fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

النظام الرعائي المؤسّساتي: الإصلاح يبدأ أولاً من هناك

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سياسة خصخصة الرعاية الاجتماعية التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة كوسيلة للتوظيف السياسي والطائفي، أدت إلى أن يكون لكلّ طائفة دار الرعاية الخاصّة بها، ولكلّ زعيم “دكانة” اجتماعية تأكل من موازنة الدولة، وهي بذلك تعمّق حلقة الفقر المفرغة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أُنجز هذا التقرير بدعم من برنامج “قريب” الذي تنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الإعلامية CFI وتموله الوكالة الفرنسية للتنمية AFD.

أعادنا المشهد “التربوي” الذي ظهرت فيه نائبة المدير العام لـ”دار الأيتام الإسلامية”، وهي تنهال بالركل والضرب على شابّة من شابّات المؤسّسات داخل صرح الدار، إلى ماضي المؤسّسات الرعائية في لبنان، وكمّ الانتهاكات التي ارتُكبت تحت شعار عمل الخير، بحقّ أطفال وطفلات هم ضحايا حرب مستمرّة. 

بينما نُحيي الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب في لبنان، لا يزال عدد كبير من الأطفال والطفلات ضحايا لنظام رعائي مؤسّساتي أثبت فشله عالمياً، لكنّنا في لبنان نصرّ على اعتباره عملاً خيرياً، تُنفق عليه وزارة الشؤون الاجتماعية ما يُقارب 80% من موازنتها، ناهيك بملايين الدولارات التي تُجمع لهذه المؤسّسات عبر التليفونات وما شابه. هي كلّها حملات إعلانية بالدرجة الأولى، وتُوظّف سياسياً في كثير من الأحيان. 

إنها سياسة خصخصة الرعاية الاجتماعية التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة كوسيلة للتوظيف السياسي والطائفي، وهكذا أصبح لكلّ طائفة دار الرعاية الخاصّة بها، ولكلّ زعيم دكانة اجتماعية تأكل من موازنة الدولة، وهي بذلك تعمّق حلقة الفقر المفرغة. فلقد أثبتت الدراسات العالمية أن الأشخاص الذين اختبروا المؤسّسات الرعائية، في أحسن صورها، هم أكثر عُرضة للانتهاكات النفسية والجسدية، يدخلون في منازعات مع القانون، أكثر عُرضة للإدمان، فرصهم في العمل اللائق ضئيلة نتيجة عدم وصولهم إلى الخدمات التعليمية الملائمة، وبالتالي هم أقلّ قدرة على الخروج من دائرة الفقر التي كانت أصلاً هي السبب الرئيسي في دخولهم إلى الرعاية المؤسّساتية، وبالتالي فهم أكثر عُرضة لإيداع أطفالهم في المؤسّسات الرعائية!

بالرغم من ندرة الإحصائيات الخاصّة بعدد الأطفال والطفلات في المؤسّسات الرعائية، يُشير تقرير صادر عن “اليونيسف” في عام 2014، إلى وجود ما بين 30,000 و40,000 طفل وطفلة في مؤسّسات رعائية لأسباب اجتماعية واقتصادية، وذلك في ظلّ غياب إطار وطني للرعاية الأسرية والمجتمعية. جاء هذا التقرير ليؤكّد نتائج دراسة غير منشورة (لأسباب سياسية) قامت بها مؤسّسة “البحوث والاستشارات” في عام 2006، بطلب من وزارة الشؤون الاجتماعية وبالتعاون مع “اليونيسف” تُبيّن أنّ ما يقارب 90% من الأطفال “المودَعين” في المؤسّسات الرعائية ليسوا أيتاماً بل فقراء فقط، “يتّمهم” الفقر، وأن 21 ألف طفل تقريباً من أصل 23 ألفاً ممن يُقيمون في دور الأيتام لديهم أسر، لكنّها تفتقد إلى الموارد المعيشية لتُبقي أطفالها في كنفها. 

