fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

اليوم العالمي للترجمة… محنة أن تتكلّم بلسانين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

وجهٌ آخر من الترجمة، ربما يكون أقل ثقلاً وأخف وطأة، هو الترجمة الفورية لطلبات اللجوء. في هذه الحالة، تنتقل “أنا” طالب اللجوء، لتصير “أنا” المُترجِم. إذ على الأخير هنا أن يترك وراءه كلّ عامل ذاتي، وأن يتبنّى، بالمطلق، ما يحكيه الآخر “اللاجئ”، ليتم نقله إلى دائرة الهجرة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

حين تقع العين عادةً على كلمة ترجمة، يخطر في البال أنّ المقصود، غالباً، الترجمة في سياقها المعروف، أي الأدب: نقل كتاب ما من لغة إلى أخرى، أو جعل ثقافة بكاملها مفهومة، حسب تعبير أنتوني بيرجيس. 

هذا العمل، أي نقل الكلام من لسان إلى آخر، مفهوم ومعروف، يأخذ شكل المهنة أو الهواية أو الاحتراف، وله محنه وتنظيراته وتفسيراته وفلسفته الخاصة من معاجم وكتب، وهذا وجه الترجمة المثاليّ، الذي يُحتفَل به كلّ عام يوم 30 أيلول/ سبتمبر. لكنْ، للترجمة وجوه أخرى مخيفة ومرعبة، إلى حدّ أنّ مجرد معرفة أنّ إنساناً ما عمل فيها، قد يودي بحياته وحياة أحبّائه وأسرته، وتلقّيه تهديدات بالقتل والتعذيب وإراقة دمه.

ليس الحديث هنا عن المترجمين، أبطال الأدب المغمورين كما يسمّيهم بول أوستر، بل عن أبطال (في واحدة من وجهات النظر) مغمورين آخرين، عملوا كمترجمين فوريين لقوات أجنبية دخلت بلادهم، وذلك لأسباب تعنيهم. ليسوا، هذه المرة، حلفاء إيتاليو كالفينو المهمّين لأنهم يعرّفونه على العالم، إنما حلفاء لآخرين، فيما هم على الطرف الآخر، ومن وجهة نظر ثانية، موسومون كخونة وعملاء في بلادهم.

الترجمة هنا لا تخرج عن سياقها الأدبيّ وحسب، إنما عن السياق الأخلاقيّ، وتفقد – كمهنة ومصدر للعيش، كلَّ وجهٍ بريء. تكفي مثلاً، معرفة أنّ 360 مترجماً فورياً عراقياً لقوا حتفهم بين سنتي 2003 و2006، كما تمّ تسجيل 300 حالة اغتيال مستهدف للمترجمين أو عائلاتهم في أفغاتستان منذ 2014. وظلّ هذا الرقم يزداد حتّى بعد انسحاب القوات الأميركية من العراق، إذ لا يزال المترجمون الذين أهملهم “حلفاؤهم” يتلقّون تهديدات حتى اللحظة، بينما ينتظرون تأشيرات السفر.

حين تقع العين عادةً على كلمة ترجمة، يخطر في البال أنّ المقصود، غالباً، الترجمة في سياقها المعروف، أي الأدب: نقل كتاب ما من لغة إلى أخرى، أو جعل ثقافة بكاملها مفهومة، حسب تعبير أنتوني بيرجيس. 

الترجمة كوسيلة للهرب

ثمة عشرات المقالات والتقارير عن المترجمين الأفغان والعراقيين الذين عملوا مع القوات الأميركية أو البريطانية أو قوات التحالف الدولي عندما دخلت بلادهم، وتُركوا بعد خروج هذه القوات للموت والمحاكمة سواء من حركة “طالبان” في أفغانستان أو من جهات أخرى في العراق، إلى حد أنّ بريطانيا رفضت رحيل هؤلاء المترجمين الذين عملوا معها في أفغانستان إلى المملكة، معتبرة إياهم يشكلون خطراً على أمنها القومي، من دون أي توضيح آخر.

مع ذلك، حين دخلت هذه القوات إلى البلاد للمرة الأولى، لا سيما العراق، شاع في الصحف العراقية آنذاك خبر بالخط العريض مفاده “مطلوب مترجمين”. تقدم مئات من الشبان الذين يريدون تحسين واقعهم المعيشي أو واقع عائلاتهم، أو يودون الهرب من جحيمهم، وتوظفوا لدى القوات الأميركيّة من دون ضمانات، وقد قضى المترجمون في غالبيتهم  في الحملات الأمنية آنذاك.

بعد خروج القوات الأميركية من العراق، تم تسريح هؤلاء المترجمين وإنهاء خدماتهم من دون أي حماية. قلة نادرة من المحظوظين تمكنوا من الهرب إلى الولايات المتحدة، عبر تأشيرة خاصة، فيما بقي آخرون عالقين في دوامة البيروقراطية الأميركية واستكمال الأوراق ونقلها من مكان إلى آخر، ثم ضياعها بعد سنوات.

الجملة المطمئنة التي كان يسمعها المترجمون العراقيون والأفغانيون “أنت اليوم جزء من أسرة كبيرة ستحميك”، فقدت مصداقيتها شيئاً فشيئاً، وبدا أنّ هذه “الأسرة الكبيرة” تضع شروطاً تعجيزية للهروب إليها من الموت. من بين عشرات الآلاف من العراقيين، تم اختيار نسبة من المترجمين، فيما رُفض الآخرون. إلى حد أنّ الشروط التي طلبتها القوات الأميركية منهم، مثل الاتصال بشخصيات معينة مناهضة لأميركا مثلاً، استخدمتها في ما بعد سبباً لرفض استقبالهم. 

على الطرف الآخر، فإن متوسط ​​عدد الأيام التي تستغرقها الحكومة لمعالجة تأشيرة الهجرة الخاصة الأفغانية “الناجحة” حسب المفتش العام بوزارة الخارجية الأميركية هو 852 يوماً، أو نحو عامين وثلاثة أشهر. لا يشمل ذلك الوقت الذي يستغرقه المتقدمون لتقديم الأوراق وإكمال المهام الأخرى لنقل قضاياهم من إحدى درجات السلم البيروقراطي إلى المستوى الذي يليه.

أبطال وضحايا

ثمة وجهتا نظر في التعاطي مع المترجمين الذين “تعاونوا” مع القوات التي دخلت بلادهم، فواحدة تراهم أبطالاً وضحايا في آنٍ، فيما تراهم الأخرى خونة وعملاء.

قدم الطالب العراقي وسام قصي مجيد البلداوي أطروحة ماجستير، اعتبر المترجمين الفوريين فيها جنوداً مجهولين. إذ، حسب تحليله الإثنوغرافي والبيانات التي أجراها بين المترجمين المحليين: “كانوا مصدراً وفيراً ورخيصاً للوساطة اللغوية والثقافية والخدمات التي لم يكن باستطاعة القوات الأميركية القيام بها من دونهم”. وأضاف أنه “بعد فترة وجيزة من الخدمة وجدوا أنفسهم يعملون كمستشارين ثقافيين”. كان هدف البلداوي من الأطروحة تقديم دليل على أن “الشجاعة والخدمات التي قدمها هؤلاء العراقيون تؤهلهم ليكونوا أعضاء شرفاء في الولايات المتحدة، وأن تتم مكافأتهم على أنهم (جنود مجهولون) في حرب العراق”.

نشر جورج باركر في “نيويوركر” عام 2007، مقالاً بعنوان “المغدورون – العراقيون الذين وثقوا بأميركا”، وضع فيه لقاءاته مع مترجمين فوريين، ثم حوّل هذه اللقاءات إلى مسرحية بعنوان “المغدورون”.

لكن، هل اعتبرت أميركا فعلاً “المتعاونين” معها أبطالاً؟ تذكر التقارير، مثلاً، أن الجنود والضباط الأميركيين تعاملوا مع المترجمين العراقيين بدونية، معتبرينهم خونة عابرين، وكانوا يخضعونهم للتفتيش الدقيق ولا يسمحون لهم إلا بدخول أماكن محددة، كما كانوا يخضعونهم لجهاز كشف الكذب مرة سنوياً.

على الطرف الآخر، تقول الكاتبة العراقية هيفاء زنكنة، في مقال لها عام 2023، إنّ عدداً من المترجمين العراقيين وصل بهم الحد إلى التباهي بتعذيبهم المعتقلين إذا ما طلب منهم المحقق الأميركي ذلك. وهذا “ما استمعت إليه بنفسها أثناء زيارتها بغداد عام 2004” عند لقائها بشابين يعملان مترجمين. 

ووفقاً لزنكنة، فإنّ تراكم البؤس الأخلاقي جراء الحاجة الماسة إلى العمل والرغبة في الانتقام من النظام السابق وفي أن يكون المرء أميركياً، دفع إلى الالتحاق بخدمة قوات الاحتلال. وهي أسباب، غالباً، ما يتم تغييبها، لتُهيمن صورة المترجم ـ الضحية وخلطها، عمداً، بمحنة طالبي اللجوء.

 مترجمو حكايات اللجوء

وجهٌ آخر من الترجمة، ربما يكون أقل ثقلاً وأخف وطأة، هو الترجمة الفورية لطلبات اللجوء. في هذه الحالة، تنتقل “أنا” طالب اللجوء، لتصير “أنا” المُترجِم. إذ على الأخير هنا أن يترك وراءه كلّ عامل ذاتي، وأن يتبنّى، بالمطلق، ما يحكيه الآخر “اللاجئ”، ليتم نقله إلى دائرة الهجرة.

واحدة من الفرضيّات التي تبيّن حجم الضغط على ضمير المترجم هي: تخيّل أن يكون بين المترجم وطالب اللجوء (إذ قد تشاء المصادفة أن يكونا من البلد ذاته) مشكلة قديمة أو ثأر في بلدهما الأم، وعلى المترجم في هذه اللحظة أن ينقل، بحياد تام، رواية طالب اللجوء إلى اللغة التي يعرفها، من دون تواطؤ، والأهم من دون تحريف، لا سيما بالسلب.

تقول جمانة الياسري (مترجمة في المكتب الفرنسي لحماية اللاجئين وفي المحكمة الوطنية لحق اللجوء في باريس) في شهادة نصية لها “عن ترجمة قصص طالبي اللّجوء: تأمّلات في دراماتورجيا الواقع”، إنّ حكايةً ثالثة غير الحكايتين الواقعية والأرشيفية موجودة، وهي حكاية سرية تدور في عقل ولاوعي المترجم، وهو ينقل الحكاية الأرشيفية إلى لغة بلد اللجوء.

في هذه الحكاية، “تتداخل قصّة طالب اللّجوء مع ذكريات المُترجم، والإسقاطات التي يُمكن أن يقوم بها بسبب علاقته الشخصيّة بفضاءٍ جغرافيٍّ وتاريخيٍّ ينتمي إليه أيضاً، إن كان عبر الجنسيّة التي يَحملها، أم عبر اللّغة كقاسمٍ مُشتركٍ بما تُحرّكه من ذاكرةٍ جماعيّةٍ لدى المُتحدِّثين بها”.

تضيف الياسري أنّ الانسجام مع صاحب الحكاية خطرٌ جدّاً؛ لأنّه قد يولّد حالةً من التحويل والتحويل المُضادّ التي تحدث على صعيد اللاوعي بين صاحب الحكاية والمُترجم، تماماً كما قد يحدث في علم النفس بين المريض والمُعالج، وقد تصل هذه الحالة إلى حدّ التماهي، بخاصّة أنّ المُترجم يقول “أنا” عندما يتحدَّث على لسان صاحب الحكاية. وكما في علم النفس أيضاً، ينبغي للمُترجم السيطرة على مشاعره، ومقاومة رغبته في التواطؤ مع مُقدِّم الطلب؛ أي الامتناع عن مساعدته عبر إجراء تعديلاتٍ على السرد يعرف المُترجم أنّها قد تدعم طلب اللّجوء؛ لأنّ ما يقوله صاحب الحكاية؛ أي قدرته على القَصّ والإقناع وإعطاء طابعٍ شخصيٍّ للأحداث؛ هي من أهمّ العناصر التي ستجعل طلبه يجد قبولاً في دوائر اللّجوء.

 إذا نفر المُترجم من صاحب الحكاية لأنّه كشف كذبه، أو لأنّه ضاق ذرعاً من عدم قدرته على الحكي على نحوٍ واضحٍ ودقيقٍ، أو إن اختلف معه في الرأي، أو فهم أنّه من معسكر الجلّادين، سيدخل المُترجم في صراع مع نفسه لكي يُنصف بحقّ الحكاية التي ينبغي أن ينقلها بحيادٍ تامٍّ، ومن دون إطلاق أحكام قيمة عليها، ولا على صاحبها. صعوبات هذا النوع من الترجمة يختصرها لفظ “محنة”، باعتبارها “معاناة مستديمة” أو امتحان للضمير.

ينطبق ما يقوله بول ريكور في تنظيره للترجمة على هذا النوع من الترجمة أيضاً. إذ يعمد المترجم وفقاً له إلى نوع من الإنقاذ ونوع من التعويض عن الخسارة. هنا، أيضاً، يحاول مُترجِم حكاية اللجوء أن يُنقذ ما يمكن إنقاذه من الحكاية، وتقف في وجهه ضرورة أن يكون حيادياً. 

يفقد المترجم في تلك الحالة قدرته على ليّ اللغة واللعب بها، يفقد إمكاناته اللغويّة التي تمنحه القدرة – في الحالة الطبيعية – على التفخيم البلاغي والزخرفة وغيرها. وكذلك، يمكن فهم “التعويض عن الخسارة” هنا بأنّ المترجم يودّ لو أنه يعوّض خسارته الشخصية، في تحقيقه طموح اللاجئ. ويودّ لو أنه يعوّض الناقص من حكاية لجوئه، حين رواها للمرة الأولى، وربما كان أمامه مترجم (مثله الآن) ينقل حكايته إلى لغة بلد اللجوء.

ثمة مفارقة، تشبه أيضاً المفارقة في الترجمة الأدبية، أنّ كلَي الحكايتين: حكاية اللاجئ وحكاية المترجم، يجب قياسهما من خلال ترجمة ثالثة غير موجودة. المشكلة الكامنة هنا، هي تماماً مثلها في الأدب: أن نقول الشيء نفسه أو نعتقد أننا نقول الشيء نفسه لكن بطريقتين مختلفتين، أو بلغتين. 

حالة الإنقاذ والتعويض عن الخسارة هي التي تُثقل على المُترجِم وضميره. إنه يريد أن يُنقذ من نص – حكاية اللاجئ أكبر قدر ممكن، لكن بحياد، ويريد أن يعوّض خسارته، خسارة اللاجئ، وخسارته هو. وبما أنّ “الأنا” هنا تصير واحدة، فإنّ الخسارتين تصبحان خسارة واحدة.

05.10.2023
زمن القراءة: 7 minutes

وجهٌ آخر من الترجمة، ربما يكون أقل ثقلاً وأخف وطأة، هو الترجمة الفورية لطلبات اللجوء. في هذه الحالة، تنتقل “أنا” طالب اللجوء، لتصير “أنا” المُترجِم. إذ على الأخير هنا أن يترك وراءه كلّ عامل ذاتي، وأن يتبنّى، بالمطلق، ما يحكيه الآخر “اللاجئ”، ليتم نقله إلى دائرة الهجرة.

حين تقع العين عادةً على كلمة ترجمة، يخطر في البال أنّ المقصود، غالباً، الترجمة في سياقها المعروف، أي الأدب: نقل كتاب ما من لغة إلى أخرى، أو جعل ثقافة بكاملها مفهومة، حسب تعبير أنتوني بيرجيس. 

هذا العمل، أي نقل الكلام من لسان إلى آخر، مفهوم ومعروف، يأخذ شكل المهنة أو الهواية أو الاحتراف، وله محنه وتنظيراته وتفسيراته وفلسفته الخاصة من معاجم وكتب، وهذا وجه الترجمة المثاليّ، الذي يُحتفَل به كلّ عام يوم 30 أيلول/ سبتمبر. لكنْ، للترجمة وجوه أخرى مخيفة ومرعبة، إلى حدّ أنّ مجرد معرفة أنّ إنساناً ما عمل فيها، قد يودي بحياته وحياة أحبّائه وأسرته، وتلقّيه تهديدات بالقتل والتعذيب وإراقة دمه.

ليس الحديث هنا عن المترجمين، أبطال الأدب المغمورين كما يسمّيهم بول أوستر، بل عن أبطال (في واحدة من وجهات النظر) مغمورين آخرين، عملوا كمترجمين فوريين لقوات أجنبية دخلت بلادهم، وذلك لأسباب تعنيهم. ليسوا، هذه المرة، حلفاء إيتاليو كالفينو المهمّين لأنهم يعرّفونه على العالم، إنما حلفاء لآخرين، فيما هم على الطرف الآخر، ومن وجهة نظر ثانية، موسومون كخونة وعملاء في بلادهم.

الترجمة هنا لا تخرج عن سياقها الأدبيّ وحسب، إنما عن السياق الأخلاقيّ، وتفقد – كمهنة ومصدر للعيش، كلَّ وجهٍ بريء. تكفي مثلاً، معرفة أنّ 360 مترجماً فورياً عراقياً لقوا حتفهم بين سنتي 2003 و2006، كما تمّ تسجيل 300 حالة اغتيال مستهدف للمترجمين أو عائلاتهم في أفغاتستان منذ 2014. وظلّ هذا الرقم يزداد حتّى بعد انسحاب القوات الأميركية من العراق، إذ لا يزال المترجمون الذين أهملهم “حلفاؤهم” يتلقّون تهديدات حتى اللحظة، بينما ينتظرون تأشيرات السفر.

حين تقع العين عادةً على كلمة ترجمة، يخطر في البال أنّ المقصود، غالباً، الترجمة في سياقها المعروف، أي الأدب: نقل كتاب ما من لغة إلى أخرى، أو جعل ثقافة بكاملها مفهومة، حسب تعبير أنتوني بيرجيس. 

الترجمة كوسيلة للهرب

ثمة عشرات المقالات والتقارير عن المترجمين الأفغان والعراقيين الذين عملوا مع القوات الأميركية أو البريطانية أو قوات التحالف الدولي عندما دخلت بلادهم، وتُركوا بعد خروج هذه القوات للموت والمحاكمة سواء من حركة “طالبان” في أفغانستان أو من جهات أخرى في العراق، إلى حد أنّ بريطانيا رفضت رحيل هؤلاء المترجمين الذين عملوا معها في أفغانستان إلى المملكة، معتبرة إياهم يشكلون خطراً على أمنها القومي، من دون أي توضيح آخر.

مع ذلك، حين دخلت هذه القوات إلى البلاد للمرة الأولى، لا سيما العراق، شاع في الصحف العراقية آنذاك خبر بالخط العريض مفاده “مطلوب مترجمين”. تقدم مئات من الشبان الذين يريدون تحسين واقعهم المعيشي أو واقع عائلاتهم، أو يودون الهرب من جحيمهم، وتوظفوا لدى القوات الأميركيّة من دون ضمانات، وقد قضى المترجمون في غالبيتهم  في الحملات الأمنية آنذاك.

بعد خروج القوات الأميركية من العراق، تم تسريح هؤلاء المترجمين وإنهاء خدماتهم من دون أي حماية. قلة نادرة من المحظوظين تمكنوا من الهرب إلى الولايات المتحدة، عبر تأشيرة خاصة، فيما بقي آخرون عالقين في دوامة البيروقراطية الأميركية واستكمال الأوراق ونقلها من مكان إلى آخر، ثم ضياعها بعد سنوات.

الجملة المطمئنة التي كان يسمعها المترجمون العراقيون والأفغانيون “أنت اليوم جزء من أسرة كبيرة ستحميك”، فقدت مصداقيتها شيئاً فشيئاً، وبدا أنّ هذه “الأسرة الكبيرة” تضع شروطاً تعجيزية للهروب إليها من الموت. من بين عشرات الآلاف من العراقيين، تم اختيار نسبة من المترجمين، فيما رُفض الآخرون. إلى حد أنّ الشروط التي طلبتها القوات الأميركية منهم، مثل الاتصال بشخصيات معينة مناهضة لأميركا مثلاً، استخدمتها في ما بعد سبباً لرفض استقبالهم. 

على الطرف الآخر، فإن متوسط ​​عدد الأيام التي تستغرقها الحكومة لمعالجة تأشيرة الهجرة الخاصة الأفغانية “الناجحة” حسب المفتش العام بوزارة الخارجية الأميركية هو 852 يوماً، أو نحو عامين وثلاثة أشهر. لا يشمل ذلك الوقت الذي يستغرقه المتقدمون لتقديم الأوراق وإكمال المهام الأخرى لنقل قضاياهم من إحدى درجات السلم البيروقراطي إلى المستوى الذي يليه.

أبطال وضحايا

ثمة وجهتا نظر في التعاطي مع المترجمين الذين “تعاونوا” مع القوات التي دخلت بلادهم، فواحدة تراهم أبطالاً وضحايا في آنٍ، فيما تراهم الأخرى خونة وعملاء.

قدم الطالب العراقي وسام قصي مجيد البلداوي أطروحة ماجستير، اعتبر المترجمين الفوريين فيها جنوداً مجهولين. إذ، حسب تحليله الإثنوغرافي والبيانات التي أجراها بين المترجمين المحليين: “كانوا مصدراً وفيراً ورخيصاً للوساطة اللغوية والثقافية والخدمات التي لم يكن باستطاعة القوات الأميركية القيام بها من دونهم”. وأضاف أنه “بعد فترة وجيزة من الخدمة وجدوا أنفسهم يعملون كمستشارين ثقافيين”. كان هدف البلداوي من الأطروحة تقديم دليل على أن “الشجاعة والخدمات التي قدمها هؤلاء العراقيون تؤهلهم ليكونوا أعضاء شرفاء في الولايات المتحدة، وأن تتم مكافأتهم على أنهم (جنود مجهولون) في حرب العراق”.

نشر جورج باركر في “نيويوركر” عام 2007، مقالاً بعنوان “المغدورون – العراقيون الذين وثقوا بأميركا”، وضع فيه لقاءاته مع مترجمين فوريين، ثم حوّل هذه اللقاءات إلى مسرحية بعنوان “المغدورون”.

لكن، هل اعتبرت أميركا فعلاً “المتعاونين” معها أبطالاً؟ تذكر التقارير، مثلاً، أن الجنود والضباط الأميركيين تعاملوا مع المترجمين العراقيين بدونية، معتبرينهم خونة عابرين، وكانوا يخضعونهم للتفتيش الدقيق ولا يسمحون لهم إلا بدخول أماكن محددة، كما كانوا يخضعونهم لجهاز كشف الكذب مرة سنوياً.

على الطرف الآخر، تقول الكاتبة العراقية هيفاء زنكنة، في مقال لها عام 2023، إنّ عدداً من المترجمين العراقيين وصل بهم الحد إلى التباهي بتعذيبهم المعتقلين إذا ما طلب منهم المحقق الأميركي ذلك. وهذا “ما استمعت إليه بنفسها أثناء زيارتها بغداد عام 2004” عند لقائها بشابين يعملان مترجمين. 

ووفقاً لزنكنة، فإنّ تراكم البؤس الأخلاقي جراء الحاجة الماسة إلى العمل والرغبة في الانتقام من النظام السابق وفي أن يكون المرء أميركياً، دفع إلى الالتحاق بخدمة قوات الاحتلال. وهي أسباب، غالباً، ما يتم تغييبها، لتُهيمن صورة المترجم ـ الضحية وخلطها، عمداً، بمحنة طالبي اللجوء.

 مترجمو حكايات اللجوء

وجهٌ آخر من الترجمة، ربما يكون أقل ثقلاً وأخف وطأة، هو الترجمة الفورية لطلبات اللجوء. في هذه الحالة، تنتقل “أنا” طالب اللجوء، لتصير “أنا” المُترجِم. إذ على الأخير هنا أن يترك وراءه كلّ عامل ذاتي، وأن يتبنّى، بالمطلق، ما يحكيه الآخر “اللاجئ”، ليتم نقله إلى دائرة الهجرة.

واحدة من الفرضيّات التي تبيّن حجم الضغط على ضمير المترجم هي: تخيّل أن يكون بين المترجم وطالب اللجوء (إذ قد تشاء المصادفة أن يكونا من البلد ذاته) مشكلة قديمة أو ثأر في بلدهما الأم، وعلى المترجم في هذه اللحظة أن ينقل، بحياد تام، رواية طالب اللجوء إلى اللغة التي يعرفها، من دون تواطؤ، والأهم من دون تحريف، لا سيما بالسلب.

تقول جمانة الياسري (مترجمة في المكتب الفرنسي لحماية اللاجئين وفي المحكمة الوطنية لحق اللجوء في باريس) في شهادة نصية لها “عن ترجمة قصص طالبي اللّجوء: تأمّلات في دراماتورجيا الواقع”، إنّ حكايةً ثالثة غير الحكايتين الواقعية والأرشيفية موجودة، وهي حكاية سرية تدور في عقل ولاوعي المترجم، وهو ينقل الحكاية الأرشيفية إلى لغة بلد اللجوء.

في هذه الحكاية، “تتداخل قصّة طالب اللّجوء مع ذكريات المُترجم، والإسقاطات التي يُمكن أن يقوم بها بسبب علاقته الشخصيّة بفضاءٍ جغرافيٍّ وتاريخيٍّ ينتمي إليه أيضاً، إن كان عبر الجنسيّة التي يَحملها، أم عبر اللّغة كقاسمٍ مُشتركٍ بما تُحرّكه من ذاكرةٍ جماعيّةٍ لدى المُتحدِّثين بها”.

تضيف الياسري أنّ الانسجام مع صاحب الحكاية خطرٌ جدّاً؛ لأنّه قد يولّد حالةً من التحويل والتحويل المُضادّ التي تحدث على صعيد اللاوعي بين صاحب الحكاية والمُترجم، تماماً كما قد يحدث في علم النفس بين المريض والمُعالج، وقد تصل هذه الحالة إلى حدّ التماهي، بخاصّة أنّ المُترجم يقول “أنا” عندما يتحدَّث على لسان صاحب الحكاية. وكما في علم النفس أيضاً، ينبغي للمُترجم السيطرة على مشاعره، ومقاومة رغبته في التواطؤ مع مُقدِّم الطلب؛ أي الامتناع عن مساعدته عبر إجراء تعديلاتٍ على السرد يعرف المُترجم أنّها قد تدعم طلب اللّجوء؛ لأنّ ما يقوله صاحب الحكاية؛ أي قدرته على القَصّ والإقناع وإعطاء طابعٍ شخصيٍّ للأحداث؛ هي من أهمّ العناصر التي ستجعل طلبه يجد قبولاً في دوائر اللّجوء.

 إذا نفر المُترجم من صاحب الحكاية لأنّه كشف كذبه، أو لأنّه ضاق ذرعاً من عدم قدرته على الحكي على نحوٍ واضحٍ ودقيقٍ، أو إن اختلف معه في الرأي، أو فهم أنّه من معسكر الجلّادين، سيدخل المُترجم في صراع مع نفسه لكي يُنصف بحقّ الحكاية التي ينبغي أن ينقلها بحيادٍ تامٍّ، ومن دون إطلاق أحكام قيمة عليها، ولا على صاحبها. صعوبات هذا النوع من الترجمة يختصرها لفظ “محنة”، باعتبارها “معاناة مستديمة” أو امتحان للضمير.

ينطبق ما يقوله بول ريكور في تنظيره للترجمة على هذا النوع من الترجمة أيضاً. إذ يعمد المترجم وفقاً له إلى نوع من الإنقاذ ونوع من التعويض عن الخسارة. هنا، أيضاً، يحاول مُترجِم حكاية اللجوء أن يُنقذ ما يمكن إنقاذه من الحكاية، وتقف في وجهه ضرورة أن يكون حيادياً. 

يفقد المترجم في تلك الحالة قدرته على ليّ اللغة واللعب بها، يفقد إمكاناته اللغويّة التي تمنحه القدرة – في الحالة الطبيعية – على التفخيم البلاغي والزخرفة وغيرها. وكذلك، يمكن فهم “التعويض عن الخسارة” هنا بأنّ المترجم يودّ لو أنه يعوّض خسارته الشخصية، في تحقيقه طموح اللاجئ. ويودّ لو أنه يعوّض الناقص من حكاية لجوئه، حين رواها للمرة الأولى، وربما كان أمامه مترجم (مثله الآن) ينقل حكايته إلى لغة بلد اللجوء.

ثمة مفارقة، تشبه أيضاً المفارقة في الترجمة الأدبية، أنّ كلَي الحكايتين: حكاية اللاجئ وحكاية المترجم، يجب قياسهما من خلال ترجمة ثالثة غير موجودة. المشكلة الكامنة هنا، هي تماماً مثلها في الأدب: أن نقول الشيء نفسه أو نعتقد أننا نقول الشيء نفسه لكن بطريقتين مختلفتين، أو بلغتين. 

حالة الإنقاذ والتعويض عن الخسارة هي التي تُثقل على المُترجِم وضميره. إنه يريد أن يُنقذ من نص – حكاية اللاجئ أكبر قدر ممكن، لكن بحياد، ويريد أن يعوّض خسارته، خسارة اللاجئ، وخسارته هو. وبما أنّ “الأنا” هنا تصير واحدة، فإنّ الخسارتين تصبحان خسارة واحدة.

05.10.2023
زمن القراءة: 7 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية