قد تكون الانتخابات البرلمانية التي شهدتها إيران عام 2016 والتي فاز بها المعسكر الإصلاحي تحت قيادة الرئيس حسن روحاني، آخر انتخابات يشارك فيها الإيرانيون بكثافة، أملاً بالتغيير أو بالتأثير في عملية صناعة القرار. وقتها حصد الإصلاحيون المقاعد الثلاثين المخصصة للعاصمة طهران، وكما جرت العادة، تلعب هذه المقاعد دور اختبار للتوجه العام للبلاد، فالفريق الذي يفوز فيها غالباً ما يفوز في الانتخابات الرئاسية بعدها ويسيطر إلى حد ما على أجواء السياسة الخارجية للبلاد. طبعاً تبقى الكلمة الفصل للمرشد في كل شيء. وكان الإصلاحيون يومها وقعوا الاتفاق النووي مع إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، وبدأت البلاد تحصد نتائج ذلك التوقيع على الصعيد الاقتصادي، كإزالة العقوبات لانفتاح الأسواق العالمية وفرص التجارة بوجهها. فاز بعدها الرئيس روحاني بولاية رئاسية ثانية وبنسبة مشاركة مرتفعة في الانتخابات، قدرت بـ73 في المئة.
إلا أن شهر العسل بين الإيرانيين والأميركيين لم يدم طويلاً. فقد غادر الرئيس أوباما البيت الأبيض عام 2016 ليحل محله دونالد ترامب، أكثر الرؤساء الجدليين في تاريخ الولايات المتحدة وأكثرهم تشدداً في الملف الإيراني. أطلق ترامب وعوداً كثيرة خلال حملته الانتخابية واعتبر البعض أن تحقيقها قد يكون مستحيلاً خصوصاً لشدة تعقيد ديناميكية الإدارة الأميركية وتوزع نقاط القوة داخل المؤسسات، ما يصعب عملية اتخاذ قرارات أحادية الجانب حتى ولو من قبل الرئيس نفسه. إلا أن ذلك كله لم يسعف إيران، وبعد عامين على انتخابه، أعلن ترامب انسحابه من الاتفاق النووي في أيار/ مايو 2018 ليطلق بعدها مسار مواجهة تصاعدياً مع الجمهورية الإسلامية بدأ بفرض عقوبات اقتصادية قاسية جداً ليصل للحظة تصفية قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني بداية عام 2020.
إلا أن النظام الإيراني رفع سقف المواجهة من طرفه أيضاً، خصوصاً أن العقوبات كان لها أثر كبير على الاقتصاد الإيراني، فتقلص الاقتصاد بنسبة 9.5 في المئة عام 2019، وارتفعت نسبة تضخم الأسعار 37 في المئة بحسب إحصاءات صندوق النقد الدولي وخسر الريال 60 في المئة من قيمته. وتوج رد الفعل الإيراني بقصف منشآت نفطية سعودية في أيلول/ سبتمبر، للرد على سياسة تصفير الصادرات النفطية الإيرانية، المورد الأساسي للنظام. ولكن انعكست هذه الخطوة سلباً على النظام وأدت إلى تغيير في الموقف الأوروبي حيال إيران، بعدما كان الاتحاد الأوروبي أشرس المدافعين عن الاتفاق النووي رافضاً السير خلف سياسة الرئيس الأميركي التي اعتبرها متهورة حينها.
لذلك، أتت الانتخابات النيابية الإيرانية يوم 21 شباط/ فبراير وسط أجواء عزلة كبيرة تعيشها الجمهورية الإسلامية، ربما الأصعب في تاريخها، ووسط شرخ باتت تزداد رقعته كل يوم بين النظام من جهة والشعب من جهة أخرى وذلك لسببين رئيسيين: الأول هو حالة القمع المفرط الذي مارسته أدوات النظام ضد المتظاهرين الذين نزلوا إلى الشوارع في تشرين الثاني/ نوفمبر رفضاً لقرار الحكومة زيادة أسعار الوقود بنسبة 50 في المئة. كشفت وقتها منظمة العفو الدولية عن مقتل ما يزيد عن 304 إيرانيين، إضافة إلى اعتقال أكثر من ألف متظاهر. والسبب الثاني أتى نتيجة إسقاط إيران طائرة ركاب أوكرانية في خضم ضربات صاروخية إيرانية لأهداف أميركية في العراق انتقاماً لعملية تصفية قائد فيلق القدس، ما أدى إلى مقتل 176 شخصاً، كانوا على متنها. وكذبت وقتها السلطات في إيران محاولة التهرب من المسؤولية، ما أشعل جولة جديدة من الاحتجاجات كان رأس حربتها الشباب والطلاب.
أتت الانتخابات النيابية الإيرانية يوم 21 شباط/ فبراير وسط أجواء عزلة كبيرة تعيشها الجمهورية الإسلامية، ربما الأصعب في تاريخها.
وللانتخابات في إيران طعمها الخاص، فهي غالباً ما تضفي شرعية ديموقراطية صورية لنظام أتوقراطي، خصوصاً أن النظام كان حول المشاركة في أي انتخابات، استفتاءً على شعبيته وشرعيته، يتباهى بها أمام العالم. كذلك فعل يوم تشييع الجنرال قاسم سليماني حين حشد في شوارع طهران ملايين الناس ليظهر للعالم مدى تماسكه، بعدما فقد أهم رجالاته، ولربما أهمهم لما كان يمثله من استمرارية لهذا النظام في المستقبل. والمعادلة الانتخابية في إيران هندست لتصب دائماً في مصلحة النظام بغض النظر عن الفائز: ففوز الإصلاحيين ينعكس دائماً بمعدلات مشاركة مرتفعة، فيضفي شرعية على النظام غالباً ما يتلقفها الغرب بأياد ممدودة، مثلما حصل يوم فاز روحاني بولايته الأولى. وفي حال قاطع الإصلاحيون الانتخابات كما حصل عامي 2004 و2005، يفوز المحافظون ويتصلب النظام نتيجة تناسقه وهجانته أكثر، كما حصل عند انتخاب محمود أحمدي نجاد عام 2005، فيستفز الأمر الإصلاحيين ليعودوا ويشاركوا في الانتخابات التي تليها.
ولكن لانتخابات 2020 البرلمانية وانتخابات 2021 الرئاسية طعم مختلف، إذ تأتيان وسط ظروف داخلية وخارجية مختلفة جداً عما حصل في العقد الأخير من الزمن. عام 2009، وبعد اندلاع الثورة الخضراء رفضاً للتزوير الذي حصل وقتها لترجيح كفة محمود أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية، كان النظام يستند إلى عناصر قوة متعددة سمحت له باستعمال الترهيب من أجل قمع الاحتجاجات، منها وضعه الاقتصادي آنذاك (مقارنة مع اليوم)، تماسك المجتمع عقائدياً ودينياً أكثر، وضعه في العراق، وسن المرشد علي خامنئي وصحته. هذه المعطيات إضافة إلى معطيات أخرى، سمحت لعملية إعادة تموضع للنظام الذي عملياً انقلب على أحمدي النجاد خلال فترة ولايته الثانية، وتمت محاصرته حتى أنه بات أول رئيس إيراني منذ قيام الجمهورية الإيرانية عام 1979، يستدعى من قبل البرلمان ليساءَل حول الاقتصاد وسياساته الداخلية والخارجية إضافة إلى تهم فساد طاولته. وحصلت جلسة الاستجواب عام 2012 حين كانت البلاد تتحضر لأول انتخابات عامة تجرى بعد الأحداث الدموية التي حصلت عام 2009. واعتبر الإيرانيون ذلك نوعاً من عملية مصالحة ونقد ذاتي قام به النظام، ما هيأ الأجواء في البلاد لاكتساح الإصلاحيين الانتخابات الرئاسية عام 2013. وطبعاً حدث ذلك في أجواء دولية إيجابية حيال إيران خصوصاً بسبب وجود الديموقراطيين من خلال باراك أوباما في البيت الأبيض، ما ساهم بعملية الانفتاح بين الطرفين، التي توجت بتلك الصورة الشهيرة لوزير الخارجية جواد ظريف ضاحكاً وملوحاً بوثيقة الاتفاق النووي من على شرفة الفندق في فيينا عام 2015 بعد توقيعه.
أما اليوم، فأتى اكتساح المحافظين الانتخابات البرلمانية الحادية عشرة في تاريخ الجمهورية الإسلامية هزيلاً وضعيفاً، ما صدع أكثر صورة نظام فعلياً يعاني على الصعيد الداخلي والخارجي، فيما يقف على مفترق طرق سيحدد مستقبله ومدى استمراريته. فبعدما دعا المرشد علي خامنئي الإيرانيين للتصويت معتبراً ذلك “واجباً دينياً”، اضطرت السلطات إلى تأجيل موعد إقفال الصناديق بسبب تدني نسبة المشاركة. وكان قسم مهم من الإيرانيين أعلن رسمياً مقاطعة الانتخابات، بسبب رفض مجلس صيانة الدستور 7296 طلب ترشح غالبيتهم من المعتدلين والإصلاحيين، إضافة إلى منع ثلث النواب الإصلاحيين الحاليين من الترشح مجدداً للانتخابات (90 من أصل 290). ومما لا شك فيه أن نسبة الاقتراع الرسمية التي لامست الـ42 في المئة، وهي الأدنى في تاريخ الجمهورية الإسلامية، شكلت حرجاً كبيراً للنظام خصوصاً أنه كان يعول على نسبة المشاركة ليظهر للعالم أن علاقته مع شعبه بخير بعدما هزت موجة الاحتجاجات في تشرين الثاني النظام مجدداً. وأفادت تقارير بأن نسبة المقاطعة في العاصمة طهران ومدن أساسية أخرى كأصفهان ومشهد وتبريز لامست حاجز الـ70 في المئة.
ولكن فعلياً ما يهم المحافظين والمتشددين من هذه الانتخابات هما أمران: سيطرتهم على مجلس خبراء القيادة، علماً أن لهذه الهيئة صلاحية اختيار المرشد الأعلى وصلاحية عزله أيضاً، إضافة إلى نتيجة الانتخابات البرلمانية بغض النظر عن نسبة المشاركة فيها. فكما ذكرت يقف النظام الإيراني على مفترق طرق ويتحضر لدخول مرحلة جديدة من عمره، فترة ستعرف بالجمهورية الإسلامية الثالثة، إذا اعتبرنا أن الأولى أتت على يد مؤسسها روح الله الخميني، والثانية كانت جمهورية علي خامنئي الذي بات عمره 80 سنة وتدهور صحته ليس سراً يخفى على أحد اليوم. من هنا تأتي أهمية السيطرة على البرلمان ومجلس خبراء القيادة وعلى الأرجح اكتساح المحافظين والمتشددين الانتخابات الرئاسية العام المقبل لتحضير أنفسهم للسيطرة على عملية تسمية وريث للمرشد الحالي وتقرير مصير الجمهورية، إلى حد ما. من جهة أخرى، لطالما حددت في السنين الفائتة العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران، الوضع السياسي في البلاد. فوجود الديمقراطيين في الحكم وانفتاحهم على الحوار مع طهران يعطي الإصلاحيين جرعة منشط غالباً ما تترجم في صناديق الاقتراع. أما وجود الرئيس دونالد ترامب اليوم في البيت الأبيض، وهو يتحضر لخوض انتخابات رئاسية من المرجح حتى هذه اللحظة أن يفوز بها، فسيعني أن النظام في إيران سيواجه المزيد من الضغط من الإدارة الأميركية في ولايتها الثانية، التي تنوي زعزعته وربما إسقاطه أو الذهاب إلى اتفاق نووي جديد يكون جائراً جداً بحق طهران، مقارنة مع الاتفاق الأول الذي حصلت عليه من إدارة أوباما. ولذلك يسعى المحافظون والمتشددون إلى تحصين البيت الداخلي، عبر السيطرة المطلقة على مفاصل الجمهورية وأدوات الدولة، علماً أن النظام، أثبت على رغم تصدعه، قدرته الفائقة على ممارسة العنف بحق الإيرانيين ما يشكل حتى اليوم صمام أمان بوجه أي تحركات تنوي الإطاحة به وقدرة لجم للمجتمع عبر إخضاعه.
لانتخابات 2020 البرلمانية وانتخابات 2021 الرئاسية طعم مختلف، إذ تأتيان وسط ظروف داخلية وخارجية مختلفة جداً عما حصل في العقد الأخير من الزمن.
ولكن يدخل اليوم عنصر جديد على المعادلة في إيران، وهي فئة الشباب المتمدن والمعولم، حيث أن آخر أرقام للأمم المتحدة تفيد بأن المجتمع الإيراني مجتمع فتي، فمعدل الأعمار 32 سنة، ونسبة سكان المدن الكبرى ارتفعت إلى 75.5 في المئة. وهذه الفئة من الشباب الإيراني لم تقمع في تظاهرات عام 2009 نتيجة صغر سنها ولمست أملاً طفيفاً، يوم انفتح العالم على إيران بعد الاتفاق النووي ليعود ويسلب منها بسبب سياسات نظامها وسياسات ترامب، التي من الواضح أنها تخدم بعضها. فتفيد أرقام البنك الدولي بأن معدل البطالة ارتفع في السنين الماضية ليلامس الـ18 في المئة بالمجمل، إلا أنه يتخطى عتبة الـ30 في المئة في فئة الشباب. وخطورة ما يحصل اليوم في إيران على النظام هو أن هذه الفئة من المجتمع تحديداً، والتي تظاهرت يوم ارتفاع أسعار الوقود منذ أشهر وسقط لها شهداء، وتظاهرت يوم أسقط النظام الطائرة الأوكرانية ليظهر مقطع فيديو من إحدى جامعات طهران حيث رفض الطلاب السير على علمي الولايات المتحدة وإسرائيل خلال تظاهرة مناهضة للحرس الثوري، انتشر مثل النار في الهشيم، باتت هذه الفئة غير مؤمنة بعملية التغيير من خلال صناديق الاقتراع وباتت الثقة بينها وبين النظام شبه معدومة. واليوم لا يمتلك النظام الإيراني ترف المهادنة مع هذه الفئة تحديداً، مثلما فعل مع الشباب بعدما زور انتخابات عام 2009، نظراً لحساسية الأوضاع التي يمر بها من تدهور اقتصادي، وعزلة دولية، وابتعاد الشباب من الأيديولوجية الثورية إلى حد ما، وانشغالهم بحياتهم اليومية ومستقبلهم، إضافة إلى عمر المرشد والمرحلة الانتقالية التي تتحضر لها البلاد في السنين المقبلة. لذلك من المرجح أن يزداد قمع النظام داخلياً في السنين المقبلة، إذا افترضنا أن ترامب سيفوز بولاية ثانية لتحصين نفسه أمام شباب سيرى في العملية الانتقالية التي على الأغلب لن تكون سلسة عند اختيار وريث للمرشد فرصة أو بصيص أمل لاختراق صفوف النظام أو حتى الانقضاض عليه.
في المحصلة، كنت أستمع البارحة لبودكاست من طهران حول نتائج الانتخابات وآراء الشباب الإيراني حولها، وكما تعلمون نحن جيل الألفية الجديدة المعروف بـ”الميلانيالز”، تحتل لدينا منصة بودكاست مركزاً متقدماً على المنصات الأخرى، من ناحية صناعة المعرفة لدينا. وبما أن المقابلات كانت بلا صورة وبلا ذكر أسماء، استطاع الشباب الإيراني أن يتكلم بأريحية وحرية أكثر ليعبر عن رأيه خصوصاً في موضوع مقاطعة الانتخابات، فيقول أحدهم: “لن أقترع هذه المرة لأنني لا أعتقد أن هذه الانتخابات حقيقية، إذ قام النظام بهندستها. ولا أعتقد أن هذا النظام يملك ترف إصلاح نفسه بعد اليوم، وبت على قناعة بأنه حان الوقت لتغيير في النظام. بطبيعة الحال طبعاً أخاف كثيراً من الحرب مع الولايات المتحدة، لكن ربما هذا هو الثمن الذي يجب أن ندفعه”.