طلبتْ والدتي إحضار بعض المؤونة من السقيفة ولكي تدلني على المكان بالتحديد قالت: “قُربَ كرتونة القنابل”، بهذه البساطة تُخْتَصر اليوم علاقة السوريين بالسلاح الذي يكاد لا يخلو منزل منه، وإن على شكل مسدس. جميعنا في المنزل نعرف استخدام القنابل اليدوية وقت الحاجة أو على الأقل نعرف بشكل نظريّ “انزعي الصاعق وارميها بسرعة”، هكذا كان الدرس النظري والوحيد الذي علّمني إياه أخي عن القنابل اليدوية، ولو كان يمكن تفجيرها من دون إثارة جلبة كان التعلّم سيكون عمليّاً، أما الحاجة فتعني أي هجوم من مسلحي “داعش” أو محاولة لسرقة منزلنا المنعزل في القرية.
القنابل اليدوية لغة السوريين
قد يبدو من المشروع امتلاك السلاح الفردي في ظل عجز الدولة عن حماية السكان. ازداد الإقبال على شراء الأسلحة في سوريا خلال السنوات الماضية بخاصة من قبل أصحاب الأملاك أو الدخل الجيد، بهدف حماية ممتلكاتهم وأنفسهم. على رغم وجود هذه التجارة قبل الحرب إلّا أنها كانت محدودة وسرية.
تجارة السلاح في متناول الجميع، فلا تستغرب رؤية مراهقٍ يحمل قنبلة ليفجّرها عند أول شجار، كلّ هذا أدى إلى حالة من الفوضى وفقدان الأمن في معظم المدن الخاضعة لسيطرة النظام السوريّ بخاصة درعا والسويداء وطرطوس واللاذقية، ليغدو السلاح الفردي سبباً مباشراً في حوادث يسقط ضحيتها مدنيون. تفجير القنابل اليدوية هو لغة السوريين اليوم عند كلّ مشكلة أو جدال أو خلاف.
راهناً انتشرت حوادث أعادت قضية تفلّت السلاح إلى الواجهة، كانت البداية في طرطوس أمام القصر العدلي مع قنبلة فجرها رجل بشقيق زوجته المحامي، بعد توليه قضية انفصال شقيقته عنه، حاول شقيق المحامي احتواء صهره فانفجرت القنبلة بالجميع، وتوفي المحامي وشقيقه.
إن الحصول على الأسلحة وذخائرها ليس بالأمر الصعب، فهناك وسطاء يقومون بالفعل بتقديم ما يطلبه الزبون.
تلك التفجيرات تدور غالباً حول قصص نساء، يسقطن في أحيان كثيرة ضحية هذا السلاح المتفلت.
في ريف طرطوس رمى رجل قنبلة بعد خلافٍ مع زوجته بوجود أبنائه، ما أدى إلى إصابتهم، وفي منطقة نهر عيشة في جنوب دمشق أقدم الزوج على رمي قنبلة أمام منزل والد زوجته إثر خلاف مع الأخيرة، التي توفيت وأصيبت شقيقتها ووالدتها، إضافة إلى سبعة أشخاص آخرين. وفي اللاذقية قام شاب على دراجة نارية برمي قنبلة، ما أدى إلى إصابة فتاة.
انتشرت في الأعوام الماضية ظاهرة قتل شباب فتيات رفضن الزواج بهم، فعام 2020 قام شاب بتفجير قنبلة بفتاة رفضت الزواج به في ريف السويداء، كما قام يافع آخر عام 2019 بتفجير قنبلة في منزل عائلة رفضت تزويج ابنتها له ليتوفى الشاب والفتاة التي تبلغ 17 سنة.
كيف تمرّ الأسلحة على الحواجز الأمنية؟
يحمل أحد أقربائي في السيارة التي تقلنا من مدينة إلى أخرى قنبلة ومسدساً، خوفاً من أي هجوم مباغت لإحدى عصابات النهب والسلب بحسب قوله، أسأله: “ألا تخشى أن يكشف أمرك على أحد الحواجز؟”. يضحك ويقول: “أحملها منذ سنوات ولم يكشف أمري”، وعند أول حاجز يمنح العسكري المسؤول عن التفتيش ألف ليرة سورية، فيسمح لنا بالمرور من دون تفتيش ومن دون أن تمر السيارة من بوابة الفحص بنظام الأشعة السينية.
