يصعب على المرء أن يكون صحافياً جاداً في هذه الأيام. يمكنك في الوقت الحالي أن تنقل تقريراً صحفياً مدعوماً بالحقائق عبر أسلوب رائع، ولكن، لا يزال هناك احتمالية أن يوصم تقريرك بـ”الأخبار المزيفة”، عن طريق أي شخص أثيرت ثائرته بسبب تقريرك، بل وحتى عن طريق أصدقائك، الذين يختلفون معك في وجهات النظر. وفي أحسن تقدير، سيقولون إنك اعتمدت في تقريرك على “الحقائق النابعة من الإعلام البديل”.
يقول المؤرخون إن مصطلح “خبر مزيف” يعود تاريخه إلى أواخر القرن التاسع عشر، عندما انتشرت، ما جرى تعريفها اصطلاحاً بـ”الصحافة الصفراء”. إلا أن هذا المصطلح، انتشر حقاً عام 2016، خلال حملة ترامب للترشح إلى الرئاسة. ووصف هذا المصطلح عديداً من الأشياء، بدءاً من الإعلام الإلكتروني المؤيد لترامب، والخالي من الحقائق، حتى الأخبار المثيرة وغير الصحيحة، التي لا تستهدف إلا لفت الانتباه وكسب مزيد من الدولارات.
بدأ ترامب نفسه خلال فترة الانتخابات الأولية، بوصف جميع الأخبار التي تنقلها وسائل الإعلام الرئيسية عنه بـ”الأخبار المزيفة”. على الرغم من أن الفكرة، التي تشير إلى احتمالية وجود حقائق مختلفة، تعود إلى عهد إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، حين ادعى مستشاره كارل روف أن الإدارة “وضعت نسختها الخاصة” من الحقائق. وجدت هذه الفكرة سوقاً رائجاً لها، عندما اتُهمت مستشارة ترامب، كيليان كونواي، باختلاق أشياء لم تحدث خلال مقابلة تلفزيونية، فادعت أنها اعتمدت في ما قالته على “حقائق نابعة من وسائل إعلام بديلة”.
قد تكون المراوغة جيدة في حد ذاتها، فغالبية الأشخاص مستعدون لتصديق كذب الساسة، أيما كان الحزب أو القناعات التي يمثلونها، لذا، فإن محاولاتهم لإنكار تعمد الكذب عندما يثبت بطلانه، تبدو أكثر ميلاً لأن تُصدق أيضاً.
ردّت جميع مؤسسات الإعلام: نيويورك تايمز، واشنطن بوست، وبرامج شبكة الأخبار، وحتى الإذاعة الوطنية العامة، على وصفهم بالكاذبين وصناع “الأخبار المزيفة”، بالترويج لأنفسهم على أنهم “المجتمع المعتمد على الحقيقة” في حالة الإذاعة الوطنية للأخبار، أو بالادعاء بأنهم يخوضون قتالاً شريفاً ضد الجهل، من خلال الشعار الجديد الذي كان يعلو الصفحة الرئيسية في واشنطن بوست: “الديمقراطية تموت في الظلام”. وبقيت نيويورك تايمز عالقة في شعارها العتيق: “كل الأخبار صالحة للنشر”. ووصفت ادعاءات إدارة ترامب بـ”الأكاذيب”.
في كانون الأول (ديسمبر) الفائت، مرر الكونغرس قانوناً جديداً، وقّع عليه الرئيس السابق باراك أوباما، يشرّع تعديلاً متسلطاً على قانون إقرار الدفاع الوطني لعام 2017. سُمي هذا القانون “قانون مكافحة التضليل والدعاية الكاذبة”، وتقع مسؤولية هذا الإجراء ضمن نطاق مسؤولية وزارة الخارجية مع استشارة وزارة الدفاع ومدير الاستخبارات القومية، ومنظمة دعاية حكومية غير معروفة، تسمى “مجلس وصاية الإذاعة والتلفزيون”، عبر مطالبتهم بإنشاء “مركز تحليل المعلومات والاستجابات”. كانت وظيفة المركز الجديد، الذي مُوِّل بـ 160 مليون دولار، وهي ميزانية مخصصة له لمدة عامين، أن يجمع المعلومات المتعلقة بـ”الدعاية الأجنبية وجهود التضليل” و”أن يخطو خطوةً استباقيةً نحو تقديم أخبار معتمدة على الحقائق تدعم مصالح وحلفاء الولايات المتحدة”.
ما هي “الأخبار المزيفة”؟ الهدف لا يزال يتحرك
قد يبدو هذا مثيراً للضحك، لكن باعتباري صحافياً عملت في هذا المجال لـ45 عاماً، سواء في الصحف والقنوات الرئيسية أو في وسائل الإعلام البديلة، وكوني كاتباً حراً نشرت مع عديد من المنصات الصحفية المعروفة مثل “بيزنس ويك”، و”ذا نايشن”، و”ذا فيلج فويس”، وأدير الموقع الإخباري ThisCantBeHappening.net، فقد شهدت تحول الهوس بشأن “الأخبار المزيفة”، إلى هجمة على وسائل الإعلام البديل، وعلى منظمات الأخبار.
في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، نشرت واشنطن بوست مقالاً في الصفحة الرئيسية بطابعٍ مكارثيٍ، أعلنت خلاله أن نحو 200 موقع إخباري على الشبكة “روجوا للدعاية المؤيدة لروسيا” عن عمدٍ أو عن غير عمد. اعتمد المقال، الذي كتبه مراسل شؤون الأمن القومي في الصحيفة كريغ تمبرغ، على أدوات مجموعة غامضة تسمى PropOrNot، التي لم يذكر تمبرغ أي شيء عن هويتها أو مصادر تمويلها. ويقول تمبرغ إن PropOrNot جمعت قائمةً بالمواقع التي حددتها بأنها تنشر “دعاية مؤيدة لروسيا”.
كان أحد هذه المواقع، الدورية اليسارية المعروفة كاونتر بانش، التي يمولها منذ عقود أليكساندر كوكبرن، وهو كاتب سابق في “ذا فيلج فويس” و”ذا نايشن”. قدمت المجموعة مقالين باعتبارهما مبرراً لاعتبار الموقع مؤيد لروسيا. كنت أنا شخصياً كاتب أحد هذين المقالين، وهو مقال كتبته للموقع الذي أديره، ثم أعاد موقع “كاونتر بانش” نشره مع ذكر المصدر والكاتب. قال الشخص الذي استعرض المقال، وهو ضابط مخابرات متقاعد يدعى جويل هاردينغ (اكتشفت أنه على صلة بقاعدة “فورت بيلفوار” خارج واشنطن، التي تؤوي قيادة الأمن والاستخبارات العسكرية الأميركية)، إن مقالي كان “دعايةً مؤيدةً لروسيا بصورةٍ عبثية”.
في الواقع، كان المقال عبارةً عن تقريرٍ مباشرٍ بدرجةٍ كبيرة حول نتائج التحقيقات الهولندية الأسترالية، التي نشرت في 29 أيلول (سبتمبر) 2016، بشأن طائرة الخطوط الجوية الماليزية، التي أُسقطت فوق أوكرانيا. إذ توصلت نتائج التحقيقات إلى أن روسيا هي التي تقف وراء الحادث، بعد استهداف الطائرة بصاروخ أرض جو من نوع بوك. كتبت في المقال أن التحقيقات لم تكن شرعية، لأن الدولتين، روسيا وأوكرانيا، يُعرف عنهما امتلاكهما صواريخ بوك، والقاذفات التي تطلقها. لكن إحداهما فقط، وهي أوكرانيا، كان مصرحاً لها تقديم الأدلة. فحين كان الروس يعرضون الأدلة في القضية، كانت تُرفض مراراً وتكراراً. وفشل التقرير أيضاً في التعرض للحقيقة التي مفادها أن الحكومة الأوكرانية حصلت على سلطة فيتو تستخدمها ضد أي نتائج يصل إليها المحققون.
فهل كان تقريري “أخباراً زائفة” أو دعاية؟
على الإطلاق.
الانتقاد الإعلامي الأشد كسلاً
يقول جيم نوريكاس، وهو محرر في مجلة Fairness and Accuracy In Reporting، وهي مجلة صحفية تقع في نيويورك: “يعتبر وصم تقارير الأخبار التي لا تحبها بأنها أخبار زائفة أكثر أشكال النقد الإعلامي كسلاً”. ويضيف: “يشبه هذا وضع أصابعك في أذنيك وإطلاق أصوات صاخبة بصوت عالٍ. لدى كل من الحكومة ومؤسسات الإعلام أسباب لعدم رغبتهم في أن لا يستمع العامة إلى الرؤى التي تشكل تهديداً لسلطتهم”.
وفي حين ادعاء كيليان كونواي أن لديها الحق في أن تعرض “حقائق نابعة من وسائل إعلام بديلة” باعتبارها وسيلةً لتبرير اكتشاف اختلاقها للكذب، هناك أيضاً حقائق نابعة من وسائل إعلام بديلة هي حقيقية ولكن لا تنشرها مؤسسات الإعلام. ثمة مثال كلاسيكي ضُرب في الفترة التي سبقت الغزو الأميركي للعراق، عندما نقلت جميع مؤسسات الإعلام تقاريراً باعتبارها حقائق، أفادت بامتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل وبأنه يطور قنبلةً نوويةً.
كان هناك كثير من منظمات الأخبار البديلة التي نقلت ما قاله مفتشو الأمم المتحدة، إن جميع هذه المزاعم ليست حقيقية، ولا يوجد أسلحة دمار شامل، ولا برامج لتطوير أسلحة دمار شامل في العراق. لكن جرى التعتيم عليها من قبل المؤسسات الإعلامية مثل “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست”، وشبكات إخبارية رئيسية أخرى.
تنتشر خلال هذه الأيام رواية مشكوك في صحتها بشأن “اختراق” الروس لخادم الشبكة الخاصة باللجنة الوطنية التابعة للحزب الديمقراطي. قد يكون الأمر حدث بهذا الشكل، لكن في الحقيقة، في ظل النظام الاستخباراتي الهائل الذي أسسته الولايات المتحدة لمراقبة جميع الاتصالات المحلية والأجنبية، يصعب وجود دليل يشير إلى وقوع مثل هذا الاختراق. واقترح ويليام بيني، مسؤول الإبلاغ عن المخالفات في وكالة الأمن القومي الأميركي، وراي ماكغفرن، المحلل السابق في وكالة الاستخبارات المركزية، أن بعض الأدلة تشير بأصابع الاتهام إلى ضلوع أحد العاملين داخل اللجنة الوطنية التابعة للحزب الديمقراطي في الأمر.
تنتشر بكل تأكيد الأخبار المزيفة عبر الإنترنت، إضافة إلى أن المؤامرات التي لا تستند إلى أي أساس تنتشر يميناً ويساراً. ولكن كثيراً ما يحدث هذا، فالمقالات كمقالي المذكور على PropOrNot(واعتباره مصدراً أصيلاً للأخبار الزائفة!)، تصنف أنها دعاية، وفقاً لما يصفه نوريكاس بكل بساطة بأنه “استخدام التهكم باعتبارها آلية دفاعية” من قبل المنظمات الإخبارية، التي ترتكب أخطاءً بنشرها للأخبار الزائفة، كما فعلت واشنطن بوست بنشرها للقائمة السوداء التي أعدتها PropOrNot، واعتباره سبق صحفي”.
يجادل ميكي هاف، مدير منظمة Project Censored الموجودة في كاليفورنيا، قائلاً: “ما تحاول الحكومة ومؤسسات الإعلام القيام به، بمساعدة كبرى شركات الإنترنت، هو إغلاق المواقع الإخبارية البديلة التي تشكك في الموقف التوافقي للإعلام حول القضايا”.
تهديد كبير للإعلام الإلكتروني
يشكل هذا تهديداً لأي منظمة أخبار إلكترونية، بما في ذلك هذه المنظمة، التي تعتمد على الفرص المتساوية في استخدام الإنترنت وفي سرعات التحميل. وبالفعل، يوجه هاف اتهامات، ويقول إن بعض التقارير تشير إلى أن فايسبوك يبطّئ من سرعة مواقع محددة، حين تكون لديها روابط مرتبطة بمنصته، في استجابة مضللة لاتهامات وُجهت إلى موقع التواصل الاجتماعي، المعروف بأنه باع مساحات إعلانية إلى منظمات مرتبطة بالحكومة الروسية، ومتهمة بمحاولة التأثير على الانتخابات الرئاسية، التي أُجريت في تشرين الثاني (نوفمبر).
إن نهاية حيادية الإنترنت، التي تتمثل في أن تكون الفرص متساوية في الحصول على إنترنت ذي سرعة عالية للتصفح والتحميل مكفولةً للجميع، تتعرض الآن إلى هجوم من قبل إدارة ترامب وهيئة الاتصالات الفيدرالية، والكونغرس، الذي يقوده الجمهوريون، ما سيسهّل كثيراً إغلاق هذه المنصات الإعلامية البديلة.
تكمن الإجابة الحقيقية في التأكيد على أن يكون قراء ومتابعو جميع أنواع وسائل الإعلام، الرئيسية والبديلة، مستهلكين انتقاديين للأخبار. لا يعني هذا أن ننظر إلى المقالات بنظرة نقدية وحسب، بما في ذلك هذا المقال، ولكن أن نتصفح مصادر عديدة للمعلومات عند الاطلاع على الموضوعات الهامة. فالاعتماد فقط على “نيويورك تايمز” أو “واشنطن بوست”، أو “فوكس نيوز” أو “الإذاعة الوطنية العامة”، سيضر باطلاعكم على المعلومات، لن تكونوا غير مطلعين، بل مطلعين على معلوماتٍ خاطئة. وحتى إذا قرأتم كلاً من الصحيفتين، وشاهدتم كلاً من الشبكتين، في الغالب لن تحصلوا على النسخة الكاملة من الحقيقة.
ولنحصل على الحقيقة، نحتاج أن نفحص أيضاً مصادر الأخبار البديلة، سواء اليمينية أو اليسارية. ونحتاج إلى إبقاء التمييز النقدي بين الرؤى غير التقليدية أو غير الشائعة، وبين الأكاذيب الصارخة والحملات الدعائية. فمن دون مثل هذا التمييز والحرية في اتخاذ مثل هذه القرارات بأنفسنا، سيكون من المستحيل صيانة الديمقراطية.
هذا المقال مترجم عن موقعSalon
لقراءة المقال بالإنكليزية على الرابط التالي.
[video_player link=””][/video_player]
الهجوم على “الأخبار المزيفة” هجوم على الإعلام البديل
يصعب على المرء أن يكون صحافياً جاداً في هذه الأيام. يمكنك في الوقت الحالي أن تنقل تقريراً صحفياً مدعوماً بالحقائق عبر أسلوب رائع، ولكن، لا يزال هناك احتمالية أن يوصم تقريرك بـ”الأخبار المزيفة”، عن طريق أي شخص أثيرت ثائرته بسبب تقريرك، بل وحتى عن طريق أصدقائك، الذين يختلفون معك في وجهات النظر. وفي أحسن تقدير، سيقولون إنك اعتمدت في تقريرك على “الحقائق النابعة من الإعلام البديل”.

هل غادر بشار الأسد القصر الجمهوري فعلاً؟

التشبّت بالحياة خيار الغزيين الوحيد

مَن وقّع على الوصاية الأميركية على مطار بيروت؟
"درج"
يصعب على المرء أن يكون صحافياً جاداً في هذه الأيام. يمكنك في الوقت الحالي أن تنقل تقريراً صحفياً مدعوماً بالحقائق عبر أسلوب رائع، ولكن، لا يزال هناك احتمالية أن يوصم تقريرك بـ”الأخبار المزيفة”، عن طريق أي شخص أثيرت ثائرته بسبب تقريرك، بل وحتى عن طريق أصدقائك، الذين يختلفون معك في وجهات النظر. وفي أحسن تقدير، سيقولون إنك اعتمدت في تقريرك على “الحقائق النابعة من الإعلام البديل”.
يصعب على المرء أن يكون صحافياً جاداً في هذه الأيام. يمكنك في الوقت الحالي أن تنقل تقريراً صحفياً مدعوماً بالحقائق عبر أسلوب رائع، ولكن، لا يزال هناك احتمالية أن يوصم تقريرك بـ”الأخبار المزيفة”، عن طريق أي شخص أثيرت ثائرته بسبب تقريرك، بل وحتى عن طريق أصدقائك، الذين يختلفون معك في وجهات النظر. وفي أحسن تقدير، سيقولون إنك اعتمدت في تقريرك على “الحقائق النابعة من الإعلام البديل”.
يقول المؤرخون إن مصطلح “خبر مزيف” يعود تاريخه إلى أواخر القرن التاسع عشر، عندما انتشرت، ما جرى تعريفها اصطلاحاً بـ”الصحافة الصفراء”. إلا أن هذا المصطلح، انتشر حقاً عام 2016، خلال حملة ترامب للترشح إلى الرئاسة. ووصف هذا المصطلح عديداً من الأشياء، بدءاً من الإعلام الإلكتروني المؤيد لترامب، والخالي من الحقائق، حتى الأخبار المثيرة وغير الصحيحة، التي لا تستهدف إلا لفت الانتباه وكسب مزيد من الدولارات.
بدأ ترامب نفسه خلال فترة الانتخابات الأولية، بوصف جميع الأخبار التي تنقلها وسائل الإعلام الرئيسية عنه بـ”الأخبار المزيفة”. على الرغم من أن الفكرة، التي تشير إلى احتمالية وجود حقائق مختلفة، تعود إلى عهد إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، حين ادعى مستشاره كارل روف أن الإدارة “وضعت نسختها الخاصة” من الحقائق. وجدت هذه الفكرة سوقاً رائجاً لها، عندما اتُهمت مستشارة ترامب، كيليان كونواي، باختلاق أشياء لم تحدث خلال مقابلة تلفزيونية، فادعت أنها اعتمدت في ما قالته على “حقائق نابعة من وسائل إعلام بديلة”.
قد تكون المراوغة جيدة في حد ذاتها، فغالبية الأشخاص مستعدون لتصديق كذب الساسة، أيما كان الحزب أو القناعات التي يمثلونها، لذا، فإن محاولاتهم لإنكار تعمد الكذب عندما يثبت بطلانه، تبدو أكثر ميلاً لأن تُصدق أيضاً.
ردّت جميع مؤسسات الإعلام: نيويورك تايمز، واشنطن بوست، وبرامج شبكة الأخبار، وحتى الإذاعة الوطنية العامة، على وصفهم بالكاذبين وصناع “الأخبار المزيفة”، بالترويج لأنفسهم على أنهم “المجتمع المعتمد على الحقيقة” في حالة الإذاعة الوطنية للأخبار، أو بالادعاء بأنهم يخوضون قتالاً شريفاً ضد الجهل، من خلال الشعار الجديد الذي كان يعلو الصفحة الرئيسية في واشنطن بوست: “الديمقراطية تموت في الظلام”. وبقيت نيويورك تايمز عالقة في شعارها العتيق: “كل الأخبار صالحة للنشر”. ووصفت ادعاءات إدارة ترامب بـ”الأكاذيب”.
في كانون الأول (ديسمبر) الفائت، مرر الكونغرس قانوناً جديداً، وقّع عليه الرئيس السابق باراك أوباما، يشرّع تعديلاً متسلطاً على قانون إقرار الدفاع الوطني لعام 2017. سُمي هذا القانون “قانون مكافحة التضليل والدعاية الكاذبة”، وتقع مسؤولية هذا الإجراء ضمن نطاق مسؤولية وزارة الخارجية مع استشارة وزارة الدفاع ومدير الاستخبارات القومية، ومنظمة دعاية حكومية غير معروفة، تسمى “مجلس وصاية الإذاعة والتلفزيون”، عبر مطالبتهم بإنشاء “مركز تحليل المعلومات والاستجابات”. كانت وظيفة المركز الجديد، الذي مُوِّل بـ 160 مليون دولار، وهي ميزانية مخصصة له لمدة عامين، أن يجمع المعلومات المتعلقة بـ”الدعاية الأجنبية وجهود التضليل” و”أن يخطو خطوةً استباقيةً نحو تقديم أخبار معتمدة على الحقائق تدعم مصالح وحلفاء الولايات المتحدة”.
ما هي “الأخبار المزيفة”؟ الهدف لا يزال يتحرك
قد يبدو هذا مثيراً للضحك، لكن باعتباري صحافياً عملت في هذا المجال لـ45 عاماً، سواء في الصحف والقنوات الرئيسية أو في وسائل الإعلام البديلة، وكوني كاتباً حراً نشرت مع عديد من المنصات الصحفية المعروفة مثل “بيزنس ويك”، و”ذا نايشن”، و”ذا فيلج فويس”، وأدير الموقع الإخباري ThisCantBeHappening.net، فقد شهدت تحول الهوس بشأن “الأخبار المزيفة”، إلى هجمة على وسائل الإعلام البديل، وعلى منظمات الأخبار.
في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، نشرت واشنطن بوست مقالاً في الصفحة الرئيسية بطابعٍ مكارثيٍ، أعلنت خلاله أن نحو 200 موقع إخباري على الشبكة “روجوا للدعاية المؤيدة لروسيا” عن عمدٍ أو عن غير عمد. اعتمد المقال، الذي كتبه مراسل شؤون الأمن القومي في الصحيفة كريغ تمبرغ، على أدوات مجموعة غامضة تسمى PropOrNot، التي لم يذكر تمبرغ أي شيء عن هويتها أو مصادر تمويلها. ويقول تمبرغ إن PropOrNot جمعت قائمةً بالمواقع التي حددتها بأنها تنشر “دعاية مؤيدة لروسيا”.
كان أحد هذه المواقع، الدورية اليسارية المعروفة كاونتر بانش، التي يمولها منذ عقود أليكساندر كوكبرن، وهو كاتب سابق في “ذا فيلج فويس” و”ذا نايشن”. قدمت المجموعة مقالين باعتبارهما مبرراً لاعتبار الموقع مؤيد لروسيا. كنت أنا شخصياً كاتب أحد هذين المقالين، وهو مقال كتبته للموقع الذي أديره، ثم أعاد موقع “كاونتر بانش” نشره مع ذكر المصدر والكاتب. قال الشخص الذي استعرض المقال، وهو ضابط مخابرات متقاعد يدعى جويل هاردينغ (اكتشفت أنه على صلة بقاعدة “فورت بيلفوار” خارج واشنطن، التي تؤوي قيادة الأمن والاستخبارات العسكرية الأميركية)، إن مقالي كان “دعايةً مؤيدةً لروسيا بصورةٍ عبثية”.
في الواقع، كان المقال عبارةً عن تقريرٍ مباشرٍ بدرجةٍ كبيرة حول نتائج التحقيقات الهولندية الأسترالية، التي نشرت في 29 أيلول (سبتمبر) 2016، بشأن طائرة الخطوط الجوية الماليزية، التي أُسقطت فوق أوكرانيا. إذ توصلت نتائج التحقيقات إلى أن روسيا هي التي تقف وراء الحادث، بعد استهداف الطائرة بصاروخ أرض جو من نوع بوك. كتبت في المقال أن التحقيقات لم تكن شرعية، لأن الدولتين، روسيا وأوكرانيا، يُعرف عنهما امتلاكهما صواريخ بوك، والقاذفات التي تطلقها. لكن إحداهما فقط، وهي أوكرانيا، كان مصرحاً لها تقديم الأدلة. فحين كان الروس يعرضون الأدلة في القضية، كانت تُرفض مراراً وتكراراً. وفشل التقرير أيضاً في التعرض للحقيقة التي مفادها أن الحكومة الأوكرانية حصلت على سلطة فيتو تستخدمها ضد أي نتائج يصل إليها المحققون.
فهل كان تقريري “أخباراً زائفة” أو دعاية؟
على الإطلاق.
الانتقاد الإعلامي الأشد كسلاً
يقول جيم نوريكاس، وهو محرر في مجلة Fairness and Accuracy In Reporting، وهي مجلة صحفية تقع في نيويورك: “يعتبر وصم تقارير الأخبار التي لا تحبها بأنها أخبار زائفة أكثر أشكال النقد الإعلامي كسلاً”. ويضيف: “يشبه هذا وضع أصابعك في أذنيك وإطلاق أصوات صاخبة بصوت عالٍ. لدى كل من الحكومة ومؤسسات الإعلام أسباب لعدم رغبتهم في أن لا يستمع العامة إلى الرؤى التي تشكل تهديداً لسلطتهم”.
وفي حين ادعاء كيليان كونواي أن لديها الحق في أن تعرض “حقائق نابعة من وسائل إعلام بديلة” باعتبارها وسيلةً لتبرير اكتشاف اختلاقها للكذب، هناك أيضاً حقائق نابعة من وسائل إعلام بديلة هي حقيقية ولكن لا تنشرها مؤسسات الإعلام. ثمة مثال كلاسيكي ضُرب في الفترة التي سبقت الغزو الأميركي للعراق، عندما نقلت جميع مؤسسات الإعلام تقاريراً باعتبارها حقائق، أفادت بامتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل وبأنه يطور قنبلةً نوويةً.
كان هناك كثير من منظمات الأخبار البديلة التي نقلت ما قاله مفتشو الأمم المتحدة، إن جميع هذه المزاعم ليست حقيقية، ولا يوجد أسلحة دمار شامل، ولا برامج لتطوير أسلحة دمار شامل في العراق. لكن جرى التعتيم عليها من قبل المؤسسات الإعلامية مثل “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست”، وشبكات إخبارية رئيسية أخرى.
تنتشر خلال هذه الأيام رواية مشكوك في صحتها بشأن “اختراق” الروس لخادم الشبكة الخاصة باللجنة الوطنية التابعة للحزب الديمقراطي. قد يكون الأمر حدث بهذا الشكل، لكن في الحقيقة، في ظل النظام الاستخباراتي الهائل الذي أسسته الولايات المتحدة لمراقبة جميع الاتصالات المحلية والأجنبية، يصعب وجود دليل يشير إلى وقوع مثل هذا الاختراق. واقترح ويليام بيني، مسؤول الإبلاغ عن المخالفات في وكالة الأمن القومي الأميركي، وراي ماكغفرن، المحلل السابق في وكالة الاستخبارات المركزية، أن بعض الأدلة تشير بأصابع الاتهام إلى ضلوع أحد العاملين داخل اللجنة الوطنية التابعة للحزب الديمقراطي في الأمر.
تنتشر بكل تأكيد الأخبار المزيفة عبر الإنترنت، إضافة إلى أن المؤامرات التي لا تستند إلى أي أساس تنتشر يميناً ويساراً. ولكن كثيراً ما يحدث هذا، فالمقالات كمقالي المذكور على PropOrNot(واعتباره مصدراً أصيلاً للأخبار الزائفة!)، تصنف أنها دعاية، وفقاً لما يصفه نوريكاس بكل بساطة بأنه “استخدام التهكم باعتبارها آلية دفاعية” من قبل المنظمات الإخبارية، التي ترتكب أخطاءً بنشرها للأخبار الزائفة، كما فعلت واشنطن بوست بنشرها للقائمة السوداء التي أعدتها PropOrNot، واعتباره سبق صحفي”.
