في خليل حسن ديب، ما يكسر مُسلمات كثيرة عن النموذج الإنساني الذي تُخضعه الانتخابات لاختبار الأهلية النيابية.
فعن مقعد مذهبي في دائرة الجنوب الثالثة، يترشح أبو نمر مُكرهاً بطائفية مقعد فرضها تكوين النظام اللبناني وتوازناته. وأبو نمر الآتي من تجربة حزبية تتناسب طرداً مع هذا النظام، توفر معرفته الشخصية، كما طقوسه الحياتية، على المرء سهولة تهشيم الكثير من المُسلمات المصطنعة عن مشروع النائب.
عامل ومزارع، هما السمتان اللتان ينطلق خليل ديب- المرشح منهما. وبهما يهشم الرجل مواءمة غالبة ومصطنعة بين اللقب المُفخَّم الذي يسبق المرشحين، وبين هموم الناس المعيشية، والتي أفضت تجارب نيابية كثيرة إلى اكتشافنا خواءها، بقدر ما يُضفي ابو نمر على هذه المواءمة من صدقية.
هو مزارع التبغ، وهو “الدهَّان”، وهو في الحالتين يقيم في الوعي، وفي الواقع، كنموذج عن المواطن الذي لا تزال ريفيته العملية تطبع المشهد الجنوبي.
في صورته كمرشح، يرصد المرء في ديب كثافة العامل المثقل بالتعب. وهو لم يباشر مثلاً خداع الأعين على ما يقتضي الحدث.
كانت شتلة التبغ قرينةً للمقدمات البلاغية التي يستحضرها الرئيس نبيه بري في مخاطبة وجدان الجنوبيين. وبري يدرك أكثر من غيره ما شكلته، وتشكله، تلك الزراعة في توفير نوع من الاتزان المعيشي لكثيرين. وليس مصادفة أن تكون “الريجي” من حصته الإدارية الدائمة في السلطة، وتكون أيضاً أحد متاريس المواجهة بين الدولة ومزارعي التبغ، الذين يخوض ديب الاستحقاق الانتخابي كتعبير عن مظلوميتهم، وكرئيس لـ”تجمع مزارعي التبغ”، وفي زمن “الجهاد الزراعي” الذي دعا إليه أمين عام “حزب الله” أيضاً.
من الاستحقاقات المحلية إلى الانتخابات البلدية، يواظب خليل ذيب على مشقته الدائمة في تحدي السائد، ونيابياً هذه المرة. والسائد هو تبويب أولويات الناس وفق سلم يبدأ بالسياسة وينتهي على وقعها. ولأن ديب كان في صلب السياسة كعضو في اللجنة المركزية لـ”الحزب الشيوعي اللبناني”، ولأن ترشيحه ينطلق أساساً من موقعه هذا، فالمعرفة الشخصية به تقود إلى “تطويبه” نموذجاً عن تسييل الخاص في العام، كما عن قدرة على تغليب التشارك مع الآخر في كل ما يتصل بالمجتمع وشجونه.
في صورته كمرشح، يرصد المرء في ديب كثافة العامل المثقل بالتعب. وهو لم يباشر مثلاً خداع الأعين على ما يقتضي الحدث. ففي “البوستر” الانتخابي للائحة التغيير، إذا ما أسقطنا أسماء مرشحيها عنه، فإنَّ أبا نمر هو المرشح الوحيد الذي يُدرَك بمقابلة السيرة بالصورة، وهو ما لا يندرج بالضرورة كإدانة للمرشحين الآخرين، لكنه يُكثِّف في الوعي الجنوبي نموذجاً عن مرشح نيابي تأسره فطرة المزارع، وشكيمة العامل.
وهذا زمن المقاومة على ما يشي الخطاب السياسي للائحة الثنائي الشيعي، وخليل ذيب يأتي مرشحاً بسيرة مقاوم. لكنه يستدرج سيرته الأولى فقط درءاً لخطاب تخويني يُرفع في وجهه، ويُعلي في الوقت عينه شظف العيش الذي يأتي منه كآلاف الجنوبيين الذين يمثل صورة بؤسهم، فيما المقاومة عنده مُسلَّمة لا يني يتداولها بشغف خارج السياسة.
إقرأوا أيضاً:
يجمع بين كاتب هذه السطور، وبين خليل ديب، قنوات ود كثيرة وافتراق سياسي. أولى هذه القنوات وفرتها قريتنا “شقرا” بحكم الولادة والإقامة. وتحت هذه القرينة، تشاركت معه تجارب ثقافية واجتماعية أسست بالضرورة لمقاربة عن شخصية مسكونة بالحماسة في خدمة المجتمع.
من منتدى ثقافي اجتماعي في شقرا، صار المرء قادراً على تقصي الناشط الاجتماعي المثابر في شخصية خليل، وصار أيضاً مُلزماً باستشراف عمق ثقافي يسكن عقله، مع ما في الأمر من تطويع لفكرة ملتبسة عن العلاقة بين المثقف والنخبوية، ولا شك في أن لحزبيته كشيوعي دورها الرائد.
أسست تجربة المنتدى الثقافي لصداقة ممتدة منذ عقدين، لم نخضعها يوماً لوطأة السياسة. كان أبو نمر شيوعياً، ولا يزال، وكنت، وما زلت غير معجب بالخطاب بسياسة هذا الحزب، لكن خليل الريفي، المزارع، والمُكِّد عل عائلته، كان في كل مرة يستطيع أن يجذبني إلى شخصيته، وأن تحتمل جلساتنا كلاماً في السياسة لا يخدش وداً عميقاً له ولطقوس حياة مرة كشتلة التبغ، أو مالحة كحبات العرق الممتد على جبينه وهو يحفر في صخر المدافئ، أو يجمل جدران المنازل بفرشاة الدهَّان، أو حين تسرقه ريشة رسام، غير محترف ربما، لكنها تعبير عن رهافة حس لا يعرفها كثيرون.
في زمن الصمت الانتخابي، سيصمت خليل ديب، لكنها مناسبة لأتكلم عن صديقي الذي يُشبهني.
إقرأوا أيضاً: