في شهري أيار/ مايو وحزيران/ يونيو الماضيين، اعتقلت جماعة الحوثيين 72 موظفاً في منظمات دولية وأممية في صنعاء والحديدة، مما دفع بالعشرات إلى الانتقال إلى عدن، لكنهم وجدوا أنفسهم أمام عراقيل جديدة يفرضها “المجلس الانتقالي الجنوبي”، تحد من قدراتهم على العمل بحرية وأمان.
ووفقا لتحالف “ميثاق العدالة من أجل اليمن”، أصبحت عدن مسرحاً لانتهاكات ممنهجة يقودها “المجلس الانتقالي الجنوبي”، حيث تستخدم ممارسات الاحتجاز التعسفي والتعذيب وعرقلة تسجيل المنظمات المدنية، كأدوات لقمع أي معارضة أو أصوات حقوقية.
تعقيدات تسجيل المنظمات
و”المجلس الانتقالي الجنوبي” هو سلطة الأمر الواقع في عدن، يفرض قيوداً خانقة على العمل المدني، حيث تعاني المنظمات من عقبات بيروقراطية شديدة، مثل صعوبة التسجيل وتجديد التصاريح، فضلاً عن التدخل في أنشطتها اليومية.
وفي أحدث انتهاك، أصدرت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، المحسوبة على “المجلس الانتقالي الجنوبي”، قراراً بإيقاف نشاط نقابة الصحافيين اليمنيين في المدينة، ودانت النقابة الإجراءات التي وصفتها بـ”التعسفية” ضد فرعها في عدن.
وأكدت النقابة أن هذه الخطوة تأتي ضمن سلسلة من التضييقات الممنهجة ضدها، مشيرة إلى اقتحام مقرها سابقاً ومنعها من تنظيم فعاليات، كما نددت بالتحريض على رئيس فرعها في عدن محمود ثابت وتهديده.
وأوضحت النقابة أن “هذه الإجراءات تفتقر إلى أي سند قانوني أو دستوري”، معتبرة أنها “امتداد للسياسات القمعية التي طالت النقابات المهنية الأخرى في عدن، بما فيها اتحاد نساء اليمن واتحاد عمال الجمهورية”، ورأت أن “ممارسات المجلس الانتقالي في عدن، لا تختلف عن ممارسات جماعة الحوثيين في صنعاء”، مؤكدة أن “هذه الضغوط تعزز التزامها بالدفاع عن الحريات الصحافية والمهنية في البلاد”.
ووفقا لتقرير أصدره “مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان“، أضحى المشهد المدني في عدن ممتلئاً بالعراقيل، ويُمنع العديد من الناشطين من تسجيل منظماتهم، وغالباً ما تُرفض الطلبات شفهياً، من دون أي مستندات مكتوبة، مما يحرم المنظمات من فرصة الطعن القانوني.
ويشير التقرير إلى أن “ست منظمات على الأقل، واجهت رفضاً مباشراً لتسجيلها، بينما لم يتمكن مؤسسو أربع منظمات أخرى من إتمام إجراءات التسجيل، بسبب أصولهم الشمالية، وهو انتهاك واضح لمبدأ عدم التمييز”.
وفي شهادة أحد المؤسسين الذين حاولوا التسجيل، قال إن “وزارة العمل والشؤون الاجتماعية رفضت استلام طلب التسجيل، بحجة أنني من شمال البلاد، وحتى بعد محاولات متعددة لم نتمكن من إتمام العملية”.
المشكلات لا تتوقف عند التسجيل، إذ إن المنظمات المسجلة بالفعل، تواجه عقبات أخرى عند تجديد تصاريح العمل السنوية، برغم أن القانون اليمني لا يُلزمها بذلك، وغالباً ما تُرفض الطلبات شفهياً، مما يجعل من المستحيل الطعن في القرار.