في مقابلة في عام 2023 أجرتها “المفكرة القانونية” مع السيدة سلوى الزعتري؛ صاحبة الموقف التربوي المشار إليه أعلاه،  بصفتها رئيسة “المجلس الوطني للمؤسّسات الاجتماعية” في حينها، أشارت إلى أن في لبنان قرابة 400 مؤسّسة تعمل في مجال الرعاية، وهي مؤسّسات يتركّز عملها في مجالات مثل “رعاية المسنّين، والأطفال، والأشخاص ذوي الإعاقة، والتدريب المهني والتقني، ومعالجة الإدمان”، بحسب ما أفادت الزعتري، ويُضاف إلى هذا العدد من المؤسّسات الرعائية، دور أيتام غير متعاقدة مع وزارة الشؤون الاجتماعية، وهي أيضاً تستقبل أطفالاً دون الحدّ الأدنى من أي مراقبة أو إشراف.

أما عن خطط إصلاح القطاع الرعائي في لبنان، فهي أيضاً تدور في حلقة مفرغة بعد استقدام خبراء دوليين، وعقد ورش عمل استراتيجية، ووضع خطّة إصلاح تنتهي في عام 2026. هي محاولات أنفقت عليها المؤسّسات الأممية ملايين الدولارات، وكانت النتيجة اقتراح نمط رعاية أسرية وتعزيز قدرات العائلات في خطر. هي بدائل كنا عملنا على تطبيقها ما بين العامين 2005 و2007، حينها كنت مديرة مؤسّسة رعائية، معظم الأطفال والطفلات دخلوها بسبب الفقر أولاً. نفّذنا حينها برنامجاً لإعادة تقييم أوضاع عائلات الأطفال والطفلات في المؤسّسة، ووضع خطط فردية لكلّ عائلة بهدف لمّ الشمل، وبالتالي إعادة الأطفال والطفلات إلى كنف العائلات بالتدريج ومع متابعة من قِبل العاملات الاجتماعية، جاءت نتيجة هذا العمل مذهلة على 3 مستويات:

تبيّن لنا أن تكلفة الطفل أو الطفلة في كنف العائلة هي أقلّ بكثير من تلك التي في المؤسّسة الرعائية.

جرى تقليص عدد الأطفال والطفلات في المؤسّسة عبر إعادة لمّ الشمل في كنف العائلة.

تمكّنا من التشدّد في عملية قبول الأطفال والطفلات، وبالتالي ضمان أن يكون الدخول إلى المؤسّسة هو الملاذ الأخير المتبقّي بعد انتفاء أي حلول أخرى ممكنة.

إلا أن هذه الخطّة اصطدمت أولاً بالمزاج المؤسّساتي الداخلي، الذي رأى أن ما أقوم به هو تهديد لمصلحة المؤسّسة؛ وإن جاءت مصلحة الأخيرة على حساب بقاء الأطفال والطفلات في كنف العائلة، كما قامت قائمة المؤسّسات المثيلة، وشنّت حملة تحريض ضدّ هذه المقاربة لأنها رأت فيها تهديداً لمصالحها. 

أما خطّة الوزارة الاستراتيجية، فما زالت تدور في حلقة مفرغة بعد اصطدامها بتعنّت المؤسّسات الرعائية، التي هي الوجه المبطّن لمصالح سياسية وطائفية يتمّ تجييشها عند اللزوم، وهكذا يقوم بعض المؤسّسات الإعلامية بتوظيف حملات تبرّع مليونية لصالح المؤسّسات الرعائية الدينية. فماذا لو وُظّفت هذه الملايين في دعم الأطفال والطفلات في أسرهم؟

لكن هذا الإجراء لا يصبّ، تكتيكياً، في مصلحة العقل الانتهازي الذي اعتمد الزبائنية والخدمات الطائفية معبراً للنفوذ عبر أسر الصوت الانتخابي بهذه “المكرمات”، التي يتبجّح بها السياسي عند كلّ مفترق طريق.

هو المنطق نفسه الذي يحول دون محاسبة التربوية على تصرّفها غير اللائق وغير الإنساني، عندما أقدمت على ضرب شابّة في حرم دار الأيتام، وبغضّ النظر عن أي مسبّبات أو ظروف، كيف لها أن تركل شابّة بهذا الشكل وفي وضح النهار؟ 

هو نفسه هذا المنطق الذي حال دون محاسبة المسؤولين عن قضايا الاغتصاب في المؤسّسات الرعائية، وهو المنطق نفسه الذي أنتج مقالاً تحت عنوان “برحمة أمّي لم أرتكب جريمة”، المنشور في جريدة “نداء الوطن” بالتزامن مع الجمعة العظيمة. فمنصور لبكي، الصادر بحقّه حرم كنسي بعد مسار محاكمة طويلة أكّدت اغتصابه عدداً كبيراً من الذين واللواتي كانوا وكن تحت رعاية مؤسّساته، ربما لا يعتبر ما أقدم عليه من اغتصاب وتحرّش وترهيب جريمة، بل ربما هو درب التجريب والعذابات التي منح نعمتها لأطفال وطفلات كانوا في عهدته، نسي لبكي أنه ليس إلهاً، وأن الأطفال والطفلات ليسوا قرابينه، ونسيت كاتبة المقال أنه ربما لو كان لبكي بكامل قوّته لانتهشها هي أيضاً… كيف لك أن تنظري بعينيْ المغتصب؟ وكيف لك أن تقترفي هذا المقال؟

بينما يتأمّل لبنان مرور نصف قرن على بداية حربه، لا يزال نظام الرعاية المؤسّساتية يُعيد إنتاج منظومة العنف نفسها، وإن كان ذلك تحت عباءة “العمل الخيري”، وأي مشروع إصلاحي حقيقي لا يمكن أن يبدأ إلا من:

– تفكيك هذا النظام الذي شرعن انتهاك حقوق الطفلات والأطفال والشابّات والشبّان تحت ذريعة الحماية والرعاية.

– إعادة توجيه الموارد المالية والبشرية نحو بدائل قائمة على الرعاية الأسرية والمجتمعية، تحفظ الكرامة وتصون الحقّ في بيئة آمنة، داعمة وخالية من العنف.

المعركة اليوم ليست فقط من أجل محاسبة من انتهكت جسد شابة وكرامتها في العلن، بل من أجل تفكيك منظومة متكاملة تحمي المعتدين والمعتديات، وتُحوّل الفقر إلى مشروع تمويل دائم، إنها معركة ضدّ ثقافة الزبائنية التي تُوزّع “الرعاية” وفق الانتماء الطائفي، وتُؤسّس لنظام رعائي يُقونن التمييز، ويكرّس التبعية، ويمنع إمكانيات الاستقلال والتمكين.

لن تُجدي الخطط الاستراتيجية نفعاً إن لم تُبنَ على إرادة سياسية تُنهي التواطؤ التاريخي بين الدولة والمؤسّسات الرعائية، وتُعيد الاعتبار للعدالة الاجتماعية والحق في الرعاية المجتمعية العادلة، لن تُجدي ورش العمل والتقارير واستدعاء الخبرات الدولية، إن لم تقم على الاستماع الجادّ لتجارب الأشخاص الذين/اللواتي عايشوا/ن هذه المنظومة، والذين/اللواتي لا يزالون/ن يدفعون/ن أثمانها الصحّية والنفسية والاجتماعية حتى اليوم.

رنا الصبّاغ- كاتبة وصحافية أردنية | 23.05.2025

الرقص على أوجاع الغزّيين !…عندما تعطّل واشنطن وتل أبيب ديناميات الأمم المتّحدة 

أثناء كتابة هذا المقال، بدأت كوادر في الشركات الجديدة ومتعهّدون أمنيون ومرتزقة، بالوصول مع معدّاتهم إلى إسرائيل، استعداداً لدخول غزّة، وتطبيق الخطّة الإشكالية البديلة عن المسار الأممي.

سياسة خصخصة الرعاية الاجتماعية التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة كوسيلة للتوظيف السياسي والطائفي، أدت إلى أن يكون لكلّ طائفة دار الرعاية الخاصّة بها، ولكلّ زعيم “دكانة” اجتماعية تأكل من موازنة الدولة، وهي بذلك تعمّق حلقة الفقر المفرغة.

أُنجز هذا التقرير بدعم من برنامج “قريب” الذي تنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الإعلامية CFI وتموله الوكالة الفرنسية للتنمية AFD.

أعادنا المشهد “التربوي” الذي ظهرت فيه نائبة المدير العام لـ”دار الأيتام الإسلامية”، وهي تنهال بالركل والضرب على شابّة من شابّات المؤسّسات داخل صرح الدار، إلى ماضي المؤسّسات الرعائية في لبنان، وكمّ الانتهاكات التي ارتُكبت تحت شعار عمل الخير، بحقّ أطفال وطفلات هم ضحايا حرب مستمرّة. 

بينما نُحيي الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب في لبنان، لا يزال عدد كبير من الأطفال والطفلات ضحايا لنظام رعائي مؤسّساتي أثبت فشله عالمياً، لكنّنا في لبنان نصرّ على اعتباره عملاً خيرياً، تُنفق عليه وزارة الشؤون الاجتماعية ما يُقارب 80% من موازنتها، ناهيك بملايين الدولارات التي تُجمع لهذه المؤسّسات عبر التليفونات وما شابه. هي كلّها حملات إعلانية بالدرجة الأولى، وتُوظّف سياسياً في كثير من الأحيان. 

إنها سياسة خصخصة الرعاية الاجتماعية التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة كوسيلة للتوظيف السياسي والطائفي، وهكذا أصبح لكلّ طائفة دار الرعاية الخاصّة بها، ولكلّ زعيم دكانة اجتماعية تأكل من موازنة الدولة، وهي بذلك تعمّق حلقة الفقر المفرغة. فلقد أثبتت الدراسات العالمية أن الأشخاص الذين اختبروا المؤسّسات الرعائية، في أحسن صورها، هم أكثر عُرضة للانتهاكات النفسية والجسدية، يدخلون في منازعات مع القانون، أكثر عُرضة للإدمان، فرصهم في العمل اللائق ضئيلة نتيجة عدم وصولهم إلى الخدمات التعليمية الملائمة، وبالتالي هم أقلّ قدرة على الخروج من دائرة الفقر التي كانت أصلاً هي السبب الرئيسي في دخولهم إلى الرعاية المؤسّساتية، وبالتالي فهم أكثر عُرضة لإيداع أطفالهم في المؤسّسات الرعائية!

بالرغم من ندرة الإحصائيات الخاصّة بعدد الأطفال والطفلات في المؤسّسات الرعائية، يُشير تقرير صادر عن “اليونيسف” في عام 2014، إلى وجود ما بين 30,000 و40,000 طفل وطفلة في مؤسّسات رعائية لأسباب اجتماعية واقتصادية، وذلك في ظلّ غياب إطار وطني للرعاية الأسرية والمجتمعية. جاء هذا التقرير ليؤكّد نتائج دراسة غير منشورة (لأسباب سياسية) قامت بها مؤسّسة “البحوث والاستشارات” في عام 2006، بطلب من وزارة الشؤون الاجتماعية وبالتعاون مع “اليونيسف” تُبيّن أنّ ما يقارب 90% من الأطفال “المودَعين” في المؤسّسات الرعائية ليسوا أيتاماً بل فقراء فقط، “يتّمهم” الفقر، وأن 21 ألف طفل تقريباً من أصل 23 ألفاً ممن يُقيمون في دور الأيتام لديهم أسر، لكنّها تفتقد إلى الموارد المعيشية لتُبقي أطفالها في كنفها. 

في مقابلة في عام 2023 أجرتها “المفكرة القانونية” مع السيدة سلوى الزعتري؛ صاحبة الموقف التربوي المشار إليه أعلاه،  بصفتها رئيسة “المجلس الوطني للمؤسّسات الاجتماعية” في حينها، أشارت إلى أن في لبنان قرابة 400 مؤسّسة تعمل في مجال الرعاية، وهي مؤسّسات يتركّز عملها في مجالات مثل “رعاية المسنّين، والأطفال، والأشخاص ذوي الإعاقة، والتدريب المهني والتقني، ومعالجة الإدمان”، بحسب ما أفادت الزعتري، ويُضاف إلى هذا العدد من المؤسّسات الرعائية، دور أيتام غير متعاقدة مع وزارة الشؤون الاجتماعية، وهي أيضاً تستقبل أطفالاً دون الحدّ الأدنى من أي مراقبة أو إشراف.

أما عن خطط إصلاح القطاع الرعائي في لبنان، فهي أيضاً تدور في حلقة مفرغة بعد استقدام خبراء دوليين، وعقد ورش عمل استراتيجية، ووضع خطّة إصلاح تنتهي في عام 2026. هي محاولات أنفقت عليها المؤسّسات الأممية ملايين الدولارات، وكانت النتيجة اقتراح نمط رعاية أسرية وتعزيز قدرات العائلات في خطر. هي بدائل كنا عملنا على تطبيقها ما بين العامين 2005 و2007، حينها كنت مديرة مؤسّسة رعائية، معظم الأطفال والطفلات دخلوها بسبب الفقر أولاً. نفّذنا حينها برنامجاً لإعادة تقييم أوضاع عائلات الأطفال والطفلات في المؤسّسة، ووضع خطط فردية لكلّ عائلة بهدف لمّ الشمل، وبالتالي إعادة الأطفال والطفلات إلى كنف العائلات بالتدريج ومع متابعة من قِبل العاملات الاجتماعية، جاءت نتيجة هذا العمل مذهلة على 3 مستويات:

تبيّن لنا أن تكلفة الطفل أو الطفلة في كنف العائلة هي أقلّ بكثير من تلك التي في المؤسّسة الرعائية.

جرى تقليص عدد الأطفال والطفلات في المؤسّسة عبر إعادة لمّ الشمل في كنف العائلة.

تمكّنا من التشدّد في عملية قبول الأطفال والطفلات، وبالتالي ضمان أن يكون الدخول إلى المؤسّسة هو الملاذ الأخير المتبقّي بعد انتفاء أي حلول أخرى ممكنة.

إلا أن هذه الخطّة اصطدمت أولاً بالمزاج المؤسّساتي الداخلي، الذي رأى أن ما أقوم به هو تهديد لمصلحة المؤسّسة؛ وإن جاءت مصلحة الأخيرة على حساب بقاء الأطفال والطفلات في كنف العائلة، كما قامت قائمة المؤسّسات المثيلة، وشنّت حملة تحريض ضدّ هذه المقاربة لأنها رأت فيها تهديداً لمصالحها. 

أما خطّة الوزارة الاستراتيجية، فما زالت تدور في حلقة مفرغة بعد اصطدامها بتعنّت المؤسّسات الرعائية، التي هي الوجه المبطّن لمصالح سياسية وطائفية يتمّ تجييشها عند اللزوم، وهكذا يقوم بعض المؤسّسات الإعلامية بتوظيف حملات تبرّع مليونية لصالح المؤسّسات الرعائية الدينية. فماذا لو وُظّفت هذه الملايين في دعم الأطفال والطفلات في أسرهم؟

لكن هذا الإجراء لا يصبّ، تكتيكياً، في مصلحة العقل الانتهازي الذي اعتمد الزبائنية والخدمات الطائفية معبراً للنفوذ عبر أسر الصوت الانتخابي بهذه “المكرمات”، التي يتبجّح بها السياسي عند كلّ مفترق طريق.

هو المنطق نفسه الذي يحول دون محاسبة التربوية على تصرّفها غير اللائق وغير الإنساني، عندما أقدمت على ضرب شابّة في حرم دار الأيتام، وبغضّ النظر عن أي مسبّبات أو ظروف، كيف لها أن تركل شابّة بهذا الشكل وفي وضح النهار؟ 

هو نفسه هذا المنطق الذي حال دون محاسبة المسؤولين عن قضايا الاغتصاب في المؤسّسات الرعائية، وهو المنطق نفسه الذي أنتج مقالاً تحت عنوان “برحمة أمّي لم أرتكب جريمة”، المنشور في جريدة “نداء الوطن” بالتزامن مع الجمعة العظيمة. فمنصور لبكي، الصادر بحقّه حرم كنسي بعد مسار محاكمة طويلة أكّدت اغتصابه عدداً كبيراً من الذين واللواتي كانوا وكن تحت رعاية مؤسّساته، ربما لا يعتبر ما أقدم عليه من اغتصاب وتحرّش وترهيب جريمة، بل ربما هو درب التجريب والعذابات التي منح نعمتها لأطفال وطفلات كانوا في عهدته، نسي لبكي أنه ليس إلهاً، وأن الأطفال والطفلات ليسوا قرابينه، ونسيت كاتبة المقال أنه ربما لو كان لبكي بكامل قوّته لانتهشها هي أيضاً… كيف لك أن تنظري بعينيْ المغتصب؟ وكيف لك أن تقترفي هذا المقال؟

بينما يتأمّل لبنان مرور نصف قرن على بداية حربه، لا يزال نظام الرعاية المؤسّساتية يُعيد إنتاج منظومة العنف نفسها، وإن كان ذلك تحت عباءة “العمل الخيري”، وأي مشروع إصلاحي حقيقي لا يمكن أن يبدأ إلا من:

– تفكيك هذا النظام الذي شرعن انتهاك حقوق الطفلات والأطفال والشابّات والشبّان تحت ذريعة الحماية والرعاية.

– إعادة توجيه الموارد المالية والبشرية نحو بدائل قائمة على الرعاية الأسرية والمجتمعية، تحفظ الكرامة وتصون الحقّ في بيئة آمنة، داعمة وخالية من العنف.

المعركة اليوم ليست فقط من أجل محاسبة من انتهكت جسد شابة وكرامتها في العلن، بل من أجل تفكيك منظومة متكاملة تحمي المعتدين والمعتديات، وتُحوّل الفقر إلى مشروع تمويل دائم، إنها معركة ضدّ ثقافة الزبائنية التي تُوزّع “الرعاية” وفق الانتماء الطائفي، وتُؤسّس لنظام رعائي يُقونن التمييز، ويكرّس التبعية، ويمنع إمكانيات الاستقلال والتمكين.

لن تُجدي الخطط الاستراتيجية نفعاً إن لم تُبنَ على إرادة سياسية تُنهي التواطؤ التاريخي بين الدولة والمؤسّسات الرعائية، وتُعيد الاعتبار للعدالة الاجتماعية والحق في الرعاية المجتمعية العادلة، لن تُجدي ورش العمل والتقارير واستدعاء الخبرات الدولية، إن لم تقم على الاستماع الجادّ لتجارب الأشخاص الذين/اللواتي عايشوا/ن هذه المنظومة، والذين/اللواتي لا يزالون/ن يدفعون/ن أثمانها الصحّية والنفسية والاجتماعية حتى اليوم.

آخر القصص
وثائق إيلي كوهين تعود إلى تل أبيب: حفظ الحقيقة أم تكريس للسلطة الاستعمارية؟
جيفري كرم - أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية | 23.05.2025
شهر على جيرة البحيرة
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 23.05.2025

اشترك بنشرتنا البريدية