يجادل ميكي هاف، مدير منظمة Project Censored الموجودة في كاليفورنيا، قائلاً: “ما تحاول الحكومة ومؤسسات الإعلام القيام به، بمساعدة كبرى شركات الإنترنت، هو إغلاق المواقع الإخبارية البديلة التي تشكك في الموقف التوافقي للإعلام حول القضايا”.
تهديد كبير للإعلام الإلكتروني
يشكل هذا تهديداً لأي منظمة أخبار إلكترونية، بما في ذلك هذه المنظمة، التي تعتمد على الفرص المتساوية في استخدام الإنترنت وفي سرعات التحميل. وبالفعل، يوجه هاف اتهامات، ويقول إن بعض التقارير تشير إلى أن فايسبوك يبطّئ من سرعة مواقع محددة، حين تكون لديها روابط مرتبطة بمنصته، في استجابة مضللة لاتهامات وُجهت إلى موقع التواصل الاجتماعي، المعروف بأنه باع مساحات إعلانية إلى منظمات مرتبطة بالحكومة الروسية، ومتهمة بمحاولة التأثير على الانتخابات الرئاسية، التي أُجريت في تشرين الثاني (نوفمبر).
إن نهاية حيادية الإنترنت، التي تتمثل في أن تكون الفرص متساوية في الحصول على إنترنت ذي سرعة عالية للتصفح والتحميل مكفولةً للجميع، تتعرض الآن إلى هجوم من قبل إدارة ترامب وهيئة الاتصالات الفيدرالية، والكونغرس، الذي يقوده الجمهوريون، ما سيسهّل كثيراً إغلاق هذه المنصات الإعلامية البديلة.
تكمن الإجابة الحقيقية في التأكيد على أن يكون قراء ومتابعو جميع أنواع وسائل الإعلام، الرئيسية والبديلة، مستهلكين انتقاديين للأخبار. لا يعني هذا أن ننظر إلى المقالات بنظرة نقدية وحسب، بما في ذلك هذا المقال، ولكن أن نتصفح مصادر عديدة للمعلومات عند الاطلاع على الموضوعات الهامة. فالاعتماد فقط على “نيويورك تايمز” أو “واشنطن بوست”، أو “فوكس نيوز” أو “الإذاعة الوطنية العامة”، سيضر باطلاعكم على المعلومات، لن تكونوا غير مطلعين، بل مطلعين على معلوماتٍ خاطئة. وحتى إذا قرأتم كلاً من الصحيفتين، وشاهدتم كلاً من الشبكتين، في الغالب لن تحصلوا على النسخة الكاملة من الحقيقة.
ولنحصل على الحقيقة، نحتاج أن نفحص أيضاً مصادر الأخبار البديلة، سواء اليمينية أو اليسارية. ونحتاج إلى إبقاء التمييز النقدي بين الرؤى غير التقليدية أو غير الشائعة، وبين الأكاذيب الصارخة والحملات الدعائية. فمن دون مثل هذا التمييز والحرية في اتخاذ مثل هذه القرارات بأنفسنا، سيكون من المستحيل صيانة الديمقراطية.
هذا المقال مترجم عن موقعSalon
لقراءة المقال بالإنكليزية على الرابط التالي.
[video_player link=””][/video_player]
"درج"
آخر القصص

بين دراكولا الأرستقراطي وهمجية “إيجيبت”… ظلال السينما تكشف فوضى المجتمع المصري

هل غادر بشار الأسد القصر الجمهوري فعلاً؟

التشبّت بالحياة خيار الغزيين الوحيد

مَن وقّع على الوصاية الأميركية على مطار بيروت؟
