بعد مضيّ أكثر من شهر على مقتله، يبدو أن لدينا أخيراً صورة واضحة للحظات الأخيرة من حياة جمال خاشقجي. في أوائل تشرين الأول/ أكتوبر، دخل الصحافي السعودي والكاتب بصحيفة “واشنطن بوست” إلى القنصلية السعودية في إسطنبول، وعلى الفور انقضّ عليه أعضاء الفريق الذي أرسلته الحكومة السعودية لقتله. خنقوه حتى الموت، وفقاً لمدعي عام إسطنبول، عرفان فيدان. في غضون 7 دقائق من الدخول عبر الباب الأمامي للقنصلية، كان خاشقجي ميتاً. وعلى ما يبدو، فقد اعتمد خبير الطب الشرعي الموجود بين القتلة على الموسيقى لتسكين ضميره، ثم قام بتقطيع الجثة وربما أتلفَها، قبل أن يهربوا من البلاد.
مع ذلك، وعلى رغم كل التفاصيل التي ظهرت حول مقتل خاشقجي، لا تزال هناك عناصر حاسمة في الجريمة لا نعرفها بالتحديد؛ مثل أين تم التخلص من الجثة، أو ما تبقى منها، وما إذا كان ولي العهد محمد بن سلمان، التي يعمل الكثير من هؤلاء القتلة لديه، قد أمر أو تغاضى عن القتل.
كيف يمكننا أن نعرف؟
إليك الطريقة: يجب أن تفرض على الحكومة السعودية إظهار مبارك محمد العتيبي، القنصل العام، الذي كان في مكتبه وقت القتل. كان عتيبي حاضراً في جريمة قتل خاشقجي، لكن يبدو أنه لم يشارك فيها. واحتجّ العتيبي على القتلة، قائلاً “افعلوا ذلك في الخارج. ستضعونَني في مشكلة”، وفقاً لمسؤول تركي في مقابلة مع صحيفة “يني شفق”.
غادر العتيبي تركيا في 16 تشرين الأول، ولم يُرَ منذ ذلك الحين. طلبت السلطات التركية من السعوديين تسليم ثمانية عشر شخصاً مشتبهاً بعلاقتهم بفرقة الاغتيال. رفض السعوديون واعتقلوا المشتبه فيهم بأنفسهم. لكن ماذا عن العتيبي؟ بخصوصه، السعوديون صامتون تماماً. العتيبي مفتاح مهم في القضية: إنه شاهد عيان على مقتل خاشقجي. ربما كانت لديه معرفة مسبقة بالخطة، وربما يعرف مَن أمَر بتنفيذها.
يبدو أن محمد بن سلمان وأتباعه في الرياض عازمون تماماً على دفن الحقيقة؛ لقد كذبوا مراراً وتكراراً حول مقتل خاشقجي ومشاركة حكومتهم فيه. إن القصة الأخيرة للحكومة السعودية، والتي يستحيل تصديقها، هي أنها لا تعرف مكان جثة خاشقجي، على رغم أن المسؤولين الأتراك يقولون إن القتلة أرسلوا “متعاوناً محلياً” للتخلص منها. قد يكون العتيبي قادراً على إلقاء الضوء على ذلك أيضاً.
لماذا كان النظام السعودي مُصمماً على إسكات خاشقجي؟ لقد كان خاشقجي، ربما أكثر من أي سعودي آخر، يستأصل الحقيقة حول الطرائق الصارمة التي يتبعها محمد بن سلمان، ويشاركها مع العالم. قبل بضعة أسابيع من مقتله، وجه لي خاشقجي رسالة إلكترونية يحثني فيها على الكتابة عن حملة الاعتقالات التي قام بها محمد بن سلمان وكتب “ستلاحظ سخرية العدالة. سأكون في اسطنبول ولكن سأتلقّى مكالمتك”.
في العام الماضي، شرَع محمد بن سلمان في حملة قمع غير مسبوقة للمعارضة المحلية، واعتقل مئات من الصحافيين ورجال الدين وناشطات في حقوق المرأة – وأي شخص تجرأ على تلطيخ الصورة الوردية لمحمد بن سلمان كرجل كريم ذو بصيرة.
لا أحد يعرف على وجه اليقين -ولا حتى مؤسسات مثل “هيومان رايتس ووتش” ومنظمة العفو الدولية- عدد السجناء السياسيين في السجون السعودية. في مقابلة بعد اختفاء خاشقجي مباشَرةً، قال محمد بن سلمان لشبكة “بلومبيرغ” إنه تم اعتقال 1500 سعودي خلال السنوات الثلاث الماضية لأسباب مثل “الإرهاب” و”التطرف”. وأضاف: “نحن نحاول التخلص من التطرف والإرهاب من دون حرب أهلية”.
في إحدى رسائله الإلكترونية الأخيرة لي، أرفق خاشقجي نسخة من لائحة الاتهام في قضية فاضحة للغاية- قضية سلمان العودة، وهو رجل دين في مدينة الرياض. العودة ناقد معروف ومشهور للحكومة السعودية، بدأت شهرته خلال حرب الخليج الأولى، عندما انتقد بشدة القادة السعوديين لدعوتهم القوات الأمريكية إلى البلاد. في تسعينات القرن الماضي، قضى سنوات في السجن بتهمة التحريض على التمرد ضد الملكية. وفي السنوات الأخيرة، سار العودة على خط معتدل. بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، أدان أسامة بن لادن لقتله الأبرياء وحثه المسلمين الآخرين على اتباعه والقيام بالمثل، حيث قال: “أخي أسامة، هل ستكون سعيداً للقاء الله -سبحانه وتعالى- حاملاً عبء مئات الآلاف أو ملايين الضحايا على ظهرك؟”. في السنوات الأخيرة، ذهبت انتقاداته إلى أبعد من مجرد حث الملكية السعودية على إطلاق إصلاحات ديموقراطية. على موقع Twitter، يحتوي حسابه العربي على 14 مليون متابع. قال لي ابنه عبد الله العودة: “كانت لدى والدي شرعية مستقلة عن الدولة. هذا ما يخشاه النظام الملكي”.
لائحة الاتهام للعودة التي صدرت في 37 بنداً، هي في الأساس سلسلة من العموميات والاتهامات من دون أدلة. إنها تتهمه بأشياء مثل “السخرية من إنجازات الحكومة” و”القول بأن القيادة السعودية تحتكر الثروة، وهي سبب الفقر” في البلاد. وتتهم العودة بتمويل الإرهاب، لكنها لا تقدم أي وقائع تدعم ذلك.
في الواقع، فإن أفضل ما يمكن أن يفهمه أي شخص، هو أن جريمة العودة الحقيقية هي عدم نشره تغريدة مكتوبة من قِبل الحكومة لدعم الحصار السعودي لقطر، والذي تم إطلاقه بمساعدة الإمارات العربية المتحدة في العام الماضي. تماماً مثل الاتهامات المُوجّهة للعودة، لم تكن الحملة السعودية والإماراتية- التي تهدف على ما يبدو إلى الإطاحة بالحكومة القطرية- مدعومة بالأدلة. وقد شجبتها الولايات المتحدة بشكل كبير، كما فعل الكثير في بقية العالم. قال آدم كوغل، من منظمة “هيومان رايتس ووتش”: “ليس هناك ادعاء واحد ضد العودة بالعنف أو التحريض على العنف”. ومع ذلك، يسعى المُدّعون العامون إلى تنفيذ عقوبة الإعدام بحقه.
وفقاً للمعايير السعودية، فإن الدعوى ضد العودة ليست استثنائية.
طبقاً لمنظمة “هيومان رايتس ووتش”، فقد احتجزت الحكومة السعودية في العام الماضي ما لا يقل عن 13 ناشطة في مجال حقوق المرأة، وما لا يقل عن 60 من رجال الدين. هل تذكرون الاحتجاز الجماعي، في أواخر عام 2017، لنحو 250 من الشخصيات السعودية البارزة، بمن فيهم بعض أغنى الناس في العالم، في فندق “ريتز كارلتون” في الرياض؟ كانت العملية، التي أدارها محمد بن سلمان نفسه، تهدف إلى إجبار المعتقلين على تسليم أجزاء كبيرة من ثرواتهم. التفاصيل غامضة، ولكن يبدو أن بعض المعتقلين تعرضوا للتعذيب. مات رجل واحد على الأقل، وهو علي القحطاني، الجنرال المتقاعد، بسبب نوبة قلبية بعد تعرُّضه للتحقيق القاسي.
أُفرِج عن معظم المحتجزين، لكن أكثر من خمسين منهم ما زالوا في الداخل. أحدهم هو الأمير تركي بن عبد الله، أمير منطقة الرياض السابق. وفقاً لشخص لديه علاقات مع تركي بن عبد الله، تم تجريد العائلة من ثروتها، وسُمِح لهم بالتحدث أحياناً إلى تركي عبر الهاتف. قال لي الشخص: “نحن لا نعرف أين هو”. وكانت هناك شائعات مستمرة بأن عبد العزيز بن فهد -ابن عم محمد بن سلمان وابن الملك فهد- قد مات.
يبدو من الواضح بشكل متزايد أن إدارة ترامب – التي وضعت محمد بن سلمان في مركز استراتيجيتها للشرق الأوسط – لن تفعل شيئاً لمقاومة عرقلة السعوديين جهود العثور على الحقيقة حول مقتل جمال خاشقجي. في الآونة الأخيرة، أخبرني أحد كبار أعضاء إدارة ترامب أنه يُنظر إلى محمد بن سلمان على نطاق واسع، داخل الحكومة، على أنه متهور – ولكن كان من الصعب تخيُّل أن ترامب سيحاول إخراجه. وقال لي المسؤول: “ترامب لن يتزحزح”.
يضع ذلك الأمور في أيدي السعوديين أنفسهم. على رغم وجود بعض تلميحات الاستياء داخل العائلة المالكة، إلا أنه لا يبدو حتى الآن أن هناك تفكيراً جدياً في إزالة محمد بن سلمان – ليس بعد، في أي حال. في عملية تطهير القصر الملكي من المتنافسين، خلق ولي العهد الكثير من الأعداء الأقوياء، وبعضهم بلا شك يغلي بأفكار الانتقام. حتى لو – خصوصاً لو- أصر محمد بن سلمان على موقفه، فيبدو من المرجح أن العائلة المالكة السعودية، والمملكة العربية السعودية عموماً، يدخلون في مرحلة خطرة. أخبرني بروس ريدل، خبير الشرق الأوسط في معهد بروكينغز، أنّه “لا يوجد مخرج سياسي، إلا من خلال العنف”.
هذا المقال مترجم عن newyorker.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي.