fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

انتفاضة أبو العلاء المعرّي في الشمال السوري

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

داس جنود النظام السوري بجزماتهم على ضريح المعرّي، وثقبوا جدران مقام العقل بالرصاص، وكأنهم يقتلونه بعد موته للمرة الثانية بعدما قتله التكفيريون بقطع رأسه قبل أكثر من عشر سنوات.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عُرف عن أبي العلاء المعرّي اعتزاله الناس في حياته، وانكبابه على الشعر والفلسفة. وهو وإن كان حاول أن يبتعد عن الناس، إلا أن مريديه كانوا كثراً، خصوصاً من يجتمعون حوله للنهل من معرفته وعلمه. عاش الرجل ثمانية عقود، أمضاها بمعظمها في معرّة النعمان، البلدة الصغيرة في الشمال السوري، وسُميّ بالمعري نسبة إلى المعرّة، التي ولد فيها ومات ودُفن. 

كان المعرّي كفيفاً، لكنه كان ذا بصيرة عظيمة، وقد رأى بعقله ما عجز كثيرون عن رؤيته بأعينهم.

كان يقدّس التفكير وينبذ التكفير، وهو القائل “لا إمام سوى العقل”. 

حمل في حياته فلسفة متشائمة، ذهبت به إلى حد أن يوصي بوضع عبارة “هذا ما جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد” على قبره. ومع أن العبارة في بعدها الفلسفي مفهومة، إلا أنها أيضاً حقيقية في معناها الحرفي. فالمعرّي لم يجن على أحد في حياته، ولم يؤذِ أحداً أو يعتد على أحد. كان شاعراً وفيلسوفاً مسالماً، ينشد الوحدة ليكتب عشرات الكتب التي لم يصل إلينا منها سوى القليل، أشهرها ربما “رسالة الغفران”، وكتابه الذي شرح فيه ديوان المتنبي “معجز أحمد”.

لم تشفع له العبارة المكتوبة على ضريحه، لا عند النظام السوري ولا عند بعض المعارضة السورية.

في العام 2013، قطع مسلحون متشددون وتكفيريون رأس تمثال المعرّي في معرّة النعمان، وشوّهوا قاعدته، وأطلقوا الرصاص عليه. انتقم هؤلاء من فيلسوف بحجم المعرّي، لأنه لم يتردد في انتقاد التعصب الديني بقسوة، وهو القائل: “اثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا دين وآخر ديّن لا عقل له”. 

قطع مسلّح ميليشياوي يحمل رأساً بلا عقل، رأس تمثال صاحب العقل، في ترميز يطرح أسئلة عن سلوكيات من ينسبون أنفسهم إلى الثورة السورية، خصوصاً الميليشيات التي تحمل بذوراً سلفية، كجبهة “النصرة” سابقاً، التي بدّلت ملابسها وخطابها حالياً مع زعيمها أبو محمد الجولاني، الذي تربّى على يدي أبو مصعب الزرقاوي وبايع سابقاً أيمن الظواهري وأسامة بن لادن. وانتسب إلى “القاعدة” و”داعش” قبل تأسيس “النصرة”، وتحوّلها إلى “هيئة تحرير الشام”. في 2013، حمّل ناشطون سوريون المسؤولية لـ”جبهة النصرة” واتهموها مباشرة بقطع رأس المعرّي. 

واليوم بعد أكثر من 11 عاماً، وفي سياق مواجهته مع “هيئة تحرير الشام”، يهاجم النظام السوري ضريح المعرّي في المعرّة، ويعتدي على صاحب المقام في قبره، وينهب محتوياته، منتقماً من أهل هذه القرية الذين انتفضوا ضده، في تطبيق لمنهج المعرّي الذي اعتمده في حياته والمتلخص بـ”الثورة”، بما تعنيه هذه الكلمة من تحرّر من الظلامية والقهر والكبت وقيود العقل والملازم التي تحدّ التفكير. 

يفرغ الطرفان المتطرّفان، خلال صراعهما للاستحواذ على السلطة في سوريا، حقدهما وجهلهما على رجل عاش قبل ما يقارب الألف عام، ومات وهو على يقين أن الكرة الأرضية عبارة عن مقبرة هائلة، فينبّهنا: “خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذي الأجساد”. 

لكن النظام السوري وعسكره وميليشياته، لم يخففوا الوطء على ضريح المعرّي. إذ داسوا بجزماتهم على ضريح المعرّي، وثقبوا جدران مقام العقل بالرصاص، وكأنهم يقتلون المعرّي بعد موته للمرة الثانية بعدما قتله التكفيريون بقطع رأسه قبل أكثر من عشر سنوات. 

لكن المعرّي، إلى أهمية تمثاله وضريحه، نهج وأفكار وفلسفة حياة. وهو بمجرّد وجود من يحيي ذكره عبر قراءة نتاجه الشعري والفلسفي، ينتفض وينفض عن نفسه الموت كما لو أنه يهتف من باطن قبره مع المتنبي: “كم قد قتلت وكم قد مت عندكم/ ثم انتفضت فزال القبر والكفنُ”.

05.12.2024
زمن القراءة: 3 minutes

داس جنود النظام السوري بجزماتهم على ضريح المعرّي، وثقبوا جدران مقام العقل بالرصاص، وكأنهم يقتلونه بعد موته للمرة الثانية بعدما قتله التكفيريون بقطع رأسه قبل أكثر من عشر سنوات.


عُرف عن أبي العلاء المعرّي اعتزاله الناس في حياته، وانكبابه على الشعر والفلسفة. وهو وإن كان حاول أن يبتعد عن الناس، إلا أن مريديه كانوا كثراً، خصوصاً من يجتمعون حوله للنهل من معرفته وعلمه. عاش الرجل ثمانية عقود، أمضاها بمعظمها في معرّة النعمان، البلدة الصغيرة في الشمال السوري، وسُميّ بالمعري نسبة إلى المعرّة، التي ولد فيها ومات ودُفن. 

كان المعرّي كفيفاً، لكنه كان ذا بصيرة عظيمة، وقد رأى بعقله ما عجز كثيرون عن رؤيته بأعينهم.

كان يقدّس التفكير وينبذ التكفير، وهو القائل “لا إمام سوى العقل”. 

حمل في حياته فلسفة متشائمة، ذهبت به إلى حد أن يوصي بوضع عبارة “هذا ما جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد” على قبره. ومع أن العبارة في بعدها الفلسفي مفهومة، إلا أنها أيضاً حقيقية في معناها الحرفي. فالمعرّي لم يجن على أحد في حياته، ولم يؤذِ أحداً أو يعتد على أحد. كان شاعراً وفيلسوفاً مسالماً، ينشد الوحدة ليكتب عشرات الكتب التي لم يصل إلينا منها سوى القليل، أشهرها ربما “رسالة الغفران”، وكتابه الذي شرح فيه ديوان المتنبي “معجز أحمد”.

لم تشفع له العبارة المكتوبة على ضريحه، لا عند النظام السوري ولا عند بعض المعارضة السورية.

في العام 2013، قطع مسلحون متشددون وتكفيريون رأس تمثال المعرّي في معرّة النعمان، وشوّهوا قاعدته، وأطلقوا الرصاص عليه. انتقم هؤلاء من فيلسوف بحجم المعرّي، لأنه لم يتردد في انتقاد التعصب الديني بقسوة، وهو القائل: “اثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا دين وآخر ديّن لا عقل له”. 

قطع مسلّح ميليشياوي يحمل رأساً بلا عقل، رأس تمثال صاحب العقل، في ترميز يطرح أسئلة عن سلوكيات من ينسبون أنفسهم إلى الثورة السورية، خصوصاً الميليشيات التي تحمل بذوراً سلفية، كجبهة “النصرة” سابقاً، التي بدّلت ملابسها وخطابها حالياً مع زعيمها أبو محمد الجولاني، الذي تربّى على يدي أبو مصعب الزرقاوي وبايع سابقاً أيمن الظواهري وأسامة بن لادن. وانتسب إلى “القاعدة” و”داعش” قبل تأسيس “النصرة”، وتحوّلها إلى “هيئة تحرير الشام”. في 2013، حمّل ناشطون سوريون المسؤولية لـ”جبهة النصرة” واتهموها مباشرة بقطع رأس المعرّي. 

واليوم بعد أكثر من 11 عاماً، وفي سياق مواجهته مع “هيئة تحرير الشام”، يهاجم النظام السوري ضريح المعرّي في المعرّة، ويعتدي على صاحب المقام في قبره، وينهب محتوياته، منتقماً من أهل هذه القرية الذين انتفضوا ضده، في تطبيق لمنهج المعرّي الذي اعتمده في حياته والمتلخص بـ”الثورة”، بما تعنيه هذه الكلمة من تحرّر من الظلامية والقهر والكبت وقيود العقل والملازم التي تحدّ التفكير. 

يفرغ الطرفان المتطرّفان، خلال صراعهما للاستحواذ على السلطة في سوريا، حقدهما وجهلهما على رجل عاش قبل ما يقارب الألف عام، ومات وهو على يقين أن الكرة الأرضية عبارة عن مقبرة هائلة، فينبّهنا: “خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذي الأجساد”. 

لكن النظام السوري وعسكره وميليشياته، لم يخففوا الوطء على ضريح المعرّي. إذ داسوا بجزماتهم على ضريح المعرّي، وثقبوا جدران مقام العقل بالرصاص، وكأنهم يقتلون المعرّي بعد موته للمرة الثانية بعدما قتله التكفيريون بقطع رأسه قبل أكثر من عشر سنوات. 

لكن المعرّي، إلى أهمية تمثاله وضريحه، نهج وأفكار وفلسفة حياة. وهو بمجرّد وجود من يحيي ذكره عبر قراءة نتاجه الشعري والفلسفي، ينتفض وينفض عن نفسه الموت كما لو أنه يهتف من باطن قبره مع المتنبي: “كم قد قتلت وكم قد مت عندكم/ ثم انتفضت فزال القبر والكفنُ”.

05.12.2024
زمن القراءة: 3 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية