fbpx

انفجار بيروت لم ينتهِ… ديما رحلت بعد 83 يوماً والتحقيقات في “كوما”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

وكأنّ الانفجار، الذي فتح فجوة هائلة في الأرض، فتح مثلها في السماء، التي لا تتوانى عن استقبال أرواح ضحايا الجريمة، حتى بعد مرور 83 يوماً…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ذهبت ديما (52 سنة) في 4 آب/ أغسطس لزيارة والدها خالد عبد الصمد الذي كان يتلقى علاجاً في مستشفى الروم في الأشرفية. أثناء وقوفها على الشرفة اندلع انفجار مرفأ بيروت. 

أصيب والدها وبقيت ديما مفقودة حتى صباح اليوم التالي. عثرت عائلتها عليها فاقدة الوعي إثر تلقيها ضربة على الرأس، أدخلتها في “كوما”. نجا الوالد لكن الابنة أصيبت برأسها إصابة قوية. 

ديما عبدالصمد، آخر ضحايا الانفجار

83 يوماً صمد جسد ديما الذي لم يغادر غيبوبته، حتى رحلت في مستشفى جبل لبنان لتكون آخر ضحايا جريمة المرفأ.

مجدداً عاشت العائلة ولبنانيون محنة موت وتشييع ضحايا المرفأ. 

“… كنت ناطرة يجي اليوم وأوقف حدك بعرس ابنك متل ما وقفتي حدي بس الزمن غدار ما تركلنا وقت واخدك منا بكير الله يرحم روحك الطاهرة ويصبرنا ويقدرنا عا فراقك يا حبيبة القلب…”، كتبت أختها هدى على صفحتها في “فايسبوك”. 

وديما معلمة متقاعدة، من بلدة عماطور قضاء الشوف، رحلت تاركةً زوجها وولديها ابراهيم وياسمينا التي عادت من دبي إلى لبنان فور تلقيها خبر إصابة والدتها.

 بين ضحايا وناجين، كثر لا يزالون قابعين في المستشفيات يتلقون العلاج وعدد منهم دخل في غيبوبة لم يستيقظ منها منذ 4 آب. مضت أسابيع وستمضي أخرى، على تحويل بيروت إلى مدينة منكوبة، تفجير أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 190 شخصاً، وإصابة أكثر من 6500 آخرين، إضافة إلى حوالى 300 ألف إنسانٍ مشرد أو بلا مأوى، فيما لا نتائج واضحة حتى الآن حول التحقيقات في قضية انفجار بيروت، وما زال أهل السلطة يتناتشون الغنائم السياسية والاقتصادية، وكأنّ شيئاً لم يكن.

وكأنّ الانفجار، الذي فتح فجوة هائلة في الأرض، فتح مثلها في السماء، التي لا تتوانى عن استقبال أرواح ضحايا الجريمة، حتى بعد مرور 83 يوماً. وديما التي رحلت بعد غيبوبة استمرت منذ يوم الانفجار، ذكرتنا بأننا في لبنان لا نزال نعيش غيبوبة سياسية غرقت فيها السلطة التي لم تنجز حتى اللحظة تحقيقاً شفافاً ولم تقدم مسؤولاً واحداً عن التفجير إلى العدالة.

لوعة لم تهدأ

“ملايين الدنيا ما بترجعلي أحمد، بدي القاتل يتحاسب، كلن مشاركين بقتل ابني”، يقول ابراهيم والد أحمد القعدان الذي قضى في انفجار بيروت. وأحمد كان سائق أجرة وكان يحضر لعقد خطوبته بعد علاقة حب استمرت 8 سنوات، في أواخر آب الماضي، لكنه رحل قبل ذلك بأسابيع.

لجأ والد أحمد إلى خيمة نقابة المحامين الموجودة في الكارنتينا وتقدم بدعوى بعد توكيل المحامي فارس كنج. يطالب ابراهيم قعدان بتحقيق العدالة ويؤكد أنه سيواصل الضغط مع آخرين من أهالي الضحايا على الدولة لكشف هوية الفاعلين، على رغم أنه لا يثق بحكمها “بقولولنا التحقيق سري، بيحقلنا نعرف شو يلي صار، ما شفنا حدا منهم، ما شفنا ولا مسؤول صرلنا اكتر من شهرين ما اتصل حدا فينا حتى، متل كأنو يلي ماتوا حشرات”.

“لا ثقة بالدولة وتقدمت بدعويين، الأولى ضد إدارة المرفأ التي أدخلت المواد القاتلة، والثانية ضد الدولة التي كانت تعرف بوجود هذه المواد وتجاهلت الأمر، تماماً كما تتجاهلنا الآن”.

كان أحمد في شارع الجميزة يأخذ “طلبية” قالب الحلوى وكانت والدته تحضر له طبق البطاطا المقلية ليتناوله على العشاء بعد يوم عمل شاق على طريق البقاع- بيروت. أحمد ابن ابراهيم الوحيد، بين أخواته، فقدته عائلته، حبيبته وبيروت، التي كان يتجول بسيارته التي استأجرها ليعمل عليها، في شوارعها. انتظر أحمد حبيبته 8 سنوات لتنهي دراستها، وجاء اليوم المنتظر الذي حدده الحبيبان في 30 آب لعقد خطوبتهما التي ستبقى معلّقة إلى الأبد.

خمسة أيام…

الأيام الخمسة التي تلت الانفجار، والتي وعدتنا حكومة حسان دياب بكشف ملابسات الجريمة بعدها، أصبحت أشهراً، وسط تكتم والتباسات تدور حول التحقيق العدلي. 

سقطت حكومة دياب ودخلت السلطة في بازار سياسي، أدى إلى تكليف سعد الحريري بتشكيل حكومة، أما الأداء الرسمي تجاه فاجعة بيروت، فما زال قاصراً جداً أمام هول الجريمة.

يتولى التحقيق المجلس العدلي برئاسة المحقق العدلي فادي صوان بعدما رفض لبنان إجراء تحقيق دولي. يشارك محققون أجانب في التحقيقات المحلية بينهم 50 من الشرطة الجنائية والدرك الفرنسي ومكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، الذي سلّم سلمت القاضي فادي صوان تقريراً يتضمن اموراً فنية حول كيفية انفجار مادة نيترات الأمونيوم التي كانت مخزنة في العنبر رقم 12، إلى جانب أطنان من المفرقعات النارية وأشار التقرير إلى أنه يصعب جزم ما إذا كانت كميات النيترات المقدرة بـ2759 طناً قد انفجرت كلها.

“ملايين الدنيا ما بترجعلي أحمد، بدي القاتل يتحاسب،

كلن مشاركين بقتل ابني”.

 “كلن كانوا يعرفوا انو المواد موجودة وكلن لازم يتحاسبوا، ورح نكمل لآخر نفس، منعرف انو بالبلد كل شي بيتأخر بس نحن ما رح نرتاح لنرجع حق يلي راحوا” تقول ثروت، شقيقة النقيب أيمن نور الدين (27 سنة) الذي قتل أثناء خدمته العسكرية في انفجار مرفأ بيروت.

 انتقل النقيب أيمن إلى المرفأ في شهر تموز الماضي، بعد عودته من دورة عسكرية في الولايات المتحدة الأميركية. “حين انتقل أيمن ليداوم في المرفأ فرحنا كثيراً، لأنه صار قريباً وبعيداً من الخطر”. عند وقوع الحريق في المرفأ طلب الضابط المسؤول من أيمن ومجموعته الخروج لمؤازرة فريق الدفاع المدني، كان النقيب جاهزاً قبل المجموعة، فسبقهم مع حمزة اسكندر وحينها اندلع الانفجار وقضوا جميعاً. 

تقدمت ثروت وعائلتها أيضاً بدعاوى فردية للضغط على الدولة اللبنانية في الكشف عن نتائج التحقيقات الخاصة في ملف المرفأ، ووكلت العائلة المحامي أسعد ابو جودة لرفع الدعوى. “من اول يوم كنا نريد رفع دعوى وقلنا لن نسكت وسنحاسب وممنوع أن يتدخل أي سياسي، أو يغطي أي متورط نحن بالمرصاد”، مضيفةً “منعرف انو كانوا بيعرفوا كلن، وكلن بدن يتحاسبوا”.

أكثر من 1200 دعوى بحق الدولة

 نقابتا المحامين في طرابلس وبيروت تقدمتا بشكوى جزائية مع اتخاذ صفة الادعاء الشخصي بحق كل فاعل أو شريك أو محرض بجرائم القتل والإيذاء والجرائم الواقعة ضد الإنسانية في اليوم الذي وقعت فيه الجريمة، وطالبت باتخاذ الإجراء الإحتياطي بحماية موقع الجريمة ومنع الدخول إليه درءاً للعبث بالأدلة وضياعه، وتعيين لجنة من الخبراء ذوي الخبرة العالية في مجال الهندسة والمواد المتفجرة الحارقة والكيماوية من الخبراء المحليين والدوليين. كما ساهمت خيم المحامين المتطوعين على مقربة من الانفجار وفي أحياء بيروت، في مساعدة المتضررين وتقديم الاستشارات والمتابعات القانونية المناسبة، إضافة إلى دور خبراء التخمين.

جيلبير أبي عبود أحد المحامين المتطوعين في الكارنتينا أشار إلى أن الدعاوى التي تقدم بها أهالي الضحايا والمتضررون من انفجار بيروت تخطت الـ1200 دعوى قضائية بحق الدولة، الهدف منها الضغط على الجهات المعنية بالتحقيق لعدم التلكؤ في إجراء التحقيق الشفاف والعادل. “سنتوجه بكل ما نملك من شكاوى ومستندات إلى الخارج إذا لمسنا أي تخاذل من القضاء في إصدار الحكم في القضية التي تهمّ الشعب اللبناني كله، وكل من تضرر أثناء وجوده على الأراضي اللبنانية في ذلك اليوم”.

 من يحاكمهم؟

كان المحقق العدلي فادي صوان أوقف تباعاً 25 شخصاً في القضية من موظفي المرفأ والأجهزة الأمنية، بينهم رئيس مجلس إدارة المرفأ حسن قريطم والمدير العام للجمارك بدري ضاهر. كما أوقف ثلاثة عمال سوريين تولوا تلحيم الفجوة في العنبر الرقم 12. ولم يكشف عن أسماء جديدة في ما توصلت إليه التحقيقات، على رغم ما أظهرته  تحقيقات استقصائية صحافية عن علم الأجهزة الأمنية والجمارك وإدارة المرفأ والقضاء إضافة إلى مسؤولين سابقين وحاليين ووزراء  بوجود كميات هائلة خطرة من نيترات الأمونيوم مخزنة في المرفأ. واعترف آخرون بذلك على رأسهم رئيس الجمهورية ميشال عون الذي تلقى ورئيس الحكومة السابق حسان دياب في 20 تموز/ يوليو رسالة من جهاز أمن الدولة حول “الخطر” الذي يشكله تخزين هذه الكميات في المرفأ، إلا أن القاضي صوان استمع إلى إفادات وزراء حاليين وسابقين بصفتهم “شهوداً” فقط.

في بيانها الأخير، دعت “منظمة العفو الدولية” إلى إنشاء آلية دولية لتقصي الحقائق لضمان حقوق الضحايا في الحقيقة، والعدالة، وسبل الإنصاف، وأشارت إلى أن العملية ليست مستقلة أو حيادية بطبيعتها؛ لأن من يُجري التحقيق هو لجنة مؤلفة من وزراء الحكومة والجيش والقوى الأمنية، وهذه مؤسسات أصبحت هي نفسها في دائرة الاتهام.

تؤكد الباحثة في شؤون لبنان في “منظمة العفو الدولية” سحر مندور لـ”درج”، عدم صلاحية المجلس العدلي تولي التحقيقات لأنه لا يملك سلطة مقاضاة المسؤولين الحاليين في السلطة، بما في ذلك الرئيس والوزراء. “لا تتوفر لديه معايير الوصول إلى العدالة فهو محكمة استثنائية ولها قواعدها الاستثائية، وهي غير قابله للطعن من اي طرف أو الاستئناف. وهناك جهة واحدة يسمح لها بمحاكمة الرؤساء والوزراء وهي المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء وهو مكون من 8 قضاة و7 نواب”. ويتم اختيار النواب بموجب تصويت في مجلس النواب، والقضاة من ذوي الرتب العالية يتم تعيينهم بحسب رتبهم، وفي حال تساوي الرتب فبحسب ترتيب الأقدمية. ولكن في شباط/ فبراير 2019 دعا رئيس مجلس النواب إلى عقد جلسة لانتخاب النواب السبعة لعضوية المجلس الأعلى، وتم ذلك بحسب الأصول في شهر آذار/ مارس 2019. لكن السلطة القضائية لم تعين حتى الآن أعضاءها. ما يعني أن المجلس فاقد لشرعيته في اتخاذ أي إجراء، وبالتالي لا محاكمة للسياسيين والمسؤولين. وكانت منظمة العفو وغيرها من المجموعات الحقوقية دعت إلى إجراء تحقيق دولي، لكنه جوبه بالرفض من مسؤولين لبنانيين ووصف الرئيس عون أي تحقيق من هذا القبيل بأن “الهدف منه تضييع الوقت”. وقالت “هيومن رايت ووتش” إنه على “مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان” التي ستجتمع قريباً، أن تحض السلطات اللبنانية على قبول دعوة الأمم المتحدة إلى إجراء تحقيق مستقل. 

وكان صحافيون من قناة “الجديد” المحلية قدموا أدلّة على أن مسؤولين أزالوا وثائق من وزارة الأشغال العامة، التي تشرف على المرفأ، في 9 آب. ثم اندلع حريقان في مرفأ بيروت منذ الانفجار، في 8 و10 أيلول/ سبتمبر، أثار شكوكاً حول التلاعب بمسرح الجريمة. لكن المجلس العدلي لم يتخذ أي إجراءات ضدّ التلاعب، ما أضعف الثقة في صدقية التحقيق. 
في السياق نفسه، أطلق “المرصد الشعبي لمحاربة الفساد” بمشاركة مجموعة من المحامين والصحافيين والنشطاء حملة شعبية بعنوان “القصاص الآن”، تهدف إلى ملاحقة التحقيقات ومتابعة القضية والعمل على تزخيمها لعدم نسيان الجريمة التي مست بجميع المواطنين بشكل مباشر أو غير مباشر. يشرح عضو الحملة جورج عزار أنها تتجه إلى تنظيم حركة وطنية جامعة تمتد إلى المناطق اللبنانية كافة، لمكافحة النسيان والتأقلم في سبيل الضغط على القضاء، “بات من الواضح أن مسار التحقيقات يتجه إلى عدم تحميل المسؤولية للسياسيين بالمستوى المطلوب ووضع الجريمة في خانة الخلل التقني”. وقد نقلت “رويترز” عن مصدر رسمي لم تسمّه قوله إن التحقيقات الأولية تشير إلى “التراخي والاهمال” في تخزين نترات الأمونيوم شديدة الانفجار.

تندرج مسارات المبادرة في ثلاثة منطلقات، أولاً إبقاء الرأي العام مطلعاً على ما يحدث عبر سلسلة مؤتمرات صحافية وندوات قانونية، ثانياً تنظيم اعتصامات وتحركات في المناطق اللبنانية للضغط على القضاء، وثالثاً إطلاق عريضة إلكترونية للتفاعل مع الناس لتنظيم الرأي العام في معركته الوطنية.

27.10.2020
زمن القراءة: 8 minutes

وكأنّ الانفجار، الذي فتح فجوة هائلة في الأرض، فتح مثلها في السماء، التي لا تتوانى عن استقبال أرواح ضحايا الجريمة، حتى بعد مرور 83 يوماً…

ذهبت ديما (52 سنة) في 4 آب/ أغسطس لزيارة والدها خالد عبد الصمد الذي كان يتلقى علاجاً في مستشفى الروم في الأشرفية. أثناء وقوفها على الشرفة اندلع انفجار مرفأ بيروت. 

أصيب والدها وبقيت ديما مفقودة حتى صباح اليوم التالي. عثرت عائلتها عليها فاقدة الوعي إثر تلقيها ضربة على الرأس، أدخلتها في “كوما”. نجا الوالد لكن الابنة أصيبت برأسها إصابة قوية. 

ديما عبدالصمد، آخر ضحايا الانفجار

83 يوماً صمد جسد ديما الذي لم يغادر غيبوبته، حتى رحلت في مستشفى جبل لبنان لتكون آخر ضحايا جريمة المرفأ.

مجدداً عاشت العائلة ولبنانيون محنة موت وتشييع ضحايا المرفأ. 

“… كنت ناطرة يجي اليوم وأوقف حدك بعرس ابنك متل ما وقفتي حدي بس الزمن غدار ما تركلنا وقت واخدك منا بكير الله يرحم روحك الطاهرة ويصبرنا ويقدرنا عا فراقك يا حبيبة القلب…”، كتبت أختها هدى على صفحتها في “فايسبوك”. 

وديما معلمة متقاعدة، من بلدة عماطور قضاء الشوف، رحلت تاركةً زوجها وولديها ابراهيم وياسمينا التي عادت من دبي إلى لبنان فور تلقيها خبر إصابة والدتها.

 بين ضحايا وناجين، كثر لا يزالون قابعين في المستشفيات يتلقون العلاج وعدد منهم دخل في غيبوبة لم يستيقظ منها منذ 4 آب. مضت أسابيع وستمضي أخرى، على تحويل بيروت إلى مدينة منكوبة، تفجير أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 190 شخصاً، وإصابة أكثر من 6500 آخرين، إضافة إلى حوالى 300 ألف إنسانٍ مشرد أو بلا مأوى، فيما لا نتائج واضحة حتى الآن حول التحقيقات في قضية انفجار بيروت، وما زال أهل السلطة يتناتشون الغنائم السياسية والاقتصادية، وكأنّ شيئاً لم يكن.

وكأنّ الانفجار، الذي فتح فجوة هائلة في الأرض، فتح مثلها في السماء، التي لا تتوانى عن استقبال أرواح ضحايا الجريمة، حتى بعد مرور 83 يوماً. وديما التي رحلت بعد غيبوبة استمرت منذ يوم الانفجار، ذكرتنا بأننا في لبنان لا نزال نعيش غيبوبة سياسية غرقت فيها السلطة التي لم تنجز حتى اللحظة تحقيقاً شفافاً ولم تقدم مسؤولاً واحداً عن التفجير إلى العدالة.

لوعة لم تهدأ

“ملايين الدنيا ما بترجعلي أحمد، بدي القاتل يتحاسب، كلن مشاركين بقتل ابني”، يقول ابراهيم والد أحمد القعدان الذي قضى في انفجار بيروت. وأحمد كان سائق أجرة وكان يحضر لعقد خطوبته بعد علاقة حب استمرت 8 سنوات، في أواخر آب الماضي، لكنه رحل قبل ذلك بأسابيع.

لجأ والد أحمد إلى خيمة نقابة المحامين الموجودة في الكارنتينا وتقدم بدعوى بعد توكيل المحامي فارس كنج. يطالب ابراهيم قعدان بتحقيق العدالة ويؤكد أنه سيواصل الضغط مع آخرين من أهالي الضحايا على الدولة لكشف هوية الفاعلين، على رغم أنه لا يثق بحكمها “بقولولنا التحقيق سري، بيحقلنا نعرف شو يلي صار، ما شفنا حدا منهم، ما شفنا ولا مسؤول صرلنا اكتر من شهرين ما اتصل حدا فينا حتى، متل كأنو يلي ماتوا حشرات”.

“لا ثقة بالدولة وتقدمت بدعويين، الأولى ضد إدارة المرفأ التي أدخلت المواد القاتلة، والثانية ضد الدولة التي كانت تعرف بوجود هذه المواد وتجاهلت الأمر، تماماً كما تتجاهلنا الآن”.

كان أحمد في شارع الجميزة يأخذ “طلبية” قالب الحلوى وكانت والدته تحضر له طبق البطاطا المقلية ليتناوله على العشاء بعد يوم عمل شاق على طريق البقاع- بيروت. أحمد ابن ابراهيم الوحيد، بين أخواته، فقدته عائلته، حبيبته وبيروت، التي كان يتجول بسيارته التي استأجرها ليعمل عليها، في شوارعها. انتظر أحمد حبيبته 8 سنوات لتنهي دراستها، وجاء اليوم المنتظر الذي حدده الحبيبان في 30 آب لعقد خطوبتهما التي ستبقى معلّقة إلى الأبد.

خمسة أيام…

الأيام الخمسة التي تلت الانفجار، والتي وعدتنا حكومة حسان دياب بكشف ملابسات الجريمة بعدها، أصبحت أشهراً، وسط تكتم والتباسات تدور حول التحقيق العدلي. 

سقطت حكومة دياب ودخلت السلطة في بازار سياسي، أدى إلى تكليف سعد الحريري بتشكيل حكومة، أما الأداء الرسمي تجاه فاجعة بيروت، فما زال قاصراً جداً أمام هول الجريمة.

يتولى التحقيق المجلس العدلي برئاسة المحقق العدلي فادي صوان بعدما رفض لبنان إجراء تحقيق دولي. يشارك محققون أجانب في التحقيقات المحلية بينهم 50 من الشرطة الجنائية والدرك الفرنسي ومكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، الذي سلّم سلمت القاضي فادي صوان تقريراً يتضمن اموراً فنية حول كيفية انفجار مادة نيترات الأمونيوم التي كانت مخزنة في العنبر رقم 12، إلى جانب أطنان من المفرقعات النارية وأشار التقرير إلى أنه يصعب جزم ما إذا كانت كميات النيترات المقدرة بـ2759 طناً قد انفجرت كلها.

“ملايين الدنيا ما بترجعلي أحمد، بدي القاتل يتحاسب،

كلن مشاركين بقتل ابني”.

 “كلن كانوا يعرفوا انو المواد موجودة وكلن لازم يتحاسبوا، ورح نكمل لآخر نفس، منعرف انو بالبلد كل شي بيتأخر بس نحن ما رح نرتاح لنرجع حق يلي راحوا” تقول ثروت، شقيقة النقيب أيمن نور الدين (27 سنة) الذي قتل أثناء خدمته العسكرية في انفجار مرفأ بيروت.

 انتقل النقيب أيمن إلى المرفأ في شهر تموز الماضي، بعد عودته من دورة عسكرية في الولايات المتحدة الأميركية. “حين انتقل أيمن ليداوم في المرفأ فرحنا كثيراً، لأنه صار قريباً وبعيداً من الخطر”. عند وقوع الحريق في المرفأ طلب الضابط المسؤول من أيمن ومجموعته الخروج لمؤازرة فريق الدفاع المدني، كان النقيب جاهزاً قبل المجموعة، فسبقهم مع حمزة اسكندر وحينها اندلع الانفجار وقضوا جميعاً. 

تقدمت ثروت وعائلتها أيضاً بدعاوى فردية للضغط على الدولة اللبنانية في الكشف عن نتائج التحقيقات الخاصة في ملف المرفأ، ووكلت العائلة المحامي أسعد ابو جودة لرفع الدعوى. “من اول يوم كنا نريد رفع دعوى وقلنا لن نسكت وسنحاسب وممنوع أن يتدخل أي سياسي، أو يغطي أي متورط نحن بالمرصاد”، مضيفةً “منعرف انو كانوا بيعرفوا كلن، وكلن بدن يتحاسبوا”.

أكثر من 1200 دعوى بحق الدولة

 نقابتا المحامين في طرابلس وبيروت تقدمتا بشكوى جزائية مع اتخاذ صفة الادعاء الشخصي بحق كل فاعل أو شريك أو محرض بجرائم القتل والإيذاء والجرائم الواقعة ضد الإنسانية في اليوم الذي وقعت فيه الجريمة، وطالبت باتخاذ الإجراء الإحتياطي بحماية موقع الجريمة ومنع الدخول إليه درءاً للعبث بالأدلة وضياعه، وتعيين لجنة من الخبراء ذوي الخبرة العالية في مجال الهندسة والمواد المتفجرة الحارقة والكيماوية من الخبراء المحليين والدوليين. كما ساهمت خيم المحامين المتطوعين على مقربة من الانفجار وفي أحياء بيروت، في مساعدة المتضررين وتقديم الاستشارات والمتابعات القانونية المناسبة، إضافة إلى دور خبراء التخمين.

جيلبير أبي عبود أحد المحامين المتطوعين في الكارنتينا أشار إلى أن الدعاوى التي تقدم بها أهالي الضحايا والمتضررون من انفجار بيروت تخطت الـ1200 دعوى قضائية بحق الدولة، الهدف منها الضغط على الجهات المعنية بالتحقيق لعدم التلكؤ في إجراء التحقيق الشفاف والعادل. “سنتوجه بكل ما نملك من شكاوى ومستندات إلى الخارج إذا لمسنا أي تخاذل من القضاء في إصدار الحكم في القضية التي تهمّ الشعب اللبناني كله، وكل من تضرر أثناء وجوده على الأراضي اللبنانية في ذلك اليوم”.

 من يحاكمهم؟

كان المحقق العدلي فادي صوان أوقف تباعاً 25 شخصاً في القضية من موظفي المرفأ والأجهزة الأمنية، بينهم رئيس مجلس إدارة المرفأ حسن قريطم والمدير العام للجمارك بدري ضاهر. كما أوقف ثلاثة عمال سوريين تولوا تلحيم الفجوة في العنبر الرقم 12. ولم يكشف عن أسماء جديدة في ما توصلت إليه التحقيقات، على رغم ما أظهرته  تحقيقات استقصائية صحافية عن علم الأجهزة الأمنية والجمارك وإدارة المرفأ والقضاء إضافة إلى مسؤولين سابقين وحاليين ووزراء  بوجود كميات هائلة خطرة من نيترات الأمونيوم مخزنة في المرفأ. واعترف آخرون بذلك على رأسهم رئيس الجمهورية ميشال عون الذي تلقى ورئيس الحكومة السابق حسان دياب في 20 تموز/ يوليو رسالة من جهاز أمن الدولة حول “الخطر” الذي يشكله تخزين هذه الكميات في المرفأ، إلا أن القاضي صوان استمع إلى إفادات وزراء حاليين وسابقين بصفتهم “شهوداً” فقط.

في بيانها الأخير، دعت “منظمة العفو الدولية” إلى إنشاء آلية دولية لتقصي الحقائق لضمان حقوق الضحايا في الحقيقة، والعدالة، وسبل الإنصاف، وأشارت إلى أن العملية ليست مستقلة أو حيادية بطبيعتها؛ لأن من يُجري التحقيق هو لجنة مؤلفة من وزراء الحكومة والجيش والقوى الأمنية، وهذه مؤسسات أصبحت هي نفسها في دائرة الاتهام.

تؤكد الباحثة في شؤون لبنان في “منظمة العفو الدولية” سحر مندور لـ”درج”، عدم صلاحية المجلس العدلي تولي التحقيقات لأنه لا يملك سلطة مقاضاة المسؤولين الحاليين في السلطة، بما في ذلك الرئيس والوزراء. “لا تتوفر لديه معايير الوصول إلى العدالة فهو محكمة استثنائية ولها قواعدها الاستثائية، وهي غير قابله للطعن من اي طرف أو الاستئناف. وهناك جهة واحدة يسمح لها بمحاكمة الرؤساء والوزراء وهي المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء وهو مكون من 8 قضاة و7 نواب”. ويتم اختيار النواب بموجب تصويت في مجلس النواب، والقضاة من ذوي الرتب العالية يتم تعيينهم بحسب رتبهم، وفي حال تساوي الرتب فبحسب ترتيب الأقدمية. ولكن في شباط/ فبراير 2019 دعا رئيس مجلس النواب إلى عقد جلسة لانتخاب النواب السبعة لعضوية المجلس الأعلى، وتم ذلك بحسب الأصول في شهر آذار/ مارس 2019. لكن السلطة القضائية لم تعين حتى الآن أعضاءها. ما يعني أن المجلس فاقد لشرعيته في اتخاذ أي إجراء، وبالتالي لا محاكمة للسياسيين والمسؤولين. وكانت منظمة العفو وغيرها من المجموعات الحقوقية دعت إلى إجراء تحقيق دولي، لكنه جوبه بالرفض من مسؤولين لبنانيين ووصف الرئيس عون أي تحقيق من هذا القبيل بأن “الهدف منه تضييع الوقت”. وقالت “هيومن رايت ووتش” إنه على “مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان” التي ستجتمع قريباً، أن تحض السلطات اللبنانية على قبول دعوة الأمم المتحدة إلى إجراء تحقيق مستقل. 

وكان صحافيون من قناة “الجديد” المحلية قدموا أدلّة على أن مسؤولين أزالوا وثائق من وزارة الأشغال العامة، التي تشرف على المرفأ، في 9 آب. ثم اندلع حريقان في مرفأ بيروت منذ الانفجار، في 8 و10 أيلول/ سبتمبر، أثار شكوكاً حول التلاعب بمسرح الجريمة. لكن المجلس العدلي لم يتخذ أي إجراءات ضدّ التلاعب، ما أضعف الثقة في صدقية التحقيق. 
في السياق نفسه، أطلق “المرصد الشعبي لمحاربة الفساد” بمشاركة مجموعة من المحامين والصحافيين والنشطاء حملة شعبية بعنوان “القصاص الآن”، تهدف إلى ملاحقة التحقيقات ومتابعة القضية والعمل على تزخيمها لعدم نسيان الجريمة التي مست بجميع المواطنين بشكل مباشر أو غير مباشر. يشرح عضو الحملة جورج عزار أنها تتجه إلى تنظيم حركة وطنية جامعة تمتد إلى المناطق اللبنانية كافة، لمكافحة النسيان والتأقلم في سبيل الضغط على القضاء، “بات من الواضح أن مسار التحقيقات يتجه إلى عدم تحميل المسؤولية للسياسيين بالمستوى المطلوب ووضع الجريمة في خانة الخلل التقني”. وقد نقلت “رويترز” عن مصدر رسمي لم تسمّه قوله إن التحقيقات الأولية تشير إلى “التراخي والاهمال” في تخزين نترات الأمونيوم شديدة الانفجار.

تندرج مسارات المبادرة في ثلاثة منطلقات، أولاً إبقاء الرأي العام مطلعاً على ما يحدث عبر سلسلة مؤتمرات صحافية وندوات قانونية، ثانياً تنظيم اعتصامات وتحركات في المناطق اللبنانية للضغط على القضاء، وثالثاً إطلاق عريضة إلكترونية للتفاعل مع الناس لتنظيم الرأي العام في معركته الوطنية.