ووفقاً ل”مركز القاهرة” أُجبرت ثلاث منظمات على تعليق أنشطتها نتيجة عدم القدرة على تجديد التصاريح، وهو ما يؤدي إلى شلل العمل المدني، ويقوّض الجهود المبذولة لدعم حقوق الإنسان في المدينة.
سيطرة على المجتمع المدني
هذه الممارسات القمعية ليست سوى جزء من استراتيجية “المجلس الانتقالي الجنوبي” للسيطرة على المجتمع المدني. ففي العام الماضي، أصدرت السلطات قرارات تُلزم المنظمات بتقديم طلبات موافقة على كل نشاط تخطط له، مما يعرضها لرقابة مفرطة ويحد من استقلاليتها.
على سبيل المثال، ذكر تقرير “مركز القاهرة” واقعة، اضطرت فيها إحدى المنظمات إلى تقديم قائمة بأسماء المشاركين في أحد اجتماعاتها إلى السلطات، بما في ذلك بطاقات الهوية ومصادر التمويل، وهو ما يشكّل انتهاكاً صارخاً لخصوصية الأفراد ويعرضهم لمخاطر أمنية.
ويشير التقرير إلى أن هذه القيود لا تؤثر فقط على المنظمات المحلية، بل تشمل أيضاً تلك التي انتقلت إلى عدن، هرباً من القمع في المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثيين.
مشهد قاتم
الوضع الحقوقي في اليمن ككل، يعكس واقعاً أكثر قتامة. ففي المناطق الشمالية، يسيطر الحوثيون على الفضاء المدني بيد من حديد، مستخدمين الاعتقالات التعسفية والترهيب لإسكات الأصوات المعارضة.
وبحسب تقارير حقوقية، تعرض الصحافيون في الشمال لانتهاكات جسيمة، شملت الاعتقال التعسفي والتعذيب والإعدام، مما جعل اليمن واحدة من أخطر البلدان على الصحافيين.
ويوثّق تقرير صادر عن نقابة الصحافيين اليمنيين، 2515 انتهاكاَ بحق الصحافيين خلال تسع سنوات، بما في ذلك 45 حالة قتل.
وفي عدن، الأوضاع ليست بأفضل حال، فالصحافيون وناشطو حقوق الإنسان، يواجهون استدعاءات قضائية متكررة بتهم ملفقة، وغالباً ما يحاكمون أمام المحاكم الجزائية المتخصصة التي تفتقر إلى معايير العدالة.
ومن الحالات التي توثّق القمع في عدن، استدعي المحامي والناشط ياسر المليكي للمحاكمة بتهم مزعومة، تتعلق بتشكيل عصابة مسلحة، في محكمة متخصصة بقضايا الإرهاب. هذا الاستخدام المفرط للقضاء كأداة للقمع، يعكس توجهاً عاماً نحو إسكات الأصوات المعارضة وتقييد الفضاء المدني، سواء في عدن أو المناطق الأخرى.
القيود المفروضة على الصحافيين لا تقتصر على التهديدات المباشرة، بل تشمل أيضاً التدخل في عمل وسائل الإعلام. وبحسب تقرير مركز الحريات الإعلامية في اليمن، تتعرض وسائل الإعلام في اليمن لضغوط شديدة من مختلف الأطراف، بما في ذلك الحكومة اليمنية، وجماعة الحوثيين، و”المجلس الانتقالي الجنوبي”، والجماعات المسلحة الأخرى. هذه الضغوط تؤدي إلى نقص حاد في المعلومات المستقلة المتاحة للجمهور، مما يحد من قدرة المواطنين على الوصول إلى مصادر موثوقة للأخبار والمعلومات.
وفي السياق ذاته، يُظهر تقرير “مركز القاهرة” أن الصحافيين في عدن يواجهون مخاطر متزايدة، حيث يتعرضون للاستدعاءات والاعتقالات والتهديدات المستمرة.
ومؤخراً، استدعي الصحافي وجدي السالمي، من قبل مباحث الأموال العامة على خلفية قضايا نشر، وهي خطوة تندرج ضمن سلسلة من الإجراءات، التي تهدف إلى تقييد العمل الإعلامي في المدينة.
واستدعي المحامي والناشط الحقوقي سامي ياسين، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، إلى أحد مراكز الاعتقال التابعة لقوات “الحزام الأمني” في عدن، حيث واجه ظروف احتجاز قاسية.
ويشير تقرير تحالف “ميثاق العدالة من أجل اليمن”، إلى أن ممارسات الاعتقال هذه، غالباً ما تكون مصحوبة بنقل المعتقلين بين مواقع مختلفة لإخفاء مكان احتجازهم عن عائلاتهم، مما يسبب لهم معاناة نفسية كبيرة.
ويقول التحالف إن الصحافيين والمدافعين عن حقوق الإنسان في عدن، يتعرضون لاستهداف ممنهج من قبل “المجلس الانتقالي الجنوبي”.
ووثق التحالف تفاصيل اعتقال الصحافي أحمد ماهر، في آب/ أغسطس 2022، بسبب مواقفه السياسية، حيث تم احتجازه في ظروف قاسية داخل أحد مراكز الشرطة التابعة للمجلس.
هذا الوضع يفرض على الصحافيين اختياراً صعباً بين ممارسة مهنتهم والتعرض للمخاطر، أو التخلي عن العمل الإعلامي.
نداء للتدخل العاجل
الوضع المتدهور في عدن وباقي المناطق اليمنية، دفع المنظمات الحقوقية إلى إطلاق دعوات متكررة للمجتمع الدولي للتدخل العاجل.
ويدعو تحالف “ميثاق العدالة من أجل اليمن” المجتمع الدولي إلى “الضغط على المجلس الانتقالي الجنوبي لإنهاء هذه الانتهاكات، وضمان التزام السلطات المحلية بالقوانين اليمنية والدولية التي تكفل حقوق الإنسان”، كما يشدد على “ضرورة إنشاء آلية دولية مستقلة لمراقبة الانتهاكات في عدن ومناطق اليمن الأخرى، بما يضمن تقديم المسؤولين عنها إلى العدالة”.
كما تدعو هذه المنظمات المنضوية في تحالف “ميثاق العدالة من أجل اليمن” إلى “ضرورة ضمان احترام حرية تكوين الجمعيات، ورفع القيود المفروضة على تسجيل وتجديد تصاريح عمل المنظمات”، وتطالب ب”وقف استخدام القضاء كأداة للقمع، وضمان استقلاليته واحترام حقوق الدفاع”، إضافة إلى ذلك، تشدد التوصيات على “أهمية حماية الصحافيين والنشطاء، وتوفير بيئة آمنة تمكنهم من أداء دورهم الأساسي في تعزيز حقوق الإنسان وإيصال أصوات الضحايا”.
إلى جانب ذلك، برزت دعوات لتعزيز دور المجتمع الدولي في دعم المجتمع المدني في اليمن، وتشير التقارير الحقوقية إلى أن التدخل الدولي، يجب أن يركز على تعزيز آليات حماية حقوق الإنسان وضمان محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.
وتؤكد المنظمات الحقوقية اليمينة وتحالف “ميثاق العدالة من أجل اليمن” أن “تحقيق هذه الأهداف يتطلب تكاتف الجهود الدولية والإقليمية، لتقديم الدعم اللازم للناشطين والصحافيين ومنظمات المجتمع المدني، بما يضمن استقلالية عملهم وحمايتهم من التدخلات القمعية”.
يعكس الوضع في عدن جزءاً من أزمة حقوق الإنسان في اليمن، التي تفاقمت بفعل الصراع المسلح والانقسامات السياسية. وتحتاج البلاد إلى جهود متضافرة لضمان احترام حقوق الإنسان، وتعزيز سيادة القانون، وحماية الفضاء المدني من الانتهاكات. ويبقى الأمل أن يؤدي الضغط الدولي والمحلي إلى تحسين الوضع، وضمان بيئة أكثر أماناً للناشطين والصحافيين في اليمن.