fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

انتهاكات ريف حمص: تعتيم إعلامي وخطر تصاعد التوتّرات الطائفيّة! 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

أصبح الحديث عن أي انتهاكات يرتكبها عناصر تابعون لإدارة العمليات العسكرية أمراً صعباً اليوم، سواء بسبب هجوم المؤيدين للحكومة الجديدة أو بسبب التعمية عمّا يحدث، ما يعيد إلى أذهان السوريين ممارسات عهد النظام السابق.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

شهد ريف خلال الأيام الماضية توتراً أمنياً وطائفياً مع انطلاق حملات تمشيط نفذتها فصائل عسكرية في ريف المدينة الغربي، لملاحقة من سمتهم  بـ”عناصر خارجة عن القانون”. تزامن ذلك مع انقطاع الإنترنت الذي وصفته وزارة الاتصالات في الحكومة المؤقتة بأنه محاولة من “فلول النظام البائد الهاربة لزعزعة الأمن والاستقرار في أنحاء سوريا، وكان آخرها أعمال تخريب وقطع مسارين ضوئيين على طريق دمشق – حمص، ما أدى إلى انقطاع الإنترنت عن العاصمة وريفها ومناطق أخرى عدة”.

الحملة أحاطها تعتيم إعلامي ومعلومات متناقضة في ظل عشرات الانتهاكات التي وصفتها المصادر الرسمية عبر سانا بـ”غير مقبولة”، حدثت “عقب انسحاب القوات الأمنية، إذ استغلّت مجموعة إجرامية هذا الظرف لارتكاب تجاوزات بحق الأهالي، منتحلة صفة أمنية، ونؤكد أن أي تجاوزات من أفراد أو مجموعات سيتم التعامل معها بحزم وفق القوانين النافذة”.

هذا التناقض في الأنباء يتضح في خطف الأكاديمية السورية رشا ناصر العلي أثناء توجهها إلى جامعة حمص، وانتشار أخبار زائفة ومتناقضة تبين نهاية أن مصيرها ما زال مجهولاً، وتزامنت الحملة والانتهاكات التي شهدتها قرى ريف حمص باستغاثات على وسائل التواصل الاجتماعي اختلطت مع الأخبار المزيفة، كما تم تداول فيديوهات لتصفية أشخاص مجهولي الهوية.

الواضح مما شهده ريف حمص، تخبّط الإدارة الجديدة في التعامل مع ما حدث إعلامياً وأمنياً وغياب مصادر موثوقة، ومع زيارة محافظ حمص عبد الرحمن الأعمى لقرية مريمين، تم الحديث عن تشكيل لجنة لتعويض الأهالي، و”محاسبة الجناة”، بالتزامن مع نشاط التجمعات المدنية لمحاولة توثيق عدد القتلى في مريمين وفاحل في ظل خوف الأهالي من الحديث للناشطين ووسائل الإعلام التي الغائبة عن المنطقة.

تواصلنا في “درج” مع ناشطين وأهال من المنطقة لمعرفة طبيعة هذه الانتهاكات والحساسيات الطائفية في المنطقة التي شهدت طوال سنين الثورة تجييشاً، اشتدّ بعد سقوط النظام وانقلاب موازين القوى.

كيف بدأت “الحوادث”؟

تقول ناشطة من حمص، فضّلت عدم ذكر اسمها خوفاً على سلامتها: “كانت المدينة تشهد حالة من الاستقرار النسبي، حتى أن الشوارع التي كانت شبه خالية بدأت تشهد حركة أكبر. ومع ذلك، تظل الحركة محدودة بزمن معين، إذ تخلو هذه الشوارع بشكل شبه تام بعد الساعة الثامنة مساء”.

وتضيف:”قبل أسبوع، بدأت عمليات تمشيط في الريف الغربي لحمص، وهي منطقة تتميز بتنوع ديمغرافي كبير يشمل قرى علوية وشيعية ومراشدة ومسيحية وسنية. انطلقت هذه الحملات بشكل واسع في قرى عدة، من بينها جبورين والغور وغيرهما، والتي شهدت للأسف انتهاكات واسعة وصلت إلى حد توثيق حالات قتل”.

الوضع انفجر مع امتداد حملات التمشيط إلى قرى فاحل وشين ومريمين، بحسب الناشطة التي تقول: “شهدت هذه القرى انتهاكات واسعة. سجلت قرية فاحل أعلى عدد من القتلى حتى الآن، إذ تم توثيق اسم 16 قتيلاً، في حين بقي مصير 7 أشخاص آخرين أوقفهم مجهولون. هذا الغموض يثير مخاوف كبيرة، بخاصة أن 15 ممن قُتلوا كانوا اعتُقلوا في البداية، ثم تبيّن لأهاليهم لاحقاً أنهم قُتلوا علماً أن قرى أخرى محيطة بفاحل شهدت اعتقالات أيضاً من القبو وفلة والشرقلية وغيرها”.

تتابع الناشطة: “دخلت الهيئة إلى قريتي شين ومريمين، حيث ارتكبت انتهاكات واسعة النطاق أيضاً، تتضمن سرقات وإهانات وضرب وإساءات طائفية طاولت معظم الطوائف، بخاصة أبناء الطائفة المرشدية، ما أدى إلى تصاعد حالة الغضب، وأسفر عن تحركات وتظاهرات نظّمها أفراد من الطائفة في دمشق وريف حماة والريف الحمصي واللاذقية.”

تعرّض  شبان في قريتي شين ومريمين للضرب المبرح وغير المبرر، وسُجلت حالات اعتداء على أطفال يافعين دون سن الـ15، وطاولت الإهانات الطائفة المرشدية والعلوية بشكل مباشر، ما زاد من حالة التوتر والغضب. وعلى الرغم من أن القرى المسيحية شهدت وضعاً أفضل نسبياً، إلا أن هذه الانتهاكات ساهمت بشكل كبير في تصاعد حدة الأمور في المنطقة أدت الى وصول محافظ حمص وقائد شرطتها الى مريمين لمتابعة الموضوع.

من الذي قام بالانتهاكات؟

مع تطور الأحداث وانتشار فيديوهات التصفية في بلدة فاحل، خرجت أصوات مؤيدة للحكومة الجديدة تنفي قيام عناصر تابعين لإدارة العمليات العسكرية بعمليات التصفية. 

منذ يومين، نشرت وكالة سانا الرسمية خبراً عن قرية مريمين وعن الانتهاكات التي حصلت فيها، وأكدت تدخل الجهات الأمنية، لكنها في الوقت ذاته لم تصدر أي خبر عما حصل في فاحل لا بل نشرت خبراً تكذب فيه “الإعدامات الميدانية”.

رامي عبد الرحمن، مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، قال لـ “درج” إن من قام بالانتهاكات هم: “فصائل محلية وفصائل تعمل تحت إدارة العمليات العسكرية، وحصل المرصد السوري لحقوق الإنسان، على أشرطة مصورة لعمليات إعدام بحق مواطنين على يد مسلحين محليين في ريف حمص”.

يضيف رامي عبد الرحمن: “كما أكدت مصادر المرصد أن مسلحين محليين من الأكثرية العقائدية في سوريا يقومون بعمليات انتقامية، وتصفية حسابات قديمة ضد أبناء مكونات عقائدية مختلفة، من دون الرجوع الى القانون، مستندين إلى حالة الفوضى وانتشار السلاح، وتقرّبهم من إدارة العمليات العسكرية”.

وهذا ما أكده الكاتب والناشط السياسي يامن حسين الذي قال لـ “درج”: “في بعض الأحيان، تكون هذه المجموعات نفسها تتمتع بنفوذ يسمح لها باستخدام كلمات سر على الحواجز، ما يشير إلى أنها جزء من سلطة الأمن العام التي تضم فصائل عدة”.

وفي محاولة  لاحتواء الأزمة، زار محافظ حمص وقائد الشرطة قرية مريمين، وأعلنا أن الفصائل المسؤولة عن هذه الانتهاكات هي فصائل “منفلتة”، متعهدّين بمحاسبتها، لكن لم يصدر أي بيان للآن بشأن ما حصل في فاحل.

عن تبرير قتل الضباط والعسكريين من دون محاكمة

لاحقاً، أصدرت “مجموعة السلم الأهلي في سوريا- حمص” قائمة بأسماء قتلى فاحل، والذين تبين أنهم عناصر كانوا يتبعون للنظام السابق، بينهم ضباط متقاعدون وضباط سابقون ومجندون. وبحسب مصادر “مجموعة السلم الأهلي” وهي “مبادرة مجتمعية تم تأسيسها بعد سقوط نظام الأسد لضمان تعزيز السلم الأهلي في مدينة حمص، وبناء جسور التواصل بين جميع مكونات المجتمع الحمصي بمختلف أطيافهم”،  تم توقيف 58 شخصاً معظمهم يحمل بطاقة تسوية، وهي بطاقات تمنح للعسكريين السابقين في جيش النظام بعد من قبل السلطات الجديدة، تشير إلى أنهم سلموا سلاحهم.

لكن استمرار تضارب الأحداث أثار تساؤلات عما حدث، إذ تقول الناشطة نفسها التي تواصلنا معها من حمص: “إن قطع الاتصالات عن هذه المناطق وما حدث فيها والغموض الذي لفَّ الأيام الماضية، ذلك كله أثّر على المدينة بالكامل وأدى إلى توتر واسع في معظم أنحاء سوريا”.

الانتهاكات الصادمة رآها البعض أشبه بإعادة تدوير لانتهاكات النظام السابق لكن ماختلاف موازين القوى، وتبرير الانتهاكات حتى لو كانت بحق ضباط تمت تسوية وضعهم، يطرح تساؤلات حول حقيقة جهود العدالة الانتقاليّة التي ما زال موقف الإدارة الجديدة منها غامضاً مع غياب وجود أي استراتيجية واضحة، والاكتفاء بـ”التسويات”.

ما حدث يطرح أسئلة حول إن كان ما يحدث هو أمر ممنهج، وحول هذا قال يامن حسين: “لا يبدو أن هناك سياسة ممنهجة في الانتهاكات التي وقعت، ولكن هناك تعمية واضحة على الأحداث. فعلى سبيل المثال، عندما تقع انتهاكات مثل الخطف ويتم الإفراج عن الضحايا، لا تُحاسب الهيئة المجموعة التي قامت بالخطف”.

وبحسب يامن، حاولت مجموعة السلم الأهلي مراراً تتبع نمط محدد لهذه الانتهاكات لكن من دون جدوى. فخلال عمليات التمشيط في حمص، كانت هناك مجموعات تحمل إشارات صفراء أو خضراء أو حمراء، وأحياناً يكون سلوك هذه المجموعات جيداً وأحياناً أخرى سيئاً، ما جعل السلوك يعتمد على هوية الشخص أو المجموعة المعنية وليس على سياسة واضحة.

على رغم إعلان إدارة العمليات العسكرية نيتها ضبط الوضع وحماية المدنيين، فإن أحداث ريف حمص الغربي تثير الشكوك حول قدرتها على تحقيق ذلك. وهو ما يجيب عنه يامن: “الهيئة غير قادرة على ضبط عناصرها بشكل فعال، ولا تملك القدرة على السيطرة على العناصر الأخرى. فعندما تحدث انتهاكات، لا تتمكن الهيئة من مواجهة المسؤولين عنها بشكل جازم. في بعض الحالات، يُحرر المخطوفون من قبضة هذه المجموعات، لكنهم يتجنبون محاسبة  الأشخاص الذين كانوا وراء هذه الانتهاكات. هذا الصمت والتكتم يعكسان العجز عن اتخاذ إجراءات حقيقية ضد هذه الممارسات، ويزيد من صعوبة محاسبة المسؤولين عنها”.

الناس خائفون من كشف ما حصل!

السمة الأساسية لما يحدث اليوم، أن معظم من تعرضوا لانتهاكات يخشون التحدث عنها. وحاول “درج” التواصل مع أكثر من شخص تعرضوا لانتهاكات لكنهم لم يتجاوبوا، وحول هذه الحالة يقول يامن: “في إحدى الحالات، تعرّض رجل مسن لضرب مبرح لكنه رفض التحدث عما حدث، خوفاً من ردود الفعل أو من أن يتم تكذيب روايته. هذا الخوف المنتشر بين الناس يعكس حالة الرعب التي يعيشونها، ويجعل توثيق الانتهاكات أكثر صعوبة”.

منذ سيطرة إدارة العمليات العسكرية على معظم المناطق السورية، ساد استقرار نسبي في غالبية المناطق، مع تصنيف أي انتهاك كحالة فردية. لكن حمص وريفها شكّلا استثناءً بسبب تاريخهما الطويل مع مجازر نظام الأسد وانتهاكاته، فضلاً عن التنوع الطائفي والانقسامات المتفاقمة على مدار السنوات الماضية، ما زاد من عمق الشرخ في المدينة.

يقول يامن: “منذ عام 2011، عانت مدينة حمص من تفخيخ طائفي جعلها مسرحاً لانتهاكات ارتُكبت باسم النظام السوري على يد الشبيحة، وباسم الثورة من أطراف أخرى. كما شهدت المدينة موجة هائلة من عمليات الخطف في عامي 2011 و2012، تلاها ارتكاب مجازر مروعة مثل مجازر السبيل، الزهرة، وكرم الزيتون”.

 يتابع يامن: “هذا الواقع زاد من التوتر الطائفي الذي كان قائماً أساساً، بخاصة مع التوزيع الديمغرافي المعقّد الذي خلق نقاط تماس عديدة في المدينة. ومع غياب الحلول لهذه التوترات، يبقى العبء الأكبر دائماً على الطرف الأضعف، وفقاً لمن يكون الطرف المسيطر في كل مرحلة من الصراع”.

إلى الآن، لم تُعرف الفصائل المشاركة في الانتهاكات، وبحسب يامن: “لا يوجد وضوح كامل بشأن الفصائل الموجودة في حمص، لكن من المعروف أن هناك تشكيلات عسكرية عدة تشارك في الصراع، من بينها جيش العزة، والجيش الوطني، وهيئة تحرير الشام، بالإضافة إلى مجموعات أخرى قد انضوت أو ستنضم إلى هذه الفصائل في فترات مختلفة. الوضع العسكري في حمص يشهد تغيّرات مستمرة مع انتقال الفصائل والتحالفات بين الأطراف المختلفة، ما يجعل من الصعب تحديد القوى المسيطرة أو المتحكمة بشكل ثابت”.

حملات إلكترونية وإساءة توظيف الحقائق

التبريات الشعبوية التي تم تداولها حول قتل هؤلاء ضباط من الجيش السوري بسبب مشاركتهم في جرائم النظام السابق، يقوض مسار العدالة الذي طالب به السوريون منذ 13 عاماً، ويعمق الاحتقان الطائفي في المنطقة، ناهيك بحملات وسائل التواصل الاجتماعي التي استغلت منصات تدقيق المعلومات كـ”تأكّد” واتهامها بـ”تبرير عمليات القتل خارج القانون”، الاتهام الذي أدانته ورفضته المنصة بشدة.

أصبح الحديث عن أي انتهاكات يرتكبها عناصر تابعون لإدارة العمليات العسكرية أمراً صعباً اليوم، سواء بسبب هجوم المؤيدين للحكومة الجديدة أو بسبب التعمية عمّا يحدث، ما يعيد إلى أذهان السوريين ممارسات عهد النظام السابق.

يقول يامن: “هذا يعكس الانقسامات العميقة والتوترات المستمرة في المدينة، حيث يبدو أن هناك من يعارض حتى محاولات التوثيق أو الحديث عن الانتهاكات… الوضع الأهلي في حمص شديد التشنج والانقسام، ومن الممكن أن تتطور الأمور بشكل سلبي، ولا بد من تحرك عاجل يمنع الانقسامات الأهلية، فهي بالأساس تماسكات هشة”.

"درج"
لبنان
27.01.2025
زمن القراءة: 8 minutes

أصبح الحديث عن أي انتهاكات يرتكبها عناصر تابعون لإدارة العمليات العسكرية أمراً صعباً اليوم، سواء بسبب هجوم المؤيدين للحكومة الجديدة أو بسبب التعمية عمّا يحدث، ما يعيد إلى أذهان السوريين ممارسات عهد النظام السابق.

شهد ريف خلال الأيام الماضية توتراً أمنياً وطائفياً مع انطلاق حملات تمشيط نفذتها فصائل عسكرية في ريف المدينة الغربي، لملاحقة من سمتهم  بـ”عناصر خارجة عن القانون”. تزامن ذلك مع انقطاع الإنترنت الذي وصفته وزارة الاتصالات في الحكومة المؤقتة بأنه محاولة من “فلول النظام البائد الهاربة لزعزعة الأمن والاستقرار في أنحاء سوريا، وكان آخرها أعمال تخريب وقطع مسارين ضوئيين على طريق دمشق – حمص، ما أدى إلى انقطاع الإنترنت عن العاصمة وريفها ومناطق أخرى عدة”.

الحملة أحاطها تعتيم إعلامي ومعلومات متناقضة في ظل عشرات الانتهاكات التي وصفتها المصادر الرسمية عبر سانا بـ”غير مقبولة”، حدثت “عقب انسحاب القوات الأمنية، إذ استغلّت مجموعة إجرامية هذا الظرف لارتكاب تجاوزات بحق الأهالي، منتحلة صفة أمنية، ونؤكد أن أي تجاوزات من أفراد أو مجموعات سيتم التعامل معها بحزم وفق القوانين النافذة”.

هذا التناقض في الأنباء يتضح في خطف الأكاديمية السورية رشا ناصر العلي أثناء توجهها إلى جامعة حمص، وانتشار أخبار زائفة ومتناقضة تبين نهاية أن مصيرها ما زال مجهولاً، وتزامنت الحملة والانتهاكات التي شهدتها قرى ريف حمص باستغاثات على وسائل التواصل الاجتماعي اختلطت مع الأخبار المزيفة، كما تم تداول فيديوهات لتصفية أشخاص مجهولي الهوية.

الواضح مما شهده ريف حمص، تخبّط الإدارة الجديدة في التعامل مع ما حدث إعلامياً وأمنياً وغياب مصادر موثوقة، ومع زيارة محافظ حمص عبد الرحمن الأعمى لقرية مريمين، تم الحديث عن تشكيل لجنة لتعويض الأهالي، و”محاسبة الجناة”، بالتزامن مع نشاط التجمعات المدنية لمحاولة توثيق عدد القتلى في مريمين وفاحل في ظل خوف الأهالي من الحديث للناشطين ووسائل الإعلام التي الغائبة عن المنطقة.

تواصلنا في “درج” مع ناشطين وأهال من المنطقة لمعرفة طبيعة هذه الانتهاكات والحساسيات الطائفية في المنطقة التي شهدت طوال سنين الثورة تجييشاً، اشتدّ بعد سقوط النظام وانقلاب موازين القوى.

كيف بدأت “الحوادث”؟

تقول ناشطة من حمص، فضّلت عدم ذكر اسمها خوفاً على سلامتها: “كانت المدينة تشهد حالة من الاستقرار النسبي، حتى أن الشوارع التي كانت شبه خالية بدأت تشهد حركة أكبر. ومع ذلك، تظل الحركة محدودة بزمن معين، إذ تخلو هذه الشوارع بشكل شبه تام بعد الساعة الثامنة مساء”.

وتضيف:”قبل أسبوع، بدأت عمليات تمشيط في الريف الغربي لحمص، وهي منطقة تتميز بتنوع ديمغرافي كبير يشمل قرى علوية وشيعية ومراشدة ومسيحية وسنية. انطلقت هذه الحملات بشكل واسع في قرى عدة، من بينها جبورين والغور وغيرهما، والتي شهدت للأسف انتهاكات واسعة وصلت إلى حد توثيق حالات قتل”.

الوضع انفجر مع امتداد حملات التمشيط إلى قرى فاحل وشين ومريمين، بحسب الناشطة التي تقول: “شهدت هذه القرى انتهاكات واسعة. سجلت قرية فاحل أعلى عدد من القتلى حتى الآن، إذ تم توثيق اسم 16 قتيلاً، في حين بقي مصير 7 أشخاص آخرين أوقفهم مجهولون. هذا الغموض يثير مخاوف كبيرة، بخاصة أن 15 ممن قُتلوا كانوا اعتُقلوا في البداية، ثم تبيّن لأهاليهم لاحقاً أنهم قُتلوا علماً أن قرى أخرى محيطة بفاحل شهدت اعتقالات أيضاً من القبو وفلة والشرقلية وغيرها”.

تتابع الناشطة: “دخلت الهيئة إلى قريتي شين ومريمين، حيث ارتكبت انتهاكات واسعة النطاق أيضاً، تتضمن سرقات وإهانات وضرب وإساءات طائفية طاولت معظم الطوائف، بخاصة أبناء الطائفة المرشدية، ما أدى إلى تصاعد حالة الغضب، وأسفر عن تحركات وتظاهرات نظّمها أفراد من الطائفة في دمشق وريف حماة والريف الحمصي واللاذقية.”

تعرّض  شبان في قريتي شين ومريمين للضرب المبرح وغير المبرر، وسُجلت حالات اعتداء على أطفال يافعين دون سن الـ15، وطاولت الإهانات الطائفة المرشدية والعلوية بشكل مباشر، ما زاد من حالة التوتر والغضب. وعلى الرغم من أن القرى المسيحية شهدت وضعاً أفضل نسبياً، إلا أن هذه الانتهاكات ساهمت بشكل كبير في تصاعد حدة الأمور في المنطقة أدت الى وصول محافظ حمص وقائد شرطتها الى مريمين لمتابعة الموضوع.

من الذي قام بالانتهاكات؟

مع تطور الأحداث وانتشار فيديوهات التصفية في بلدة فاحل، خرجت أصوات مؤيدة للحكومة الجديدة تنفي قيام عناصر تابعين لإدارة العمليات العسكرية بعمليات التصفية. 

منذ يومين، نشرت وكالة سانا الرسمية خبراً عن قرية مريمين وعن الانتهاكات التي حصلت فيها، وأكدت تدخل الجهات الأمنية، لكنها في الوقت ذاته لم تصدر أي خبر عما حصل في فاحل لا بل نشرت خبراً تكذب فيه “الإعدامات الميدانية”.

رامي عبد الرحمن، مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، قال لـ “درج” إن من قام بالانتهاكات هم: “فصائل محلية وفصائل تعمل تحت إدارة العمليات العسكرية، وحصل المرصد السوري لحقوق الإنسان، على أشرطة مصورة لعمليات إعدام بحق مواطنين على يد مسلحين محليين في ريف حمص”.

يضيف رامي عبد الرحمن: “كما أكدت مصادر المرصد أن مسلحين محليين من الأكثرية العقائدية في سوريا يقومون بعمليات انتقامية، وتصفية حسابات قديمة ضد أبناء مكونات عقائدية مختلفة، من دون الرجوع الى القانون، مستندين إلى حالة الفوضى وانتشار السلاح، وتقرّبهم من إدارة العمليات العسكرية”.

وهذا ما أكده الكاتب والناشط السياسي يامن حسين الذي قال لـ “درج”: “في بعض الأحيان، تكون هذه المجموعات نفسها تتمتع بنفوذ يسمح لها باستخدام كلمات سر على الحواجز، ما يشير إلى أنها جزء من سلطة الأمن العام التي تضم فصائل عدة”.

وفي محاولة  لاحتواء الأزمة، زار محافظ حمص وقائد الشرطة قرية مريمين، وأعلنا أن الفصائل المسؤولة عن هذه الانتهاكات هي فصائل “منفلتة”، متعهدّين بمحاسبتها، لكن لم يصدر أي بيان للآن بشأن ما حصل في فاحل.

عن تبرير قتل الضباط والعسكريين من دون محاكمة

لاحقاً، أصدرت “مجموعة السلم الأهلي في سوريا- حمص” قائمة بأسماء قتلى فاحل، والذين تبين أنهم عناصر كانوا يتبعون للنظام السابق، بينهم ضباط متقاعدون وضباط سابقون ومجندون. وبحسب مصادر “مجموعة السلم الأهلي” وهي “مبادرة مجتمعية تم تأسيسها بعد سقوط نظام الأسد لضمان تعزيز السلم الأهلي في مدينة حمص، وبناء جسور التواصل بين جميع مكونات المجتمع الحمصي بمختلف أطيافهم”،  تم توقيف 58 شخصاً معظمهم يحمل بطاقة تسوية، وهي بطاقات تمنح للعسكريين السابقين في جيش النظام بعد من قبل السلطات الجديدة، تشير إلى أنهم سلموا سلاحهم.

لكن استمرار تضارب الأحداث أثار تساؤلات عما حدث، إذ تقول الناشطة نفسها التي تواصلنا معها من حمص: “إن قطع الاتصالات عن هذه المناطق وما حدث فيها والغموض الذي لفَّ الأيام الماضية، ذلك كله أثّر على المدينة بالكامل وأدى إلى توتر واسع في معظم أنحاء سوريا”.

الانتهاكات الصادمة رآها البعض أشبه بإعادة تدوير لانتهاكات النظام السابق لكن ماختلاف موازين القوى، وتبرير الانتهاكات حتى لو كانت بحق ضباط تمت تسوية وضعهم، يطرح تساؤلات حول حقيقة جهود العدالة الانتقاليّة التي ما زال موقف الإدارة الجديدة منها غامضاً مع غياب وجود أي استراتيجية واضحة، والاكتفاء بـ”التسويات”.

ما حدث يطرح أسئلة حول إن كان ما يحدث هو أمر ممنهج، وحول هذا قال يامن حسين: “لا يبدو أن هناك سياسة ممنهجة في الانتهاكات التي وقعت، ولكن هناك تعمية واضحة على الأحداث. فعلى سبيل المثال، عندما تقع انتهاكات مثل الخطف ويتم الإفراج عن الضحايا، لا تُحاسب الهيئة المجموعة التي قامت بالخطف”.

وبحسب يامن، حاولت مجموعة السلم الأهلي مراراً تتبع نمط محدد لهذه الانتهاكات لكن من دون جدوى. فخلال عمليات التمشيط في حمص، كانت هناك مجموعات تحمل إشارات صفراء أو خضراء أو حمراء، وأحياناً يكون سلوك هذه المجموعات جيداً وأحياناً أخرى سيئاً، ما جعل السلوك يعتمد على هوية الشخص أو المجموعة المعنية وليس على سياسة واضحة.

على رغم إعلان إدارة العمليات العسكرية نيتها ضبط الوضع وحماية المدنيين، فإن أحداث ريف حمص الغربي تثير الشكوك حول قدرتها على تحقيق ذلك. وهو ما يجيب عنه يامن: “الهيئة غير قادرة على ضبط عناصرها بشكل فعال، ولا تملك القدرة على السيطرة على العناصر الأخرى. فعندما تحدث انتهاكات، لا تتمكن الهيئة من مواجهة المسؤولين عنها بشكل جازم. في بعض الحالات، يُحرر المخطوفون من قبضة هذه المجموعات، لكنهم يتجنبون محاسبة  الأشخاص الذين كانوا وراء هذه الانتهاكات. هذا الصمت والتكتم يعكسان العجز عن اتخاذ إجراءات حقيقية ضد هذه الممارسات، ويزيد من صعوبة محاسبة المسؤولين عنها”.

الناس خائفون من كشف ما حصل!

السمة الأساسية لما يحدث اليوم، أن معظم من تعرضوا لانتهاكات يخشون التحدث عنها. وحاول “درج” التواصل مع أكثر من شخص تعرضوا لانتهاكات لكنهم لم يتجاوبوا، وحول هذه الحالة يقول يامن: “في إحدى الحالات، تعرّض رجل مسن لضرب مبرح لكنه رفض التحدث عما حدث، خوفاً من ردود الفعل أو من أن يتم تكذيب روايته. هذا الخوف المنتشر بين الناس يعكس حالة الرعب التي يعيشونها، ويجعل توثيق الانتهاكات أكثر صعوبة”.

منذ سيطرة إدارة العمليات العسكرية على معظم المناطق السورية، ساد استقرار نسبي في غالبية المناطق، مع تصنيف أي انتهاك كحالة فردية. لكن حمص وريفها شكّلا استثناءً بسبب تاريخهما الطويل مع مجازر نظام الأسد وانتهاكاته، فضلاً عن التنوع الطائفي والانقسامات المتفاقمة على مدار السنوات الماضية، ما زاد من عمق الشرخ في المدينة.

يقول يامن: “منذ عام 2011، عانت مدينة حمص من تفخيخ طائفي جعلها مسرحاً لانتهاكات ارتُكبت باسم النظام السوري على يد الشبيحة، وباسم الثورة من أطراف أخرى. كما شهدت المدينة موجة هائلة من عمليات الخطف في عامي 2011 و2012، تلاها ارتكاب مجازر مروعة مثل مجازر السبيل، الزهرة، وكرم الزيتون”.

 يتابع يامن: “هذا الواقع زاد من التوتر الطائفي الذي كان قائماً أساساً، بخاصة مع التوزيع الديمغرافي المعقّد الذي خلق نقاط تماس عديدة في المدينة. ومع غياب الحلول لهذه التوترات، يبقى العبء الأكبر دائماً على الطرف الأضعف، وفقاً لمن يكون الطرف المسيطر في كل مرحلة من الصراع”.

إلى الآن، لم تُعرف الفصائل المشاركة في الانتهاكات، وبحسب يامن: “لا يوجد وضوح كامل بشأن الفصائل الموجودة في حمص، لكن من المعروف أن هناك تشكيلات عسكرية عدة تشارك في الصراع، من بينها جيش العزة، والجيش الوطني، وهيئة تحرير الشام، بالإضافة إلى مجموعات أخرى قد انضوت أو ستنضم إلى هذه الفصائل في فترات مختلفة. الوضع العسكري في حمص يشهد تغيّرات مستمرة مع انتقال الفصائل والتحالفات بين الأطراف المختلفة، ما يجعل من الصعب تحديد القوى المسيطرة أو المتحكمة بشكل ثابت”.

حملات إلكترونية وإساءة توظيف الحقائق

التبريات الشعبوية التي تم تداولها حول قتل هؤلاء ضباط من الجيش السوري بسبب مشاركتهم في جرائم النظام السابق، يقوض مسار العدالة الذي طالب به السوريون منذ 13 عاماً، ويعمق الاحتقان الطائفي في المنطقة، ناهيك بحملات وسائل التواصل الاجتماعي التي استغلت منصات تدقيق المعلومات كـ”تأكّد” واتهامها بـ”تبرير عمليات القتل خارج القانون”، الاتهام الذي أدانته ورفضته المنصة بشدة.

أصبح الحديث عن أي انتهاكات يرتكبها عناصر تابعون لإدارة العمليات العسكرية أمراً صعباً اليوم، سواء بسبب هجوم المؤيدين للحكومة الجديدة أو بسبب التعمية عمّا يحدث، ما يعيد إلى أذهان السوريين ممارسات عهد النظام السابق.

يقول يامن: “هذا يعكس الانقسامات العميقة والتوترات المستمرة في المدينة، حيث يبدو أن هناك من يعارض حتى محاولات التوثيق أو الحديث عن الانتهاكات… الوضع الأهلي في حمص شديد التشنج والانقسام، ومن الممكن أن تتطور الأمور بشكل سلبي، ولا بد من تحرك عاجل يمنع الانقسامات الأهلية، فهي بالأساس تماسكات هشة”.