يحرص صنّاع الميديا في عالم الرياضة عموماً، وكرة القدم خصوصاً، على تقديم صورة برّاقة إلى المشاهد والمتابع، عبر المؤثرات الصوتية والبصرية، والرسائل المكثفة، من خلال الإضاءة على اللفتات الإنسانية ومناصرة القضايا ودعم المختلفين ونبذ العنصرية، وتقديم سلامة اللاعبين والجماهير على الاعتبارات الأخرى، من دون أن يدّخروا أياً من مستحدثات التكنولوجيا في التصوير والإخراج لإبهار المشاهد، وتصميم الملاعب والمنشآت الرياضية وتطوير القوانين لرفع نسب المشاهدة وتصدّر اهتمامات الرأي العام، فتصبح المسابقات الكبرى كالمونديال والأولمبياد، قبلة المشاهدين حول العالم، وتحوز على انتباه المتابعين، فهل الصورة المثالية التي تصلنا حقيقة مطلقة؟
تختبئ خلف الصورة الخلابة التي تصل إلى المشاهد/ المستهلك، معاناة وعذابات آلاف العاملين في الظل والخفاء لبناء الملاعب، وتطريز قمصان الرياضيين وأحذيتهم، وحياكة الكرات وتنظيف المنشآت، فهؤلاء لا يحصلون غالباً على أبسط حقوقهم، لكن أنينهم يخفت ويختفي خلف الضوضاء والجماهير.
كانتونا يقاطع مونديال قطر
الإمعان في الظلم اللاحق بالعاملين المنسيين في المجال الرياضي، أخرج بعض الأصوات عن صمتها في الفترة الأخيرة. آخر هذه المواقف أتت على لسان اللاعب الفرنسي إريك كانتونا نجم خط “مانشستر يونايتد” في تسعينات القرن الماضي، الذي أعلن أنه لن يشاهد مونديال 2022 في قطر، تضامناً مع آلاف العمال الذي لقوا حتفهم خلال تشييد المنشآت والملاعب، مشيراً إلى أن المال هو الهدف الرئيسي الذي جعل الفيفا تعطي قطر شرف تنظيم المونديال، وهو يتفهم أن يكون كأس العالم “بيزنيس”، لكنه أصر على مقاطعة مونديال قطر، على ما نقلت صحيفة “ذا دايلي مايل البريطانية”.
وكانت صحيفة “الغارديان” ذكرت في مقال نُشر قبل سنة تقريباً، أن أكثر من 6500 عامل أجنبي قضوا خلال بناء المنشآت الرياضية في قطر، تحضيراً للمونديال خلال السنوات العشر الماضية، معظمهم من الهند وباكستان والنيبال.
وبحسب تقرير “الغارديان”، فإن أسباب الموت تنوعت بين السقوط من ارتفاعات عالية، الاختناق وضيق التنفس ومشكلات في القلب بسبب الإرهاق الشديد، والعمل في ظروف غير آمنة وتحت شمس حارقة في بلاد تسجل معدلات حرارة مرتفعة جداً.
أجور زهيدة وجوازات سفر مصادرة
ليس خطر الموت هو ما يواجهه العمال في المنشآت الرياضية القطرية وحسب، إذ أشارت “أمنيستي” في تقرير نشر على موقعها إلى المعاناة التي يعيشها العمال الشرق آسيويون هناك، أهمها الأجور الزهيدة التي يتقاضونها لقاء عملهم، واضطرارهم للعمل لساعات طويلة في ظروف قاسية وغير آمنة، والنوم في غرف متسخة وصغيرة، حيث يقطن أكثر من ثمانية عمال في غرف لا تتسع سوى لأربعة. يتحدّث التقرير أيضاً عن الخداع الذي يتعرّض له العمال هناك، فعلى سبيل المثال يحصل عمال من النيبال على راتب شهري يساوي 190 دولاراً، مع العلم أنهم وصلوا إلى قطر مع وعود بتلقي راتب يساوي 300 دولار!
العمال ممنوعون أيضاً من مغادرة المنشآت الرياضية، تحت طائلة تغريمهم، سجنهم، أو ترحيلهم من البلاد، كما تمنع عليهم مغادرة البلاد حتى تنتهي عقودهم، أو يغيّروا عملهم، وينقل التقرير عن أحد العمال قوله إن الشركة التي يعمل فيها أخذت منه جواز سفره في يوم عمله الأول، ولم يشاهد جوازه مرة أخرى.
إقرأوا أيضاً:
دعوات لمقاطعة أولمبياد بكين
نشرت “الواشنطن بوست” دراسة بعنوان: “الانتهاكات الإنسانية تلوث المونديال والأولمبياد. حان الوقت لوقف الغسل الرياضي”، في إشارة إلى أن الأنظمة الديكتاتورية باتت تلجأ إلى استضافة الأحداث الكروية الكبرى لتبييض صورتها وتلميعها. الدراسة تحدثت عن قيام السلطات الصينية بإسكات لاعبة التنس بينغ شواي، بعدما اتهمت مسؤولاً كبيراً بالاعتداء الجنسي عليها، متهمةً لجنة الاتحاد الأولمبية بالتعاون مع بكين والتستر عن القضية، إضافة إلى غض النظر عن المعاملة غير الإنسانية التي يلقاها العمال في المنشآت الرياضية استعداداً لاستضافة بكين للأولمبياد الشتوي.
ليست هذه المرة الأولى التي تخرج تقارير عن غياب معايير السلامة في المنشآت الرياضية الصينية، فالصين اعترفت عام 2008 بوفاة ستة عمال وإصابة أربعة آخرين، خلال ترميم الاستاد الوطني، تمهيداً لاستضافة أولمبياد بكين 2008، وهو اعتراف جاء بعد محاولات إنكار عدة، قبل أن تنتشر الأخبار في الصحف العالمية، عن وفاة عمال في الاستاد الوطني، بسبب غياب معايير السلامة.
عمالة الأطفال
تشير تقارير إلى أن الأطفال والقصّر يعملون في المنشآت الرياضية، ومعامل تصنيع القمصان والكرات، بأجور زهيدة، وفي ظروف غير ملائمة، وقد بدأ تسليط الضوء على هذه القضية منذ تسعينات القرن الماضي، وخصوصاً في شرق آسيا وأميركا الوسطى. صغار يصنعون كرات غالباً لن يتمكنوا من اللعب بها، ويمضون سني طفولتهم مسجونين في معامل لا تصلها الشمس أو الهواء. وقد صدرت قوانين تمنع عمل الأطفال في المنشآت الرياضية، إلا أن الأزمة تستمر حتى اليوم، في ظل لجوء معظم شركات التجهيز الرياضية الكبرى إلى بناء معاملها في الدول الفقيرة لتوفير الأموال، ولا تخضع للرقابة اللازمة على طبيعة العمل وظروفه، وحصول العمال على حقوقهم، وحماية الأطفال من الاستغلال مقابل أجور زهيدة.
وتشير دراسات حديثة إلى تفاقم أزمة إشراك الأطفال والقصر في النشاطات الرياضية، ما يعدّ انتهاكاً صارخاً لشريعة حقوق الأطفال، خصوصاً في رياضات مثل سباق الهجن (الإبل) التي تشكل خطراً داهماً على حياتهم. وبرغم أن دولاً خليجية كالإمارات وقطر رضخت أخيراً للضغوط، وحظرت استخدام أطفال دون سن الـ15 في هذه الرياضة الخطرة، إلا أن دولاً أخرى في شمال أفريقيا وشرق آسيا إضافة إلى مناطق اخرى، لا تزال تنظّم مسابقات سباق الإبل التي يقودها فتية صغار، يتم غالباً خطفهم والإتجار بهم، وفرض نظام تجويع قاس عليهم لكي لا يتجاوز وزنهم سقفاً معيناً، ويموت الكثير منهم سحقاً تحت الهجن.
تتخوف اليونيسيف من أن يقع الأطفال بسهولة ضحية الاستغلال الجنسي والاقتصادي، في ظل انتشار ظاهرة بيع الأطفال وبخاصة في كرة القدم، برغم القوانين التي تفرض ضوابط صارمة في ما يخص توقيع العقود مع الأطفال، إذ تؤكد اليونيسيف أن هذه الإجراءات غير كافية، ولا يمكنها منع استغلال الأطفال من قبل صناع الرياضة بهدف تحقيق أرباح خيالية.
إقرأوا أيضاً: