يمازحني أصدقائي وزملائي اللبنانيون قائلين: “إنتِ من حرب إلى حرب”، وهذه حال آلاف السوريين، أواسيهم ويواسونني كلٌّ على طريقته. ما يهمّ حقاً اليوم هو النجاة، لكن حتى في الحروب، في عزّ الموت، هناك دائماً “خيار وفقوس”. هذا واقع عشناه في سوريا، ونعيشه اليوم في لبنان، وغداً لا أعلم أين.
الجميع ضحايا الحرب، لكن يظل السوريون الحلقة الأضعف في الحرب الإسرائيلية اليوم. ليس فقط بسبب انتشار خطاب الكراهية ضدهم في لبنان، أو رفض بعض مراكز الإيواء استقبالهم، بل لأن نظامهم ذاته لا يريدهم ولم يفكر فيهم بل هو سبب محنتهم.
ومحاباة النظام السوري للهاربين اللبنانيين لا تنطلق حتماً من نزعة إنسانية بقدر ما هي حسابات سياسية مع حليفه وراعيه الإقليمي في طهران وامتداد مع حزب الله.
حقُّ الجميع في الحصول على مكان آمن لا جدال فيه، لكن ما يثير الحزن والإهانة هو ألّا يستطيع السوري العودة الى بلده بأمان وكرامة، وألا يجد احتضاناً من بلده، وأن يواجه تمييزاً في لبنان.
بنية تحتية تُخلق من العدم
معضلة السوريين مع نظامهم بدأت من لحظة قتلهم وتهجيرهم وعرقلة عودتهم لسنوات، بل ووضع عراقيل أمام ذلك بصوغ قوانين وإجراءات عدة، منها استمرار فرض الخدمة الإلزامية وفرض رسوم على أملاكهم بل ومصادرتها.
بعد هذا كله تأتي الحرب الإسرائيلية على لبنان لتضع مزيداً من الملح على الجرح السوري المفتوح.
بدأ تجاهل اللاجئين السوريين من رأس النظام السوري، بشار الأسد، الذي ركز على ضرورة مساعدة “الأخوة اللبنانيين”، متناسياً تماماً مأساة السوريين المستمرة منذ ما قبل الحرب الإسرائيلية، وواصفاً إياهم بـ “المقيمين في لبنان”.
وعلى رغم كل دعوات السياسيين في لبنان لإعادة اللاجئين إلى سوريا، إلا أن البنية التحتية في سوريا لم تكن جاهزة لاستقبالهم، كما ادّعى النظام مراراً. وفي كل مرة، كان النظام يخرج ليؤكد عدم وجود بنية تحتية قادرة على استيعاب اللاجئين، مطالباً المجتمع الدولي بإعادة الإعمار ورفع العقوبات الاقتصادية، التي زعم أنها السبب في عدم قدرته على استقبالهم.
بين ليلة وضحاها، أصبحت البنية التحتية قادرة على استقبال النازحين اللبنانيين. ليست هذه الإشارة ضيقاً باللاجىء اللبناني في سوريا، انما تساؤلاً عن حق السوري أيضاً بالإغاثة. في حمص وحدها، تستوعب المراكز المفتتحة 40 ألف شخص، بالإضافة إلى 25 ألفاً آخرين في المراكز الإضافية. وذكر مدير الدفاع المدني في حمص أن هناك إمكانية لفتح المدارس والجوامع عند الحاجة، مشدداً على أن هذه المراكز مجهّزة بالكهرباء، والمياه، والفرش، ومعدات المطبخ.
والسؤال هنا: أليست هذه هي البنية التحتية التي ادّعى النظام أنها غير متوافرة؟ في لبنان، تفتقر مراكز الإيواء الى كل هذه التجهيزات، بينما استطاع النظام السوري تأمينها بسرعة قياسية. ألا يثير ذلك تساؤلات مشروعة عن موقع السوري اليوم في خريطة النظام؟ ولماذا لم يجد اللاجئ السوري هذه المراكز ليعود إليها، بينما كان يمضي الشتاء في خيمة غارقة في الطين والماء، والصيف في خيمة تحوّلت إلى فرن؟!
حملة أهليّة سوريّة لا تذكر السوريين!
ما يحدث هو تعاطف مشروط يتناسب مع التوجهات السياسية للنظام وأتباعه. فقد انتشرت دعوات على وسائل التواصل الاجتماعي بين بعض السوريين المؤيدين للنظام لدعم اللبنانيين وفتح منازلهم لهم، لكنهم تجاهلوا تماماً ذكر اللاجئين السوريين في لبنان، الذين يقترب عددهم من المليون ونصف المليون شخص.
كثر من هؤلاء اللاجئين لا يحملون أي توجهات سياسية، فلا هم مع النظام ولا ضده، وربما السياسة آخر ما يشغلهم؛ هم فروا من الحرب، والموت، والقصف في سوريا. لكن، لسبب ما، يعتبرهم النظام ومؤيدوه معارضين بالفطرة!
جاء في بيان “الحملة الأهلية السورية لدعم النازحين من لبنان”: “كما استقبلنا أهلنا من لبنان في بيوتنا خلال حرب 2006، وكما استقبلونا هم خلال سنوات الحرب وما زالوا، نعلن عن رفع الجاهزية الشعبية والاستعداد لاستقبال العائلات التي قد تضطر للنزوح من لبنان باتجاه سوريا”. ولكن هناك أسئلة كثيرة تثيرها هذه الحملة: هل سيتم استقبال العائلات السورية؟ ولماذا لم تذكر الحملة بوضوح دعمها للاجئين السوريين بالتحديد؟
من جهة أخرى وعلى رغم تسميتها بالأهلية، لا أعتقد أن النظام السوري يسمح بأي مبادرة مدنية أو أهلية إن لم تكن من صلبه وتحت إشرافه، وهذا سبب آخر لعدم ذكر اللاجئين السوريين في البيان.
ومرة أخرى لا بد من الترحيب بإغاثة اللاجىء اللبناني في سوريا، ويستتبع هذا الترحيب تطلباً مماثلاً حيال الهاربين السوريين من الحرب على لبنان.
سوريون ينتظرون على حدود بلادهم
لا يزال قرار تصريف 100 دولار أميركي سارياً، حتى بعد الحرب الإسرائيلية. وعلى الرغم من أن سوريين لاجئين كثراً في لبنان لا يملكون قوت يومهم، يُطلب منهم تصريف 100 دولار قبل دخولهم البلاد، وهو أمر يكاد يكون مستحيلاً لبعض العائلات، بخاصة تلك التي تتكون مكوّنة من خمسة أو ستة أفراد أو أكثر. بينما يدخل اللبنانيون من دون دفع أي قرش، يُجبر السوري على تأمين 100 دولار واستلامها بالعملة السورية وبسعر صرف البنك المركزي.
لكن ماذا لو لم يكن لدى اللاجئين هذا المبلغ؟ هل سيظلون عالقين على الحدود؟ لماذا لم يُعفَ السوري حتى الآن من دفع هذه “الأتاوة” لدخول بلده؟
وطالب سوريون، كما نقل موقع “العربي الجديد”، بمعاملتهم معاملة النازحين اللبنانيين نفسها على الحدود. وقال أحدهم: “أنا من بين عشرات المواطنين السوريين العالقين على الحدود السورية – اللبنانية، ولا يملك أي منا 100 دولار لدخول البلاد. نرى خفر الحدود السورية يمررون المواطنين اللبنانيين أمام أعيننا من دون أن يُطلب منهم دفع ولو دولار واحد”.
يكاد جميع السوريين يشعرون بهذا التمييز اللاإنساني، الذي يمثل في الواقع انتهاكاً صريحاً لحقوق الإنسان. يخبرني صديقي أن أهله عالقون في صيدا، غير قادرين على العودة إلى سوريا، بينما يرون التسهيلات المقدمة للبنانيين، يقول: “لست ضد أن يجد الجميع مكاناً آمناً، لكنّ رؤية هذا التمييز مؤلم وغير عادل”.
النظام السوري يتفنّن حقاً في إذلال السوريين وتعذيبهم، فلا يفوّت فرصة لممارسة ديكتاتوريته عليهم بطرق مختلفة، حتى من خلال تركهم ينتظرون على الحدود. وذكر مصدر أمني لـ”العربي”، أن أكثر من ألف لبناني عبروا الحدود السورية رسمياً من دون الحاجة إلى أي تصاريح، في حين يُمنع عشرات السوريين العالقين من العودة إلى بلادهم!
من البديهي أن من حق الجميع، سواء كانوا لبنانيين أو سوريين، إيجاد مكان آمن. لكن التمييز بينهم على الأراضي السورية أو اللبنانية أمر صادم، لا إنساني، وغير عادل على الإطلاق. هذا التمييز يؤكد عدم رغبة النظام السوري في إعادة اللاجئين، سواء لأسباب ديموغرافية أو اقتصادية، وما يحدث اليوم هو دليل واضح وصريح على ذلك.
إقرأوا أيضاً: