انقضى الشهر الأول على عودتنا من “التهجير”، وأنا أحاول أن أحصل على دور عند معلم الزجاج والألمنيوم… منذ يومين حصلت المعجزة و”شرّف” المعلم العتيد على بيتي، دوّن القياسات على أجندة العمل بقلم رصاص صغير ركّزه خلف أذنه، ووعدني ببدء العمل من الغد…
خلال هذه الفترة العصيبة من عمري “وشو قالوا يا عمر حلو وما ذقتك”، اشتغلتُ مثل جرافة جبارة، لأتخلص من الردم والزجاج وغبرتهما والتراب والحشرات والديدان والفئران وبعض أغراض المنزل وأثاثه، حتى بدا بعدها المنزل فارغاً بارداً لا يلوي على شيء!
كنت قد استعرت أقفاصاً بلاستيكية من عند جاري الخضرجي، وصرت أضع فيها كل ما يجب التخلص منه، أملأ القفص إلى الحد الذي يظل بإمكاني حمله، وأنتعه على كتفي، وأهبط به من الطابق الثاني، إلى المكب الذي اعتمدناه في الحي لكبّ ما أتلفته الحرب في بيوتنا…
على مدى أكثر من ثلاثين يوماً، كنت أنهض “قبل الضو”، أنتعل حذاء رياضياً وأرتدي ثياباً مريحة وقفازات وأسدّ أنفي وفمي بكمامة.
كانت روائح الديدان الصاعدة من البراد (الثلاجة) والعفن الأسود الذي احتل خزانة المونة، وبقايا الصراصير والحشرات النافقة في زوايا البيت، كفيلة بجعل الديناصورات تنقرض مرة أخرى، لحظة تنشّقها، لكنني قاومت كما لو أنني ديناصورة تحب الحياة.
في يوم واحد، أنزلت عشرة صناديق ملأى بالزجاج، أي هبطت الدرج وصعدته عشرين مرة، لم أعدّ المرات الأخرى بعدها… قبله، كنت قد أمضيت يوماً آخر كاملاً، أُزيل قطع الزجاج التي كانت لا تزال عالقة بإطارات الألمينيوم. بداية، أقبع بالسكين بقايا المعجون الذي يثبتها، ثم أخلع بريم المطاط على مهل، فتسقط قطعة الزجاج تلقائياً بين يدي، الأمر لم يكن سهلاً بالمرة، بخاصة إذا كانت قطعة الزجاج كبيرة، فذلك يستدعي رشاقة وسرعة في التصرف، لم أعهدهما في سلوكي، لكن “الحاجة أم الاختراع”، كنت قد ارتديت قفازات جلدية سميكة وانتعلت بوطاً عالياً، تحسباً لحادث مفاجئ…
لم أتفاجأ بشيء، إلا بقدرتي الفائقة على “العمل تحت الضغط”، لم أعهد نفسي قادرة على تنفيذ الأشغال الشاقة بجلَد محارب عتيق، ومن دون استراحة، من دون تذمر، وبغياب أدنى رغبة في الشكوى. لكن ذلك لم يمنعني من أن أنفعل على صديقي، وأن أُقفل الهاتف بوجهه، حين ارتأى أن يحدثني وسط هذه المعمعة، أن سبب مآسينا المستمرة هو تخلّفنا، لأننا شعوب تركن إلى الرغبة، بينما لا تكلّ شعوب أوروبا المتفوقة علينا، من السعي إلى امتلاك الإرادة، ثم أعاود الاتصال به بعد يومين لأؤنبه وأحمّل تفكيره الدوني الانبطاحي، مسؤولية ما حلّ بي شخصياً، من شقاء وإجهاد نفسي وجسدي.
عند الخامسة فجراً بتوقيت غرينتش، طلبت رقمه: “ألو، صديقي العزيز، طز فيك وبأوروبا وشعوبها وأنظمتها وحرياتها وثرواتها الإنسانية والفكرية والمادية… أتعرف لماذا نحن متخلفون؛ كما تدّعي، لأننا نمضي أعمارنا ننظف وسخكم…
أنا منذ ثلاثين يوماً مثلاً، توقفت عن القراءة والكتابة ورؤية الأصدقاء والنوم والطبخ وعن فعل أي شي مفيد، وانصرفت فقط إلى تنظيف البيت من آثار الحرب ـ حربكم أنتم، أي امرأة أوروبية في مثل سني تستطيع تحمّل كل هذه المحن من دون أن تصاب بالجنون أو تفكر بالانتحار؟أو تظل قادرة على الإنتاج؟ عن أي إرادة تحدثني؟”.
كانت إجابته باردة كما توقعت… نصحني بأن أهدأ وأكمل عملي بحبّ، وبدل أن أبحث عن جدران لأضرب رأسي بها، عليّ أن أضاعف من تجرّع كؤوس الصبر، لأتحمل عيشتي في هذه الجهة من العالم.
ليس هناك من هو أشجع من امرأة، وحيدة، منكوبة، في قلبها ضوء يرتجف، لكنها لا تمل من احتضانه كي يقودها الى العثور على فتحة للنجاة في آخر النفق المظلم.
بعد قليل من التفكير، قررت الاستسلام لا بل الانهزام أمام مفهومه عن الرغبة والإرادة. هذه ليست المرة الأولى التي أسحب فيها جيوشي قبل بداية الهجوم، فلقد علمتني الحياة، ألا جدوى من خوض المعارك طالما النتيجة محسومة لصالح العقل لا المشاعر…
علمتني الحياة أيضاً، أن أتآلف مع فكرة أن أمثالي لا يذوقون طعم النصر، وأن محاولاتهم مكللة دوماً بتاج من الهزائم النكراء. المواقف التي احتجت فيها إلى جرعة بسيطة من النصر المعنوي؛على قلتها، ظلت ضمن دائرة التمني.
لطالما كان تحقيق النصر في حياتي، مثل ورقة يانصيب مكتوب فيها “جرب حظك مرة أخرى”، وكم كان هذا محبطاً ومتعباً ومضنياً، إلى الحد الذي بات فيه الانهزام موقفاً عقلانياً.
في صباح اليوم التالي، قمت إلى أشغالي الشاقة المؤبدة، ورحت أحدث نفسي بصوت عالٍ، كعادتي: عندما تستيقظين ولا ترغبين في النهوض، لأن ما ينتظرك أقوى من طاقتك على التحمّل، قولي: يجب أن أنهض لأن الأعباء ثقيلة والمهمة صعبة والحياة جائرة، ولكن ليس هناك مفر، فالإنسان يستطيع أن يصنع حياة آمنة، حتى لو كان في أعماق نفسه عطب لا يمكن إصلاحه، اسمه الهزيمة، حتى حين تلاحقه الحرب والتهجير من ساعة ولادته، حتى حين يكرر الخطأ نفسه مرة تلو الأخرى، حتى حين يقف ضعيفاً خائراً بلا حول ولا قوة، لا يعرف كيف يكمل طريقه بهذا الثقل المتراكم من الشقاء.
وقررت أن ما أقوم به، لا يهم أن يكون نصراً أو رغبة فيه، طالما أنه محاولة شجاعة للخروج من أهوال الحرب وتبعاتها، وأن التنظيف ورفع الردم والزجاج، والعيش في مدينة شبه مدمرة فاقدة كل ما يمكن أن يجعل الحياة عادية، والقدرة على السكن في بيت بلا شبابيك ولا أبواب في عز كانون، ومواجهة الظروف الصعبة التي يمكن أن يلقيها الواقع، بلا خوف، هي إرادة، وإرادة شجاعة أيضاً، مثل إرادة أصحابنا الأوروبيين!
ثمة أنواع من الشجاعة ترتبط بالروح، وليس بالمواقف فقط. هذا النوع من الشجاعة، هو قدرة إنسانية خارقة وخاصة.
ليس هناك من هو أشجع من امرأة، وحيدة، منكوبة، في قلبها ضوء يرتجف، لكنها لا تمل من احتضانه كي يقودها الى العثور على فتحة للنجاة في آخر النفق المظلم. ليس هناك من هو أشجع من امرأة، قادرة على التعايش مع جروح الخسران والنكران والخذلان بأقل تعبير عن الأسف. ليس هناك أكثر شجاعة وعناداً وصلابة من امرأة في النصف الآخر من العمر، تحارب من شروق الشمس حتى غروبها، لتعبر حدود تجربتها الإنسانية نحو الانعتاق.
ولأنني شجاعة، أعترف أن الحرب هزمتني معنوياً ونفسياً، وهذا ليس عيباً، الهزيمة الإنسانية هي العيب. نساء الأنقاض اللواتي أخرجن ألمانيا من تحت الركام بعد الحرب العالمية الثانية وعمّرنها، وساهمن في جعلها دولة صناعية، فشلن في بنائها إنسانياً، لذلك هن لسن شجاعات بالمعنى الإنساني، أليس في مواقف حفيدتهن وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك من الحرب الإسرائيلية على غزة معنى لذلك؟
الإصرار على العودة بعد الحرب إرادة شجاعة، كذلك رفع ركام البيوت، أما التعزيل فهو متعة حقيقية، وبراعة تُظهر وجهنا الآخر الجميل. في كل مرة بعدما أغسل أو أشطف أو أرتب البيت، أشكر الحياة أنها لم تدع الحرب تفقدني القدرة على صناعة الجمال.
إقرأوا أيضاً: