطينيّ، وهم مثقّفون قوميّون عرب ضعيفو التمثيل الشعبيّ في فلسطين، بعضهم لبنانيّون كعجاج نويهض، وبعضهم سوريّون كخير الدين الزركلي وأحمد مريود ورشيد طليع.
مذّاك نشأ تنافر بين السوريّة والفلسطينيّة بلغ أوجه، بعد عقود، في صراع حافظ الأسد وياسر عرفات حول “القرار الوطنيّ المستقلّ”: السوريّة تنوي مصادرة الفلسطينيّة وطيّها تحت جناحها، الفلسطينيّة تخاف الشهيّة السوريّة للابتلاع.
فلسطين، في القاموس السوريّ، هي “جنوب فلسطين”.
في لبنان، لم يُخف المسيحيّون، الرافعون يومذاك للفكرة والوطنيّة اللبنانيّتين، عداءهم للدولة الفيصليّة. “عصابات” الجنوب ضاعفت العداء. لكنّ المسلمين اللبنانيّين أيضاً امتعضوا من إرسال فيصل لشكري الأيوبي إلى بيروت كي يحكمها باسم والده الشريف حسين. لقد أرادوا واحداً من مدينتهم حاكماً لهم.
وأهمّ من ذلك كانت المنافسات بين الضبّاط السوريّين والعراقيّين على المناصب في دمشق. الحساسيّات التي أثارتها تلك المنافسات لم تكن قليلة، سيّما وأنّ العراقيّين جنحوا إلى مواقف أكثر جذريّة حيال الفرنسيّين، وهو ما اعتبره السوريّون توريطاً لهم. فالأوّلون، بحسب الرواية السوريّة الغالبة، يستطيعون في اللحظة العصيبة أن يفرّوا إلى بلادهم فيما نُترك “وحدنا”.
تتمّة القصّة شهدها شرق الأردن. فالأمير عبد الله، كأخيه فيصل، كان معنيّاً بـ “القضيّة العربيّة” حتّى أنّه حوّل إمارة شرق الأردن نقطة انطلاق لسوريّين ولبنانيّين يريدون مقاومة الانتداب الفرنسيّ. أكثر من هذا: سلّم بعض هؤلاء مناصب ومسؤوليّات عليا. أحدهم، رشيد طليع، تولّى رئاسة الحكومة الأردنيّة. لكنْ مبكراً بدا أنّ التوفيق مستحيل بين استقرار الإمارة المرعيّة بريطانيّاً، في ظلّ تفاهم بريطانيّ – فرنسيّ، والمضيّ في السياسات “القوميّة”. في 1921، ومن خلال كمين أقاموه، تمكّن “القوميّون”، غير الأردنيّين، من خطف الجنرال غورو المفوّض الفرنسيّ الأعلى في سوريّا ولبنان. اضطرّت عمّان إلى إبعاد طليع وباقي “القوميّين” السوريّين واللبنانيّين عن مناصبهم. انتبه عبد الله إلى مسائل كضبط الحدود والالتزامات الدوليّة.
المتعلّمون الجدد في الأردن أكملوا ما بدأه أميرهم مطالبين بأردنة الوظائف والكفّ عن توظيف السوريّين واللبنانيّين. المدهش أنّ بعض المطالبين هؤلاء كانوا قوميّين عرباً أقحاحاً يأخذون على عبد الله ممالأته للإنكليز.
في الصراع على فلسطين، كان واضحاً، للمرّة الثانية، ذاك التنازع بين خطّ الوطنيّة الفلسطينيّة كما مثّله الحاج أمين الحسيني والخطّ العربيّ، لا سيّما السوريّ، الذي أراد فرض وصايته على الفلسطينيّين. عسكريّاً، تجسّد الازدواج في “جيش الإنقاذ”، وعلى رأسه اللبنانيّ فوزي القاوقجي، مقابل مجاهدي عبد القادر الحسيني الذي قضى في معركة القسطل قبل شهر على وقوع النكبة.
لكنْ كما خاف الفلسطينيّون واللبنانيّون سوريّا خاف السوريّون العراق. في 1949، ما إن أعلن قائد الانقلاب الثاني سامي الحنّاوي نيّته إقامة وحدة مع بغداد حتّى أطاحه الانقلاب الثالث الذي نفّذه أديب الشيشكلي. مصر البعيدة نسبيّاً، وذات الزعامة و”الانتصارات” الاستثنائيّة لعبد الناصر، بدت منقذاً للسوريّين المتخبّطين في أزماتهم. لكنْ ما إن قامت وحدة مصريّة – سوريّة في شباط (فبراير) 1958 حتّى تلاها انفصال سوريّ عن “الجمهوريّة العربيّة المتّحدة” في أيلول (سبتمبر) 1961. كان الانفصال استقلالاً سوريّاً ثانياً وضربة قاصمة للاحتمال الوحدويّ والقوميّ العربيّ. ولم يكن قليل المعنى أنّ أكثر من قاتلوا دفاعاً عن الوحدة كانوا فلسطينيّي سوريّا الذين قضى سوء حظّهم بحرمانهم الوطن والدولة.
في هذه الغضون، شقّ المشرقَ نزاعان بالغا الأهميّة والدلالة: خلاف جمال عبد الناصر وحزب البعث العربيّ الاشتراكيّ. الخلاف هذا الذي انفجر في 1959، بعد دور أساسيّ لعبه البعث في الدفع إلى الوحدة السوريّة – المصريّة، أبان عن حساسيّة سوريّة حيال “الهيمنة المصريّة”. في الوقت نفسه حلّ الصدام بين عبد الناصر والزعيم العراقيّ عبد الكريم قاسم. قاسم قلّد انقلاب عبد الناصر المصريّ بانقلابه في العراق في تمّوز (يوليو) 1958، وهو فعل ما فعله عبد الناصر بالنظام الملكيّ، وإن بدمويّة ورعونة أكبر بلا قياس. كذلك عبّر قاسم عن تطلّعات اجتماعيّة وعن “مناهضة للاستعمار” كالتي عبّر عنها عبد الناصر في بلده. مع هذا، أبت الوطنيّة العراقيّة، من خلال زعيمها الجديد، أن تسير في ركاب الزعيم المصريّ.
في 1963، وبفارق شهر، وصل حزب البعث إلى السلطة في العراق وسوريّا. يومها كان الحزب واحداً وبقيادة واحدة. زعم أنّه ينوي بناء وحدة ثلاثيّة مع مصر ثمّ أفشلها بسحقه الناصريّين في البلدين. لكنْ بين سوريّا والعراق نفسهما، جرت محاولة لوضع خطّة مشتركة لاستثمار الفرات ودجلة. كلّ واحد من الطرفين حاول تحقيق استفادة أكبر تأتي على حساب الآخر. لم توضع خطّة. عبد السلام عارف أطاح البعث العراقيّ في أواخر 1963.
عارف، “الناصريّ”، دعا إلى الوحدة مع مصر. لكنّه، هو أيضاً، لم يُقم وحدة فكسب عداء الناصريّين، وتعرّض لمحاولة انقلاب فاشلة نفّذها، في أيلول (سبتمبر) 1965، رئيس وزرائه الناصريّ المتحمّس والمغامر عارف عبد الرزّاق. عبد السلام عارف لجأ إلى شخصيّة تقليديّة أبرد في العروبة وأسخن في الإسلام، هو صاحب “الاشتراكيّة الرشيدة” عبد الرحمن البزّاز.
على جبهة أخرى، لم يعد خافياً أنّ حركة “فتح” كانت منذ نشأتها تنعطف عن القوميّة العربيّة لعبد الناصر والبعث نحو إعادة الاعتبار للوطنيّة الفلسطينيّة. الفلسطينيّون، إذاً، “يحرّرون فلسطين”، لا “العرب” وجيوشهم. الناصريّون اتّهموا “فتح” بالإسلاميّة والارتباط بالسعوديّة. البعثيّون في سوريّا اعتقلوا ياسر عرفات في 1965 ومعه بعض قيادات تنظيمه كخليل الوزير (أبو جهاد)، ثمّ اعتقلوا جورج حبش، مؤسّس “الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين”، التنظيم الفلسطينيّ الثاني. أنشأوا، كذلك، “منظّمة الصاعقة” التي ضمّت بعثيّين فلسطينيّين، فأنشأ منافسوهم البعثيّون في العراق “جبهة التحرير العربيّة”. المطلوب دائماً أن لا يكون قرار فلسطينيّ مستقلّ.
الكراهية التي نشأت لاحقاً بين حافظ الأسد وياسر عرفات صارت من أشهر الكراهيّات السياسيّة في التاريخ. التنافس بين الأسد وصدّام حسين على فلسطين و”تحريرها” صار أيضاً من أشهر ما شهده التاريخ من تنافس. هذا لم يردع الأسد عن قتل أعداد من الفلسطينيّين في لبنان تفوق كثيراً ما قتلته إسرائيل، وعن إخضاعهم على نحو جائر لمصالح السلطة السوريّة. هو أيضاً لم يردع صدّام عن سحب قوّاته في الأردن إبّان مواجهات 1970 الفلسطينيّة – الأردنيّة بحيث تُرك الفلسطينيّون من دون داعم “قوميّ” دعمُه كفيل بتوريط العراق.
تلك الحرب الأهليّة كانت برهاناً ساطعاً على أنّ “قضيّة العرب المركزيّة” لا تعود كذلك حين تصطدم بمصالح دولة معيّنة وباستقرارها، ولو عبّرت عصبيّة بعينها عن تلك المصالح. التمرين الأردنيّ في 1970 اتّخذ أبعاداً أكبر وأخطر في لبنان بعد خمس سنوات. المسيحيّون آنذاك قاتلوا الفلسطينيّين، لكنْ بعد سنوات انقلبت فيها الموازين اللبنانيّة، تولّى الشيعة، في “حرب المخيّمات”، هذه المهمّة.
في هذه الغضون توفّي عبد الناصر في 1970. الوحدة صارت هزلاً قذّافيّاً. لكنّ الوطنيّات، مع هذا، ظلّت خجولة مرتبكة بذاتها. لوحظ في العراق بعد 2003، ثمّ في سوريّا بعد 2011، ما يكاد يرقى إلى مبدأ: ما إن يتداعى نظام استبداديّ وينكشف أنّ البلد المعنيّ يتمتّع بداخل وسياسة ومسائل خاصّة به، حتّى ينعطف اهتمام أبناء البلد “القوميّين” عن القضيّة الفلسطينيّة. لقد نشأت لهم قضيّة اكتشفوها اكتشافاً. تتمّة هذا المبدأ أنّ بيئة القضيّة الفلسطينيّة تتحوّل إلى إحدى أكثر البيئات عداء للتحوّل الجديد.
لا يؤثر كثيراً اختلاف الأنظمة، “رجعيّة” و”تقدّميّة” أو “يمينيّة” و”يساريّة” في هذه السيرورة. قادة اليمن الجنوبيّ “الماركسيّ اللينينيّ” صاروا قادة في “الحراك الجنوبيّ” الذي يسعى للانفصال عن اليمن الشماليّ. الأكراد الشيوعيّون صاروا أكراداً قوميّين. في المقابل، فإنّ رفيق الحريري، الملياردير اليمينيّ، رمز إلى حركة تحرّر لبنانيّ من الوصاية السوريّة.
أما التشقّق داخل الوطنيّات نفسها فقصّة أخرى. لكنّ التخلّص من الخجل بالوطنيّة قد يكون مفيداً في الحدّ من هذا التشقّق ومن الهيمنات الفئويّة داخل تلك الوطنيّات، وكذلك من الاحتقان الذي يدفع بها أحياناً إلى الشوفينيّة وربّما إلى العنصريّة.[video_player link=””][/video_player]