“بعد ثلاثة أمتار، انعطف يميناً ثم انعطف يساراً، وستجد وجهتك على اليمين”، بعد أكثر من 3 محاولات لتنفيذ تعليمات مساعد غوغل بتطبيق الـGPS، لم أصل الى وجهتي، فالمنعطف اليمين مغلق، ولا يوجد به أي يسار، لأعود مجدداً، وأكرر التجربة، والتي انتهت بسؤال المارة عن العنوان المراد.
قبل نحو عام من الآن، كنت في منطقة المعادي بمحافظة القاهرة، على موعد مع أحد المصادر لإجراء لقاء تم الترتيب له على مدار ما يقرب من أسبوعين، لانشغال المصدر بمواعيد أخرى، وبعد تحديد الموعد، اتجهت في طريقي الى المنطقة بسيارتي، واستعنت بالـGPS حتى أصل في الموعد المحدد.
على رغم أنني خرجت من المنزل قبل مدة كافية من الموعد، إلا أنني لم أصل في الوقت المحدد، ولم ينتظرني المصدر، فقط لأن الـ”جي بي إس” فشل في إيصالي الى الموقع، ليس لأنه لا يعمل بكفاءة، ولكن لأن غالبية الشوارع في ميادين وأحياء عدة، تبدلت ملامحها، منها ما هو مغلق للإصلاحات، ومنها ما أصبح يعلوه كوبري جديد، حتى أصبح التطبيق “تايه” وسط كل هذه التغيرات التي حلت بالمدينة وطرأت عليها.
بعد فشلي في الوصول من خلال التطبيق، لجأت الى سؤال المارة عن الموقع المحدد، وركن السيارة والسير على الأقدام، حتى وصلت الى وجهتي، ولكن لم أجد المصدر، لأنني تأخرت عن الموعد ما يقرب من النصف ساعة.
لم يكن هذا هو الموقف الأول من نوعه، نظراً الى أن التطبيق أصبح غير قادر على التعامل مع شوارع المدينة التي تبدلت، فقد اعتدت سابقاً على أن التطبيق لن يساعدني في الوصول بسرعة كما هو مفترض، أو كما هو مصمم للقيام به، ولم تكن هذه حالي وحدي، بل حال الكثير ممن التقيت بهم، من أصدقاء وزملاء عمل، وحتى سائقي تاكسي، الفئة المفترض أنها تعمل سيراً في شوارع المدينة ليلاً ونهاراً، ولكن التغيرات أصابتها أيضاً، فدفعتها الى استخدام التطبيق الذي يعاني من المشكلة نفسها، فماذا يفعل سائق تاكسي يسير فوق كوبري أكتوبر بمحافظة القاهرة، ويطلب منه التطبيق أن ينعطف يمينا، ليجد على يمينه النيل؟!.
“ماذا سيحدث إذا توقف النظام العالمي لتحديد المواقع GPS عن العمل؟”، عنوان لمقال نشره موقع “بي بي سي”، ذكر فيه أنه في عام 2009 ضلّ زوجان طريقهما من السويد الى جزيرة كابري الإيطالية، ووصلا إلى بلدة “كاربي” الصناعية التي تقع شمال إيطاليا، والتي تبعد من الجزيرة ما يقرب الـ 650 كيلومتراً، وكان السبب في ذلك خطأ بسيطاً، لأنهما كتبا اسم الجزيرة بشكل خاطئ على نظام جي بي إس الملحق بسيارتهما.
يتحدث التقرير عن أهمية التطبيق في حياتنا اليومية، وحمايتنا من أن نضل الطريق، فمن دونه سيزداد الزحام، ويضطر السائقون للنظر الى اللوحات الإرشادية بالطرق، وربما يصل الأمر الى خدمات الطوارئ التي لن تتمكن من تحديد مكان المتصلين، عن طريق إشارة هواتفهم، أو تحديد أقرب سيارة إسعاف أو سيارة شرطة، ولكن كل ما يتحدث عنه التقرير من أضرار هو مشاهد يومية للشارع المصري، مع وجود الـ”جي بي إس”، فسيارات الإسعاف تتأخر عن الوصول، والزحام والسيارات عرض يومي مستمر في غالبية المناطق، وأيضاً ينظر قائدو السيارات الى اللوحات الإرشادية على الطرق، منها ما هو مفقود أو اختفت الكتابة عنه.
بعد فشلي في الوصول من خلال التطبيق، لجأت الى سؤال المارة عن الموقع المحدد، وركن السيارة والسير على الأقدام، حتى وصلت الى وجهتي، ولكن لم أجد المصدر، لأنني تأخرت عن الموعد ما يقرب من النصف ساعة.
من المعادي الى فرجينيا
بعد هذا الزحام كله، وصلت الى وجهتي الجديدة في مدينة فرجينيا بالولايات المتحدة الأميركية، كتجربة جديدة لمحاولة اكتشاف الحياة والأشخاص، خرجت من الضوضاء الى الهدوء، لا أحد في جواري، لا أصدقاء ولا أقارب ولا جيران أو مارة يمكن الاستعانة بهم في السؤال عن طريق أو عنوان.
في اليوم التالي من السفر، أردت الخروج لشراء احتياجات المنزل ولوازمه، ولكن أين سأذهب في مدينة لا أعرف أحداً فيها ولا يعرفني أحد فيها؟ بالطبع هناك الكثير من المتاجر والمحلات، ولكن كيف سأصل إليها؟ هل أسأل “غوغل” ؟ لم يكن أمامي سوى التطبيق رغم تجاربي السابقة معه التي لم تكن نهايتها سعيدة، ولكن يبدو أن هناك بداية ستكون أفضل.
فتحت هاتفي المحمول لأبحث في التطبيق عن أقرب متجر لمكاني يمكنني شراء احتياجاتي منه، فاخترت الأقرب إلي، وبمجرد الضغط على كلمة “الاتجاهات” فتحت لي نافذة توضح لي كيف سأصل إليه، إن أردت سيراً على الاقدام، أو أن أستقل المواصلات، فاخترت الثاني، ومنه دخلت في نافذة جديدة تشرح لي رقم الباص الذي علي أن أستقله، وأيضاً موعد وصوله الى المحطة التي تبعد من مكاني دقيقة واحدة، وقد تبين أيضاً أنه سيصل بعد 3 دقائق.
وبالفعل، وصل الباص في موعده، لكنه لم يتركني وحدي في الرحلة، استمر معي يتحرك في المحطات، وحين جاءت المحطة الخاصة بي، أرسل إلي تنبيهاً بأنه عليّ النزول.التجربة كانت جديدة وغريبة بالنسبة إلي، أو بالنسبة الى شخص طلب منه التطبيق سابقاً الانعطاف يميناً، ليجد نفسه في “حارة سد”.
في طريق العودة، فكرت في السير على الأقدام، بخاصة أن المتجر ليس ببعيد، كما أنها فرصة لرؤية الشوارع، وهذا ما حصل، في رحلة مدتها 11 دقيقة رافقني فيها “صديق جديد” يطلب مني السير في خط مستقيم ثم السير يميناً للعبور الى الناحية الأخرى من المكان المخصص لعبور المشاة، حتى وصلت الى المنزل، لينهي رحلته معي برسالة تفيد بأنني وصلت الى وجهتي، وكأنه عليه المغادرة لمرافقة شخص آخر، ربما غريب آخر مثلي.
تذكرت لوهلة فيلم “her”، للممثل خواكين فينيكس، والذي وقع في غرام نظام تشغيل، فينيكس لعب دور رجل يعاني من الوحدة بعد طلاقه، يعمل ككاتب رسائل، ويمضي وقت فراغه بلعب ألعاب الفيديو، حتى يقرر شراء نظام التشغيل الجديد OS1 الذي صَدر حديثاً، وتم الإعلان عنه كأذكى نظام تشغيل صناعي في العالم، حتى وجد نفسه منجذباً الى “سامانثا”، الصوت المؤنث لنظام التشغيل الجديد، الذي وقع في حبه.
لن أقع في غرام الـGPS في أميركا، لكنه أصبح بمثابة صديق جديد أو شعور بالأمان في مدينة، ربما دفعتني الظروف الى الانتقال إليها، ليكون مرشداً لي في الاتجاهات، ويلعب دوره الحقيقي الذي فشل في القيام به في مصر، فلم تعد مشاعر الخوف تسيطر علي، فأنا أعلم أنّني سأصل الى المكان المقصود في الوقت المحدد، ولن أضطر الى إجراء لقاء صحافي عبر الهاتف، بسبب تأخري عن الموعد 30 دقيقة، فالآن أصبحت أملك الوقت والمكان اللازمين.