إذاً هكذا تحدث الأمور، مقابل ألف ليرة سورية تمر قنبلة ومسدس، ومقابل مئة ألف ليرة قد تمر شحنة أسلحة كاملة من دون تفتيش، لا عجب في ظاهرة انتشار السلاح الفردي إذاً!
يقول رامي (اسم مستعار) إن الحصول على الأسلحة وذخائرها ليس بالأمر الصعب، فهناك وسطاء يقومون بالفعل بتقديم ما يطلبه الزبون.
التحول في أساليب الجريمة في سوريا اليوم بات خطيراً وبلا أي ضوابط، إذ تُرتكب علناً في ما يشبه العروض أمام المدنيين والمارة، كما حدث في جريمة القصر العدلي في طرطوس وتستخدم أسلحة أكثر خطورة كالقنابل اليدوية.
تظهر في كل يوم تقريباً جريمة، جثة مجهولة الهوية، رأس بلا جسد، أو جسد مرمي ومتعفن منذ فترة طويلة. احتلت سوريا المركز الأول عربياً لعام 2021 في معدل ارتفاع الجريمة، والتاسعة عالمياً بحسب موقع Numbeo Crime Index، المتخصص بمؤشرات الجريمة حول العالم.
ارتفع مستوى الجريمة وعدم الأمان والقلق الدائم على السلامة الشخصية بشكل خطير لتبلغ نسبة أمان المشي وحيداً خلال النهار 39.12 في المئة، أما ليلاً فهي تهبط إلى 27.76 في المئة، وبحسب موقع Numbeo وصلت نسبة انتشار الرشوة والفساد إلى 80.63 في المئة، توضح هذه النسبة المرتفعة سبب انتشار السلاح العشوائي وما ينتج عنه من جرائم.
إقرأوا أيضاً:
أثر انتشار السلاح على النساء
بجولة سريعة على هذه الجرائم ندرك أن معظم الضحايا هنّ نساء قُتلن إثر خلافات مع أزواجهن، أو محاولة الأزواج إخضاعهن. يشبه أسلوب هؤلاء الرجال سياسةَ النظام حين واجه التظاهرات بالقصف، رافضاً أي نوع من الخروج عن سلطته. ولأن السلطة الأبوية هي انعكاس للسلطة السياسية في البلاد التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية، نعلم أن رفض فتاةٍ الزواج بشاب قد يدفعه إلى قتلها، ومحاولة انفصال امرأة عن زوجها قد يدفع الأخير إلى تفجير قنبلة بأخيها المحامي بحجة أنه “يدمر منزله”. صرخ الرجل الذي فجر القنبلة أمام القصر العدلي في طرطوس متهماً شقيق زوجته بهدم منزله وتشتيت عائلته، في حين تسببت فعلته في تدمير عائلته بأبشع الطرق لا بل وتدمير حياة عائلات أخرى! للمصادفة، يتماهى المشهد مع فكر النظام السياسي، الذي اتهم المتظاهرين بمحاولة تدمير البلاد بينما ما فعله هو على الأرض كان أكثر وحشيةً. باتت هذه الظاهرة رائجة واعتيادية حتى تحوّلت إلى نكتة “لا ترمِ عليها الطلاق، ارمِ عليها قنبلة” أو “سيحصل السوريون على القنابل من خلال البطاقة الذكية”، هذه اللغة الخطيرة في التعامل مع الفوضى والقتل تعكس كمية العنف التي تتعامل معها النساء بشكل خاص والتي باتت أمراً طبيعياً.
تحويل الموت إلى نكتة وقتل النساء إلى مزحة هو سماحٌ بتكرار هذه الحوادث، وقبول بقتل أخريات أو معالجة مشكلات عائلية برمي قنبلة على الأبناء. وفي ظل عدم تدخل الدولة بشكل جدي واكتفاء وزارة الداخلية بإصدار بيانات عمّا يحدث يبدو أن الفلتان الأمني يتوسع ويصبح أكثر وحشية وخطراً وبخاصة على النساء، اللواتي بتن يعرفن أن كلمة “لا” واحدة قد تعني تفجير قنبلة بهنَّ.
عدم الشعور بالأمان والخوف المستمر، من أشكال المعاناة التي يعيشها السوريون عموماً والسوريات خصوصاً. يتجاهل السوريون أي مشكلة تقع أمامهم ويعبرون بسرعة من دون محاولة التدخل فلربما يحمل أحد المتخاصمين قنبلة، يبتعد السوريون من بعضهم بعضاً، خوفاً من القنابل ومن غضبٍ محتمل قد يكلف حياةً.
إقرأوا أيضاً: