لم يتوقف الهجوم ضد الفنانة المصرية منى زكي وفيلم “أصحاب ولا أعز” منذ بدء عرضه على منصة “نتفلكس” قبل أيام قليلة، بدأ بمطالبات العضو البرلماني المصري مصطفى بكري بمنع عرض المحتوى الفني لشركة نتفلكس في مصر “لأنها تهدد قيم الأسرة المصرية”، ولحقه المحامي بالنقض أيمن محفوظ برفع دعوى قضائية ضد وزارة الثقافة المصرية وهيئة الرقابة على المصنفات الفنية، للمطالبة بعدم عرض الفيلم جماهيرياً “لأنه يروج للمثلية الجنسية”.
أخذت الفنانة منى زكي نصيب الأسد في الهجوم، وهنا علامة أساسية كونها مصرية قامت بدور تشرب خلاله النبيذ وتدخن السجائر وتنزع رداءها الداخلي بعيداً من الكاميرا، وكأنها “باعت فنها النظيف وبراءتها” لشركة “نتفلكس ولم تنتصر لقيم مجتمعها المحافظ!
ما أثار حفيظة مهاجمي الفيلم أيضاً دور الصديق مثلي الجنس، الذي ظهر ودوداً ومحبوباً بل وضحية عدم تقبل أصدقائه المقربين ميوله الجنسية، لكن حراس الأخلاق عند الجمهور المصري والعربي لا يستوعبون المثلي سوى في صورة شيطانية أو كأضحوكة، بل ويرتعدون من ألوان قوس القزح إذا ظهرت علانية، مثلما ارتعد اللاعب المصري محمد أبو تريكة من أساور الرينبو في أيدي لاعبي الدوري الإنكليزي وشن حملة مقاطعة ضدهم.
تدور أحداث الفيلم حول مجموعة من سبعة أصدقاء يجتمعون على العشاء، ويقررون أن يلعبوا لعبة حيث يضع الجميع هواتفهم المحمولة على طاولة العشاء، بشرط أن تكون الرسائل أو المكالمات الجديدة على مرأى ومسمع من الجميع. وسرعان ما تتحول اللعبة التي كانت في البداية ممتعة وشيقة إلى انكشاف الأسرار التي لم يكن يعرف عنها أحد بما فيهم أقرب الأصدقاء شيئاً.
ما يجعل من الهجوم على الفيلم أضحوكة أن الفيلم الأصلي perfect strangers عُرض في مهرجان القاهرة السينمائي عام 2016، وحصد جائزة أفضل سيناريو، وجائزة الهرم الذهبي لأفضل فيلم، ثم طُرح في السينمات العامة المصرية ولاقى إقبالاً ملحوظاً قبل تحويله إلى نسخة عربية و16 نسخة أخرى حول العالم، كما أن النسخة العربية من الفيلم معروضة لمشتركي منصة “نتفليكس” بشكل مدفوع ولم تعرض بعد في السينمات العامة.
يمكن تفسير حالة الهياج غير المنطقية ضد الفيلم في مصر وتالياً في مجتمعات عربية أخرى بأنها نتاج حالة هوس عام بالإنكار، وادعاء مزعوم بأن أي مشكلات اجتماعية يمكن أن تحدث في العالم كله، لكنها لا تحدث في مصر والمنطقة العربية، وأي تلميح بحدوثها هو تجريح في الشوفينية المحلية التي تزعم نقاء وعفة غير حقيقية، حالة يمكن تلخيصها في “متلازمة الضفدع المغلي”، وهي إنكار الضفدع النار المشتعلة تحت الإناء، فبتكيفه معها لن ينتبه لوصول المياه لدرجة الغليان المميتة ووقتها لا فر للقفز أو النجاة من الهلاك.
يتجاهل كثيرون تبعات الختان الذي شوّه أجساد وحياة ملايين الفتيات والنساء وقتل كثيرات منهن، ينكر كثيرون في مصر الخيانات الزوجية، برغم ما تمتلئ به صفحات الحوادث اليومية من أخبارها، ينكرون تفكك الأسر وعنفها اليومي، برغم حوادث القتل بين أفراد العائلة الواحدة، ينكرون العلاقات الجنسية قبل الزواج والاغتصاب وزنا المحارم برغم أعداد الرضع مجهولي النسب في دور الرعاية الطبية والملاجئ، ينكرون حتى فقرهم ويتكيفون معه! وهو ما حدث في موجة الهجوم على فيلم “ريش”. ويبدو أن المجتمع المصري سيظل يتكيف مع حالة الإنكار حتى يصل لدرجة غليان لن يستطيع الهرب منها ومن هلاكها.
يشعر كثيرون بالضعف وعدم القدرة على مواجهة كوارثهم بعد خطابات سياسية وإعلامية واقتصادية حاصرتهم في الفترة الأخيرة، بأنهم كانوا سيغرقون المركب حين كان لهم صوت ويد في التغيير، وعليهم أن يجلسوا خلف ألواح زجاجية ليتابعوا ويتحدثوا كأبواق أو يختار كل واحد فقاعة ويختزل فيها عالمه بعدما تضاءلت مساحات الأمان.
ومن داخل الفقاعات يحدث أن يفزع الجمهور لسماع كلمة “كوندوم” في الفيلم، ويندهش من معاتبة أب زوجته لأنها فتشت في حقيبة ابنته دون إذنها، ويدعم ابنته في خوضها علاقة عاطفية وجنسية طالما اختارتها بإرادتها، في واقع يستسلم فيه آباء كثيرون للابتزاز الاجتماعي على حساب حقوق بناتهم.
ربما تنتهي أزمة فيلم “أصحاب ولا أعز” في مصر ويتم عرضه في السينما بعد مراجعة مقص الرقيب بعض العبارات، لكن لن ينتهي بسهولة اعتياد الجمهور المصري والعربي على كلمات “حجب” و”منع” و”تجريم” في ظل فضاء عام سياسي وإعلامي يستهلك هذه الكلمات بإفراط ويدرب الجمهور على استهلاكها في كل مناسبة.
إقرأوا أيضاً: