شهدت مصر في السنة الأولى بعد إعادة تفعيل عمل “لجنة العفو الرئاسي”، قرارات موسمية بإخلاء سبيل أعداد محدودة من المعتقلين كل بضعة أشهر، وكانت كل قائمة من قوائم العفو تضم عدداً من المحبوسين البارزين، لكن في عامها الثاني ومع إجراء الحوار الوطني وانتهاء جلسات المرحلة الأولى منه، تراجع دورها، ولم تعلن قوائم عفو جديدة منذ آب/ أغسطس 2023.
انفراجة وهمية
لا يرى مدحت الزاهد رئيس حزب “التحالف الشعبي الاشتراكي”، وجود أية انفراجة سياسية حقيقية في مصر، ويقول لـ”درج” إن “النظام يواصل سياسة القبضة الأمنية، ولا يوجد تنفيذ لأي من مخرجات الحوار الوطني، خاصة على مستوى الحريات السياسية، كما لا يوجد علامات جادة على رغبة النظام في إرساء قواعد مجتمع تعددي يتمتع فيه المواطنين بحرية التعبير”.
ويؤكد أن “كل المؤشرات حتى الآن، تدل على أن الحديث عن انفراجة يعكس أماني لدى السلطة والبعض وليس حقيقة على أرض الواقع”، لافتاً إلى أنه “عندما يكون هناك خطوة نحو انفراجة سياسية وفتح مساحة للتعبير عن الرأي بحرية، يكون هناك تردد من النظام في اتخاذها، خوفاً من أن يشجع ذلك الناس على أن يعبرون عن غضبهم من الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشونها، وبالتالي يحدث تراجع عن هذه الخطوة”.
ويرى الزاهد أن نشاط “لجنة العفو الرئاسي” وإفراج النظام عن عدد من المعتقلين السياسيين قبيل الانتخابات الرئاسية الماضية، ثم تراجع الإفراجات “يعطي انطباعاً بأن هذا الأمر كان بهدف إعطاء غطاء لحملة ترشح السيسي لولاية ثالثة، لأنه بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية لم تحدث أية انفراجة”.
ويشير إلى أن “الانفراجة تظهر مع علامات كثيرة وليس في ملف الإفراج عن المحبوسين فقط، كنوع من السياسات التي تتبعها الدولة، وتلبية لاحتياجات المواطنين، ووجود عدالة في تحميل أعباء الأزمة الاقتصادية للجميع وليس الفقراء والطبقة الكادحة، وليكون موقف السلطة من المعارضة أفضل مما هو عليه الآن، وليكون موقفها من التعددية أفضل مما هو عليه الآن”.
مسكنات لامتصاص الغضب
وتوقع الزاهد أن يتم الإفراج عن بعض المعتقلين السياسيين كنوع من “المسكنات والمهدئات”، التي قال إنها “موجودة لامتصاص غضب المواطنين”، ول”إعطاء أمل في إمكانية تحسن الأوضاع”، لكنه شدد على أنه لا يرى “أية انفراجة حقيقة، عدا أن السلطة تعطي مسكنات بسبب حاجتها إلى غطاء لتمرير السياسات، وتهدئة المعارضة”.
وفي حين استنكر “الزج بعشرات الشباب في السجون خلال الفترة الماضية بسبب تعبيرهم عن تضامنهم مع القضية الفلسطينية”، أشار في ختام حديثه إلى أنه “كان هناك اتفاق على تعديل قانون الحبس الاحتياطي الذي يفترض أصلاً أنه لا يسري في قضايا الرأي، ولكن لم يحدث ذلك”.
منذ بداية تموز/ يوليو الجاري، اعتقلت قوات الأمن المصرية تعسفياً 119 شخصاً، بينهم سبع نساء وطفل واحد على الأقل، في ست محافظات بالحد الأدنى، على خلفية دعوات على الإنترنت للمشاركة في احتجاجات مناهضة للحكومة، تحت اسم “ثورة الكرامة” في 12 يوليو/ تموز، بحسب منظمة العفو الدولية، التي طالبت – في بيان – السلطات المصرية “الإفراج فوراً ومن دون قيد أو شرط، عن جميع المعتقلين تعسفياً لمجرد ممارسة حقهم في حرية التعبير”، مع توصيات ب”ضمان قدرة الناس على ممارسة حقهم في الاحتجاج من دون خوف من الانتقام”.
إنكار ثم تفاوض
يقول محمد لطفي المدير التنفيذي “للمفوضية المصرية للحقوق والحريات”، إن “الحكومة المصرية من بعد 2013 كانت تتبع سياسات قمعية شديدة، من دون أي مواربة أو محاولة لتجميل وجهها، وكانت تنكر الاتهامات التي توجه إليها حتى 2019″، لافتاً إلى أن “الظرف السياسي العالمي مع صعود ترامب، وحصول بعض التحالفات الإقليمية، أدى إلى غض الطرف عن الانتهاكات التي تحدث في مصر؛ وهذه كانت أصعب فترة تعيشها البلاد، في ما يخص وضع حقوق الإنسان”.
لكن، برأيه “كان هناك نقطة تحول في سياسة تجاهل الانتقادات، بعد المراجعة الدورية الشاملة في الأمم المتحدة لملف حقوق الإنسان في مصر، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، وجرى خلالها توجيه انتقادات دولية لانتهاكات حقوق الإنسان في بلاد النيل والتنديد باستخدام السلطات المصرية ذريعة الإرهاب للهجوم على النشطاء”.
وقال إنه “بعد وصول جو بايدن إلى الحكم في الولايات المتحدة، وتوجيهه في مناسبات عدة انتقادات لانتهاكات حقوق الإنسان في مصر، أطلقت الحكومة المصرية في أيلول/ سبتمبر 2021، ما أسمته بـالاستراتيجية الوطنية الأولى لحقوق الإنسان، وكان الهدف منها الالتفاف حول التوصيات التي قدمتها الدول خلال المراجعة الشاملة لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وقبلت بها مصر”، مشيراً إلى أن “الاستراتيجية كانت برعاية وزارة الخارجية لأنها بالأساس كانت موجهة إلى لخارج وليس الداخل، ولم تقدم حلولاً جادة لأزمة حقوق الإنسان في مصر”.
إقرأوا أيضاً:
لجنة عفو لأسباب تكتيكية
لكن الحكومة المصرية؛ وفق لطفي، كانت قد بدأت مرحلة تفاوض/ نقاش مع بعض أطراف المعارضة، حيث أعلن الرئيس المصري خلال حفل “إفطار الأسرة المصرية” في نيسان/ أبريل 2022، إطلاق “حوار وطني مع كل القوى السياسية من دون استثناء أو تمييز”، وجرى في الوقت نفسه إعلان “إعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي التي تم تشكيلها كأحد مخرجات المؤتمر الوطني للشباب في العام 2016، لكنها اندثرت واختفت بعد عامين”، مؤكداً أن “إعادة تفعيل لجنة العفو بدون معايير وبدون آليات واضحة لطريقة عملها جاء لأسباب تكتيكية”.
وظهرت فكرة “لجنة العفو الرئاسي” لأول مرة بهدف الإفراج عن المعتقلين السياسيين في تشرين الأول/ أكتوبر 2016، حينما أعلن الرئيس المصري تشكيل لجنة برئاسة أسامة الغزالي حرب الباحث السياسي وأحد القادة السابقين لحزب “المصريين الأحرار”، وعضوية النائب البرلماني طارق الخولي، والكاتبة الصحفية نشوى الحوفي، لدراسة قضايا الشباب المحبوسين في مصر على ذمة قضايا وتقديم لائحة لرئاسة الجمهورية لإصدار قرارات بالعفو عنهم.
وجاء ذلك بعد أن وعد السيسي بمراجعة قانون التظاهر الذي صدر خلال فترة حكم الرئيس الموقت المستشار عدلي منصور في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، وحُبس بسببه عدد كبير من المواطنين.
وبعد شهر من تشكيل هذه اللجنة، أصدر السيسي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016 قراراً بالعفو عن 82 شاباً من المحبوسين على ذمة قضايا تظاهر أو حرية رأي وتعبير، وشمل قرار العفو الأول عدداً كبيراً من طلاب الجامعات، بالإضافة إلى الإعلامي إسلام البحيري الذي حكم عليه بالسجن بسبب انتقاده بعض نصوص التراث الإسلامي، وفي آذار/ مارس 2017، أصدر قراراً جمهورياً بالعفو عن 203 من المحبوسين في قضايا التظاهر والرأي، وكذلك، في حزيران/ يونيو 2017، أصدر قراراً بالعفو عن 175 شاباً من حالات لجنة العفو لتكون القائمة الثالثة ل”لجنة العفو الرئاسي”، وبعد تصريحات عدة في العام 2018 عن تجهيز قائمة رابعة للعفو عن المحبوسين على ذمة قضايا لها علاقة بالرأي والتظاهر، اختفت “لجنة العفو الرئاسي”.
ووفقاً للدستور، لا يحق للرئيس السيسي التدخل في أعمال القضاء، غير أنه يملك سلطة إصدار عفو، لمن صدر بحقهم أحكام قضائية نهائية فقط.
ويصدر عن رئيس الجمهورية قرار بالعفو عن العقوبة، وفقاً لنص المادة 155 من الدستور المصري، التي تنص على أن “لرئيس الجمهورية بعد أخذ رأي مجلس الوزراء العفو عن العقوبة، أو تخفيفها، ولا يكون العفو الشامل إلا بقانون، يُقر بموافقة أغلبية أعضاء مجلس النواب”.
ويختلف العفو عن العقوبة عن العفو عن الجريمة، الذي يُطلق عليه “العفو الشامل”، وهو “لا يصدر إلا بقانون، يُقر بموافقة أغلبية أعضاء مجلس النواب” وفق ما تنص المادة 155 من الدستور؛ وهو “يمنع أو يوقف السير في إجراءات الدعوى أو يمحو حكم الإدانة، ولا يمس حقوق الغير إلا إذا نص القانون الصادر بالعفو على خلاف ذلك”، بحسب ما توضح المادة 76 من قانون العقوبات.
إعادة إحياء
ومع إعادة إحياء “لجنة العفو الرئاسي”، يقول محمد لطفي المدير التنفيذي “للمفوضية المصرية للحقوق والحريات”، لـ”درج” إن “المفوضية أطلقت في أيار/ مايو 2022 استمارة غير رسمية لجمع أسماء وبيانات السجناء، من أسرهم أو محاميهم، لإرسال قوائم عفو، بالإشراك مع منظمات مصرية أخرى، إلى لجنة العفو الرئاسي”، لافتاً إلى أنهم “جمعوا 3138 حالة بين محبوسين احتياطياً ومحكومين، لكن من خرج من هؤلاء كان 205 أشخاص فقط”.
“لكن إجمالي عدد من جرى اعتقالهم وفق رصد المفوضية خلال الفترة من نيسان/ أبريل 2022، وحتى تموز/ يوليو 2023، وصل إلى 4195 معتقلاً”، بحسب ما ذكر لطفي.
مناورة ذكية
ويؤكد لطفي أن “الوعود التي كانت في الحوار الوطني هي إخراج كل المحبوسين احتياطياً”، معتبراً أنها “كانت هذه مناورة الحكومة”، ويرى أن هذه المناورة سببها أن “السيسي كان يحكم سنتين بتزكية تعديل الدستور في 2019″، موضحاً أن “الناس حينما انتخبت السيسي في 2018 انتخبته لـ4 سنين وليس 6 سنوات، لكن بموجب التعديل حصل على سنتين إضافيتين لولايته الرئاسية الثانية، مما يعني أنه من نيسان/ أبريل 2022 لـ نيسان/ أبريل 2024 يحكم بـقوة استفتاء، لذا كان بحاجة إلى مناورة للحكم بهدوء”.
ولفت إلى أن “السنتين الإضافيتين للولاية الرئاسية الثانية للسيسي، شهدت تفاوضاً لمدة سنة في شكل الحوار الوطني، ثم بدأ الحوار الوطني في أيار/ مايو 2023 لمدة 4 شهور تقريباً؛ وخلال هذه الفترة كان عدد المفرج عنهم قليل جداً مقارنة عما قبل الحوار، فيما حصلت الحكومة على مبتغاها من هذه المناورة السياسية الذكية، ونجحت في تجميل صورتها، وصدرت للعالم صورة بأنها تتحاور وتتناقش مع المعارضة التي وقعت في الفخ، وكانت النقاشات أصلاً منصبة حول الحبس الاحتياطي، وقانون الإجراءات الجنائية، وليس السبب الحقيقي الذي يقبع بسببه الآلاف خلف القضبان، وهو قانون الإرهاب وقانون العقوبات”، مشددا على أن “المشكلة الحقيقة تكمن في هذه القوانين التي تجرم الممارسة السلمية للتعبير عن الرأي”.
وإذ أكد لطفي أن “عدد المعتقلين خلال الفترة الماضية زاد ولم يقل، لكن المناورة السياسية التي قامت بها الحكومة توحي وكأنه انخفض، في حين أن الحقيقة هي أن قصاد كل شخص بيخرج، 3 بيدخلوا”، شدد على أن “هناك حاجة إلى إصدار قانون للعفو الشامل عن كل شخص متهم أو مدان على فعل مشروع (كممارسة حقه في التعبير عن الرأي أو التظاهر السلمي) وليس جريمة عن الفترة من 2013 وربما 2011 حتى الآن، فلا بد من العفو عن كل شخص تمت إدانته بسبب ممارسته لحقوقه الدستورية”.
يُذكر أن “لجنة العفو الرئاسي” الأولى كانت تستبعد المنتمين إلى جماعة “الإخوان المسلمين”، بحسب تصريحات أحد أعضائها، كما أن أعضاء باللجنة الحالية قالوا أيضاً إنهم لن يفكروا “في إطلاق سراح أعضاء جماعة الإخوان المسلمين المحتجزين”، كما نقلت منظمة العفو الدولية عن العديد من ذوي الذين قدموا طلبات إلى اللجنة لمراجعة احتجاز أبنائهم، قولهم “إن اثنين من أعضاء اللجنة طلبا رؤية أدلة على أن المحتجزين لا ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين”.
وفي أيار/ مايو 2024، قالت مؤسسة “كوميتي فور جستس” الحقوقية إنه “بعد مرور عام على تفعيل عمل لجنة العفو الرئاسي في مصر، رصدت فرق مراقبة المؤسسة عمليات الإفراج عن 754 شخصاً من المحبوسين في قضايا الرأي؛ سواء بإخلاء سبيلهم من النيابات المختلفة أو بالعفو الرئاسي، وكان عدد المحكوم عليهم بأحكام قضائية واجبة ممن صدر بحقهم قراراً رئاسياً بالعفو عن العقوبة 10 سجناء، بينما تم إخلاء سبيل 744 متهماً قيد الحبس الاحتياطي، بناءً على 14 قراراً متفرقاً بإخلاء السبيل على ذمة قضايا مختلفة من نيابة أمن الدولة العليا، مصحوباً بتصريحات أعضاء اللجنة حول هذه الإفراجات لكونها تكليلاً لجهود اللجنة”.
على الجانب الآخر، حققت نيابة أمن الدولة العليا منذ أبريل / نيسان 2022 حتى أبريل / نيسان 2023 مع 4 أضعاف عدد المُفرج عنهم تقريباً، فوفقاً لما رصدته “كوميتي فور جستس” خلال الفترة المذكورة، مثل 3250 مواطناً للتحقيق أمام نيابة أمن الدولة العليا على ذمة قضايا مختلفة؛ سواء تم القبض عليهم لأول مرة أو تعرضوا للتدوير من داخل الاحتجاز على ذمة قضايا جديدة.
وفي آب/ أغسطس 2023، أعلن أعضاء في “لجنة العفو الرئاسي” صدور قرار جمهوري من الرئيس المصري بالعفو عن بعض المحكوم عليهم بأحكام نهائية ومنهم الشاعر والناشط السياسي أحمد دومة.
ومن بعد هذا الإعلان اختفى دور اللجنة باستثناء بعض التصريحات الإعلامية، التي كان أبرزها في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، حينما قال النائب البرلماني محمد عبدالعزيز عضو اللجنة إن “عدد من تم الإفراج عنهم منذ إعادة تفعيل اللجنة تجاوز 1400 شخص”، وهو الرقم الذي يقل كثيراً عن عدد المعتقلين من نيسان/ أبريل 2022 حتى نيسان/ أبريل 2023، وفق منظمات حقوقية.
وتقول منظمة العفو الدولية في تقريرها عن حالة حقوق الإنسان في مصر عام 2023، إنه خلال 2023، أُفرج عن 834 سجيناً من المحتجزين لأسباب سياسية، بينما أجرت نيابة أمن الدولة العليا تحقيقات مع ما لا يقل عن 2,504 من المُشتبه أنهم منتقدون أو معارضون اعتُقلوا في عام 2023، بتهم الضلوع في جرائم تتصل بالإرهاب، وبجرائم معلوماتية، وبالمظاهرات، وبنشر “أخبار كاذبة”.
ورفضت قوات الأمن الإفراج عن 251 محتجزاً صدرت قرارات بتبرئتهم أو الإفراج عنهم موقتاً من وكلاء النيابة أو القضاة، أو أكملوا مدد أحكام السجن الصادرة ضدهم، وفق العفو الدولية، التي أشارت أيضا إلى أن قوات الأمن، بما في ذلك قطاع الأمن الوطني، واصلت في العام 2023، إخضاع معارضين للاختفاء القسري، وبناء على ما ذكرته حملة “أوقفوا الاختفاء القسري”، فقد تعرَّض ما لا يقل عن 70 شخصاً ممن اعتقلوا في عام 2023، للاختفاء القسري، بينما ظل مصير ستة أشخاص منهم ومكانهم طي المجهول.
إقرأوا أيضاً: