fbpx

انقلاب الحوثيين: 10 سنوات من الظلام 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عشر سنوات من الحرب، من الانقلابات، من انتهاكات حقوق الإنسان التي تجعل حتى الشيطان يحمرّ خجلاً، ومع ذلك… الناس باقون. وربما هذا يكفي. أتجول في شوارع هذه المدينة المحتضرة، وأسمع صمت الجرحى. صمت ثقيل، رهيب، لكن بداخله، أعتقد أنني أسمع شيئاً آخر، همسة، دندنة، أغنية خافتة تقول، “لم ننته بعد”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ذهبت الى صنعاء قبل عامين، وكانت تلك زيارتي الأخيرة.  كنت أتجوّل في شوارع العاصمة اليمنية، التي تبدو بعيني وكأنها عظام حيوان يُحتضر، نهشته النسور وتركته يتعفّن تحت الشمس. 

ترى ملامح الاحتضار في عيون الناس، فالنساء مغطيات من الرأس إلى القدمين بالسواد، يتحركن كالأشباح في الأزقة، وجوههن مخفية لكن عيونهن مليئة بالقصص—قصص لن يروينها أبداً، لا هنا ولا الآن.

 أولئك نساء لا مكان لهن في هذا “اليمن الجديد”، لا صوت، لا حقوق،  والأطفال-يا إلهي، الأطفال! صور “الأطفال الجنود” معلّقة على جدران المدينة، يحدقون وكأنهم يسألونني: ما ذنبنا في هذه الحرب؟ لماذا تُزهق أرواحنا في أصداء نيران المدفعية؟

أما المعتقلون والمخفيون قسراً، أولئك الذين تجرأوا على الكلام أو وُجدوا في المكان الخطأ والوقت الخطأ، فلن يتحدث عنهم أحد إلا أقرباؤهم الحائرون بين حداد وأمل العودة.

أذكر زيارتي تلك وأنا أعيش الذكرى السنوية العاشرة منذ أن استولى  الحوثيون على صنعاء في 21 أيلول/ سبتمبر 2014، ورفعوا رايتهم فوق المدينة المتداعية وأعلنوها لهم. عشر سنوات منذ انقلابٍ ارتدى ثوب الثورة ونسف ما تبقى من سلام هشّ في اليمن، عشر سنوات من الظلام، نحت خلالها الحوثيون اسمهم على كل جدار، وكل زاوية شارع، وكل همسة في الرياح.

قبل عشر سنوات، كان اليمن يتفكّك بالفعل، خيوطه ممزقة نتيجة عقود من الفساد والإهمال خلال حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح، ويواجه مشاكل سياسية واقتصادية عميقة، وكان في حاجة ماسة إلى إصلاحات سياسية ديمقراطية واقتصادية. 

بدت انتفاضة 2011 ضد حكم صالح وكأنها بصيص أمل لتحقيق تغيير حقيقي والتحول إلى نظام ديمقراطي. في البداية، كانت هناك فرصة عظيمة، وكانت الانتفاضة تتجلى بسلميتها على رغم كل التعقيدات السياسية والقبلية في البلاد.

خارطة الطريق نحو الهاوية

لأن قدر اليمن أن يكون بجوار دول الخليج الملكية، تدخل الجيران في صياغة شكل العملية الانتقالية برؤيتهم المشوهة لمعنى الديمقراطية، فجاءت “مبادرة مجلس التعاون الخليجي” كاتفاق سياسي صاغته دول مجلس التعاون الخليجي في عام 2011. 

نصت المبادرة على خطة لانتقال السلطة، بحيث يتنحى صالح مقابل الحصانة من الملاحقة القضائية، وتشكيل حكومة انتقالية بقيادة نائبه، عبد ربه منصور هادي، وحددت خارطة طريق للحوار الوطني والانتخابات.

وهكذا تبلورت العملية الانتقالية في ما سُمي بـ”مؤتمر الحوار الوطني”، كجزء من بنود المبادرة التي منحت الحصانة لصالح، وهي الكارثة التي يدفع اليمن ثمنها القاسي حتى اليوم.

 بحلول عام 2014، تلاشى أمل التغيير في سحابة من الخيبة. فتدهور الوضع السياسي وفشلت العملية الانتقالية التي كان من المفترض أن تحقق الإصلاح السياسي، في تحقيق نتائج ذات مغزى بسبب التشرذم السياسي، والافتقار إلى الالتزام الحقيقي من جانب النخب السياسية في اليمن. 

لكن السبب الأهم كان تحالف علي عبدالله صالح مع جماعة الحوثيين لإفشال العملية الانتقالية. وسط تلك الفوضى كلها، دخل الحوثيون بدعم عسكري من صالح كذئاب تشم رائحة الضعف، واقتاتوا على ضعف الحكومة والمظالم التي لم تُحل للشعب اليمني.

عام 2015، بدأ التدخل الخارجي، فقصف الجيش السعودي اليمن حتى يعود إلى جذوره المكسورة، ولم يعد الصراع يمنياً فقط، بل أصبح مسرحاً للتنافسات الإقليمية؛ كل صاروخ، وكل غارة جوية، بيان بلغة القوة والموت. شوارع صنعاء أصبحت مقبرة للأحلام، والسماوات مظلمة بالطائرات المسيّرة واليأس. الحوثيون، بتمسكهم بمواقعهم، حفروا أعمق، وأصبح خطابهم أكثر حدّة بدماء الرمال، محوّلين الأزمة إلى مرثية لا نهاية لها.

يتحدث الحوثيون عن الكرامة، لكن أفعالهم تعكس السيطرة والهيمنة، يسلبون حرية العمل، السفر، العيش من دون ظل رجل يتربّص فوق النساء كطيفٍ مظلم غير مرغوب. 

لماذا كانت هذه الحرب؟ سؤال أسمعه يهمس أحياناً، يُصرخ أحياناً، لكن لا إجابة عنه أبداً. دخل الحوثيون هذه المدينة بأسلحتهم، يسيرون تحت أعلامهم الخضراء والحمراء، يهتفون شعاراتهم :”الموت لأميركا… الموت لإسرائيل… اللعنة على اليهود… النصر للإسلام” لكن كل ما جلبوه هو الموت لليمنيين. 

يحمل الحوثيون بأيديهم أكثر من مجرد بنادق؛ يحملون روح أمة، ويعيدون تشكيلها، قطعةً قطعة، ملأوا عقول الشباب بأغاني الحرب والانتقام، يغذونهم بأوهام الاستشهاد بينما يسرقون منهم مستقبلهم، جيل يُحتجز رهينة أفكار لم يخترها، أُدلج باسم قضية أعلى وأقدس.

“مملكة من الرماد والغبار”

يدّعي الحوثيون أنهم يحكمون هذه الأرض الآن، لكن أي نوع من الحكم هذا؟ مملكة من الرماد والغبار، عهد من الصمت لا يكسره سوى صرخات من فقدوا كل شيء. 

عشر سنوات من الاعتقالات التعسفية، وغرف التعذيب المخفية وراء جدران سميكة حيث تُخنق الصرخات بطبقات من الخرسانة والخداع. قتل شباب كثيرون تحت تعذيب لا يخطر لا على البال ولا على الخاطر.

ذلك القمع والتعذيب كله ترك أثراً كبيراً في نفوس البشر، لا يمكنك أن تمشي في أي حي من دون أن تشعر بالعيون تراقبك، عيون لا تعرف الرحمة، عيون تسأل: “هل أنت معهم أم ضدهم؟”، كأنما هناك خياران فقط في هذا العالم المليء بالرمادي اللامتناهي.

تنازلات سعوديّة بلا قتال

شيئاً ما حدث في الربع الأخير من هذا العقد على حكم الحوثيين، الذين يشددون قبضتهم على صنعاء ومن ثم البحر الأحمر، لم يتوقعوه، فالسعوديون، بغباء سياسي، منحوا الحوثيين تنازلات بلا قتال، ما أذكى نار الغطرسة في قلوبهم، ظنوا أنهم انتصروا، بدأوا يتحدثون بشكل أكثر صراحة وجرأة عن رؤيتهم لمستقبل اليمن، رؤية ليست للجمهورية، بل للثيوقراطية، حيث لا حق للحكم إلا لقلة مختارة، أبناء الحسن والحسين.

في كشفهم عن أنفسهم، ربما زرع الحوثيون بذور هزيمتهم. نسوا أن اليمن ليس مجرد مكان—إنه شعب، وهذا الشعب تذوق شيئاً لا يمكن محوه: طعم الجمهورية، طعم المساواة.

 في 26 أيلول/ سبتمبر العام الماضي ، امتلأت شوارع صنعاء وما بعدها بصيحات التحدي، خرج الرجال والنساء العاديون، يلوحون بعلم اليمن الجمهوري، يغنون النشيد الوطني، مستعيدين روح الجمهورية التي قيل لهم إنها ماتت منذ زمن بعيد.

حاولت جماعة الحوثيين قمع تلك المقاومة التي لم تكن تتوقعها، محاولةً السيطرة على الموقف، ووعدت الجماعة بإنشاء حكومة “تكنوقراط”، فأتت بخبر تشكيل حكومة أسمتها حكومة “التغيير والبناء”.  

ومع ذلك، لا يزال الحوثيون عازمين، يحلمون بإنهاء الجمهورية وإنشاء دولة شمولية. يريدون تشكيل اليمن على صورتهم الخاصة، حيث لا مكان للاختلاف والتنوع. بالنسبة إليهم، المساواة كلمة قذرة والتنوع جريمة. فقط للنقيّ المُختار الحق في الحكم، والبقية يجب أن ينحنوا أو يخاطروا بأعناقهم. يتحدث قادتهم عن “قائد مقدس”، حاكم “مقدس” يقف فوق الانتخابات، فوق النقاش، فوق الجميع.

كابوس “الحق الإلهي”

هذه ليست الجمهورية التي عرفها اليمن يوماً، بل إنه كابوس مغلف بحق إلهي. يخبرنا مسؤول حوثي بألا حاجة الى دستور، وأن القرآن فقط يمكن أن يوجهنا الآن، لكننا نعلم إلى أين يقود هذا: إلى جدران لها آذان، حيث كل همسة اعتراض هي حكم إعدام محتمل.

لكن حتى في هذا المشهد المظلم، هناك بريق من المقاومة والتمرد، وصوت الحياة التي ترفض أن تنطفئ، ربما نحن على موعد آخر مع تظاهرة أخرى في 26 أيلول. هناك سياسيون يمنيون وبرلمانيون وآخرون يتحدثون، أصواتهم مرتجفة ولكن واضحة، ضد انتهاكات جماعة الحوثي وضد التسلط الزاحف، يواجهون السخرية والتهديدات وحتى السجن، لكنهم يتحدثون على رغم ذلك. يعتقد الحوثيون أنهم يمكنهم إسكات هذه الأصوات، لكنهم ينسون: للصمت أيضاً طريقة في التحدث.

وماذا عن الشعب؟ بإمكان الحوثيين أن يسلبوا حقوقهم، أصواتهم، حرياتهم، لكنهم لا يستطيعون أن يسلبوا روحهم. تلك الروح المولودة من نيران ثورة 1962، التي لا يمكن إخمادها بسهولة، تبقى في شوارع صنعاء، في الأغاني والقصص التي تُنقل من الأم إلى الابنة، ومن الأب إلى الابن.

قد يظن الحوثيون أنهم يصنعون يمناً جديداً، يمناً يعكس أحلامهم الأكثر ظلمة. لكن لكل علم يصادرونه، يرتفع عشرة أخرى. لكل صوت يسكتونه، يتحدث مائة آخرون. قد يسحقون العظام، يكسرون الأجساد، ويسجنون الأرواح، لكن فكرة الجمهورية، فكرة اليمن الحر شيء لا يمكنهم قتله.

وهكذا تستمر المعركة، ليس فقط بالبنادق والقنابل، بل بالكلمات والتحدي والرفض الصامت الذي يرفض التنازل  في سبيل الحرية. كشف الحوثيون عن أنفسهم، وبفعلهم هذا، أظهروا للعالم بالضبط ما يخشونه أكثر: يمن لا ينحني، يمن لا ينكسر.

تستمر الحياة بطريقة ما،  حياة عنيدة سخيفة، ترفض أن تُطفأ. أراها في الرجل العجوز الذي لا يزال يسير بعربته المتجولة كل صباح، يبيع ما يستطيع أن يجده، حفنة من المانجو أو الرمان اليمني، أو بضع خضراوات ذابلة. أراها في الشابة التي تكتب قصائد لن تنشرها أبداً، تخبئها في طيات ثوبها كقنابل صغيرة من التحدي. أراها في ضحكات الأطفال الذين نسيوا ما فقدوه لأنهم لم يعرفوا شيئاً آخر. الحياة تستمر، تتشبث بحواف هذه الفوضى ككرمة تزحف على جدار، تمتد نحو شمس تريد أن تراها.

أتساءل، ماذا يبقى منا عندما نُجرد من كل شيء؟ عندما يكون الأمل نفسه رفاهية لا نملكها؟ ربما تكون الإجابة: الإرادة العنيدة التي لا تلين، أن نستمر في التنفس والتحرك، وكتابة قصصنا حتى عندما يجف الحبر، أن ننظر إلى الجنون من حولنا ونرفض أن نغمض أعيننا، أن نقول في وجه هذا كله: “ما زلت هنا”.

عشر سنوات من الحرب، من الانقلابات، من انتهاكات حقوق الإنسان التي تجعل حتى الشيطان يحمرّ خجلاً، ومع ذلك… الناس باقون. وربما هذا يكفي. أتجول في شوارع هذه المدينة المحتضرة، وأسمع صمت الجرحى. صمت ثقيل، رهيب، لكن بداخله، أعتقد أنني أسمع شيئاً آخر، همسة، دندنة، أغنية خافتة تقول، “لم ننته بعد”.

عشر سنوات من الحرب، من الانقلابات، من انتهاكات حقوق الإنسان التي تجعل حتى الشيطان يحمرّ خجلاً، ومع ذلك… الناس باقون. وربما هذا يكفي. أتجول في شوارع هذه المدينة المحتضرة، وأسمع صمت الجرحى. صمت ثقيل، رهيب، لكن بداخله، أعتقد أنني أسمع شيئاً آخر، همسة، دندنة، أغنية خافتة تقول، “لم ننته بعد”.

ذهبت الى صنعاء قبل عامين، وكانت تلك زيارتي الأخيرة.  كنت أتجوّل في شوارع العاصمة اليمنية، التي تبدو بعيني وكأنها عظام حيوان يُحتضر، نهشته النسور وتركته يتعفّن تحت الشمس. 

ترى ملامح الاحتضار في عيون الناس، فالنساء مغطيات من الرأس إلى القدمين بالسواد، يتحركن كالأشباح في الأزقة، وجوههن مخفية لكن عيونهن مليئة بالقصص—قصص لن يروينها أبداً، لا هنا ولا الآن.

 أولئك نساء لا مكان لهن في هذا “اليمن الجديد”، لا صوت، لا حقوق،  والأطفال-يا إلهي، الأطفال! صور “الأطفال الجنود” معلّقة على جدران المدينة، يحدقون وكأنهم يسألونني: ما ذنبنا في هذه الحرب؟ لماذا تُزهق أرواحنا في أصداء نيران المدفعية؟

أما المعتقلون والمخفيون قسراً، أولئك الذين تجرأوا على الكلام أو وُجدوا في المكان الخطأ والوقت الخطأ، فلن يتحدث عنهم أحد إلا أقرباؤهم الحائرون بين حداد وأمل العودة.

أذكر زيارتي تلك وأنا أعيش الذكرى السنوية العاشرة منذ أن استولى  الحوثيون على صنعاء في 21 أيلول/ سبتمبر 2014، ورفعوا رايتهم فوق المدينة المتداعية وأعلنوها لهم. عشر سنوات منذ انقلابٍ ارتدى ثوب الثورة ونسف ما تبقى من سلام هشّ في اليمن، عشر سنوات من الظلام، نحت خلالها الحوثيون اسمهم على كل جدار، وكل زاوية شارع، وكل همسة في الرياح.

قبل عشر سنوات، كان اليمن يتفكّك بالفعل، خيوطه ممزقة نتيجة عقود من الفساد والإهمال خلال حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح، ويواجه مشاكل سياسية واقتصادية عميقة، وكان في حاجة ماسة إلى إصلاحات سياسية ديمقراطية واقتصادية. 

بدت انتفاضة 2011 ضد حكم صالح وكأنها بصيص أمل لتحقيق تغيير حقيقي والتحول إلى نظام ديمقراطي. في البداية، كانت هناك فرصة عظيمة، وكانت الانتفاضة تتجلى بسلميتها على رغم كل التعقيدات السياسية والقبلية في البلاد.

خارطة الطريق نحو الهاوية

لأن قدر اليمن أن يكون بجوار دول الخليج الملكية، تدخل الجيران في صياغة شكل العملية الانتقالية برؤيتهم المشوهة لمعنى الديمقراطية، فجاءت “مبادرة مجلس التعاون الخليجي” كاتفاق سياسي صاغته دول مجلس التعاون الخليجي في عام 2011. 

نصت المبادرة على خطة لانتقال السلطة، بحيث يتنحى صالح مقابل الحصانة من الملاحقة القضائية، وتشكيل حكومة انتقالية بقيادة نائبه، عبد ربه منصور هادي، وحددت خارطة طريق للحوار الوطني والانتخابات.

وهكذا تبلورت العملية الانتقالية في ما سُمي بـ”مؤتمر الحوار الوطني”، كجزء من بنود المبادرة التي منحت الحصانة لصالح، وهي الكارثة التي يدفع اليمن ثمنها القاسي حتى اليوم.

 بحلول عام 2014، تلاشى أمل التغيير في سحابة من الخيبة. فتدهور الوضع السياسي وفشلت العملية الانتقالية التي كان من المفترض أن تحقق الإصلاح السياسي، في تحقيق نتائج ذات مغزى بسبب التشرذم السياسي، والافتقار إلى الالتزام الحقيقي من جانب النخب السياسية في اليمن. 

لكن السبب الأهم كان تحالف علي عبدالله صالح مع جماعة الحوثيين لإفشال العملية الانتقالية. وسط تلك الفوضى كلها، دخل الحوثيون بدعم عسكري من صالح كذئاب تشم رائحة الضعف، واقتاتوا على ضعف الحكومة والمظالم التي لم تُحل للشعب اليمني.

عام 2015، بدأ التدخل الخارجي، فقصف الجيش السعودي اليمن حتى يعود إلى جذوره المكسورة، ولم يعد الصراع يمنياً فقط، بل أصبح مسرحاً للتنافسات الإقليمية؛ كل صاروخ، وكل غارة جوية، بيان بلغة القوة والموت. شوارع صنعاء أصبحت مقبرة للأحلام، والسماوات مظلمة بالطائرات المسيّرة واليأس. الحوثيون، بتمسكهم بمواقعهم، حفروا أعمق، وأصبح خطابهم أكثر حدّة بدماء الرمال، محوّلين الأزمة إلى مرثية لا نهاية لها.

يتحدث الحوثيون عن الكرامة، لكن أفعالهم تعكس السيطرة والهيمنة، يسلبون حرية العمل، السفر، العيش من دون ظل رجل يتربّص فوق النساء كطيفٍ مظلم غير مرغوب. 

لماذا كانت هذه الحرب؟ سؤال أسمعه يهمس أحياناً، يُصرخ أحياناً، لكن لا إجابة عنه أبداً. دخل الحوثيون هذه المدينة بأسلحتهم، يسيرون تحت أعلامهم الخضراء والحمراء، يهتفون شعاراتهم :”الموت لأميركا… الموت لإسرائيل… اللعنة على اليهود… النصر للإسلام” لكن كل ما جلبوه هو الموت لليمنيين. 

يحمل الحوثيون بأيديهم أكثر من مجرد بنادق؛ يحملون روح أمة، ويعيدون تشكيلها، قطعةً قطعة، ملأوا عقول الشباب بأغاني الحرب والانتقام، يغذونهم بأوهام الاستشهاد بينما يسرقون منهم مستقبلهم، جيل يُحتجز رهينة أفكار لم يخترها، أُدلج باسم قضية أعلى وأقدس.

“مملكة من الرماد والغبار”

يدّعي الحوثيون أنهم يحكمون هذه الأرض الآن، لكن أي نوع من الحكم هذا؟ مملكة من الرماد والغبار، عهد من الصمت لا يكسره سوى صرخات من فقدوا كل شيء. 

عشر سنوات من الاعتقالات التعسفية، وغرف التعذيب المخفية وراء جدران سميكة حيث تُخنق الصرخات بطبقات من الخرسانة والخداع. قتل شباب كثيرون تحت تعذيب لا يخطر لا على البال ولا على الخاطر.

ذلك القمع والتعذيب كله ترك أثراً كبيراً في نفوس البشر، لا يمكنك أن تمشي في أي حي من دون أن تشعر بالعيون تراقبك، عيون لا تعرف الرحمة، عيون تسأل: “هل أنت معهم أم ضدهم؟”، كأنما هناك خياران فقط في هذا العالم المليء بالرمادي اللامتناهي.

تنازلات سعوديّة بلا قتال

شيئاً ما حدث في الربع الأخير من هذا العقد على حكم الحوثيين، الذين يشددون قبضتهم على صنعاء ومن ثم البحر الأحمر، لم يتوقعوه، فالسعوديون، بغباء سياسي، منحوا الحوثيين تنازلات بلا قتال، ما أذكى نار الغطرسة في قلوبهم، ظنوا أنهم انتصروا، بدأوا يتحدثون بشكل أكثر صراحة وجرأة عن رؤيتهم لمستقبل اليمن، رؤية ليست للجمهورية، بل للثيوقراطية، حيث لا حق للحكم إلا لقلة مختارة، أبناء الحسن والحسين.

في كشفهم عن أنفسهم، ربما زرع الحوثيون بذور هزيمتهم. نسوا أن اليمن ليس مجرد مكان—إنه شعب، وهذا الشعب تذوق شيئاً لا يمكن محوه: طعم الجمهورية، طعم المساواة.

 في 26 أيلول/ سبتمبر العام الماضي ، امتلأت شوارع صنعاء وما بعدها بصيحات التحدي، خرج الرجال والنساء العاديون، يلوحون بعلم اليمن الجمهوري، يغنون النشيد الوطني، مستعيدين روح الجمهورية التي قيل لهم إنها ماتت منذ زمن بعيد.

حاولت جماعة الحوثيين قمع تلك المقاومة التي لم تكن تتوقعها، محاولةً السيطرة على الموقف، ووعدت الجماعة بإنشاء حكومة “تكنوقراط”، فأتت بخبر تشكيل حكومة أسمتها حكومة “التغيير والبناء”.  

ومع ذلك، لا يزال الحوثيون عازمين، يحلمون بإنهاء الجمهورية وإنشاء دولة شمولية. يريدون تشكيل اليمن على صورتهم الخاصة، حيث لا مكان للاختلاف والتنوع. بالنسبة إليهم، المساواة كلمة قذرة والتنوع جريمة. فقط للنقيّ المُختار الحق في الحكم، والبقية يجب أن ينحنوا أو يخاطروا بأعناقهم. يتحدث قادتهم عن “قائد مقدس”، حاكم “مقدس” يقف فوق الانتخابات، فوق النقاش، فوق الجميع.

كابوس “الحق الإلهي”

هذه ليست الجمهورية التي عرفها اليمن يوماً، بل إنه كابوس مغلف بحق إلهي. يخبرنا مسؤول حوثي بألا حاجة الى دستور، وأن القرآن فقط يمكن أن يوجهنا الآن، لكننا نعلم إلى أين يقود هذا: إلى جدران لها آذان، حيث كل همسة اعتراض هي حكم إعدام محتمل.

لكن حتى في هذا المشهد المظلم، هناك بريق من المقاومة والتمرد، وصوت الحياة التي ترفض أن تنطفئ، ربما نحن على موعد آخر مع تظاهرة أخرى في 26 أيلول. هناك سياسيون يمنيون وبرلمانيون وآخرون يتحدثون، أصواتهم مرتجفة ولكن واضحة، ضد انتهاكات جماعة الحوثي وضد التسلط الزاحف، يواجهون السخرية والتهديدات وحتى السجن، لكنهم يتحدثون على رغم ذلك. يعتقد الحوثيون أنهم يمكنهم إسكات هذه الأصوات، لكنهم ينسون: للصمت أيضاً طريقة في التحدث.

وماذا عن الشعب؟ بإمكان الحوثيين أن يسلبوا حقوقهم، أصواتهم، حرياتهم، لكنهم لا يستطيعون أن يسلبوا روحهم. تلك الروح المولودة من نيران ثورة 1962، التي لا يمكن إخمادها بسهولة، تبقى في شوارع صنعاء، في الأغاني والقصص التي تُنقل من الأم إلى الابنة، ومن الأب إلى الابن.

قد يظن الحوثيون أنهم يصنعون يمناً جديداً، يمناً يعكس أحلامهم الأكثر ظلمة. لكن لكل علم يصادرونه، يرتفع عشرة أخرى. لكل صوت يسكتونه، يتحدث مائة آخرون. قد يسحقون العظام، يكسرون الأجساد، ويسجنون الأرواح، لكن فكرة الجمهورية، فكرة اليمن الحر شيء لا يمكنهم قتله.

وهكذا تستمر المعركة، ليس فقط بالبنادق والقنابل، بل بالكلمات والتحدي والرفض الصامت الذي يرفض التنازل  في سبيل الحرية. كشف الحوثيون عن أنفسهم، وبفعلهم هذا، أظهروا للعالم بالضبط ما يخشونه أكثر: يمن لا ينحني، يمن لا ينكسر.

تستمر الحياة بطريقة ما،  حياة عنيدة سخيفة، ترفض أن تُطفأ. أراها في الرجل العجوز الذي لا يزال يسير بعربته المتجولة كل صباح، يبيع ما يستطيع أن يجده، حفنة من المانجو أو الرمان اليمني، أو بضع خضراوات ذابلة. أراها في الشابة التي تكتب قصائد لن تنشرها أبداً، تخبئها في طيات ثوبها كقنابل صغيرة من التحدي. أراها في ضحكات الأطفال الذين نسيوا ما فقدوه لأنهم لم يعرفوا شيئاً آخر. الحياة تستمر، تتشبث بحواف هذه الفوضى ككرمة تزحف على جدار، تمتد نحو شمس تريد أن تراها.

أتساءل، ماذا يبقى منا عندما نُجرد من كل شيء؟ عندما يكون الأمل نفسه رفاهية لا نملكها؟ ربما تكون الإجابة: الإرادة العنيدة التي لا تلين، أن نستمر في التنفس والتحرك، وكتابة قصصنا حتى عندما يجف الحبر، أن ننظر إلى الجنون من حولنا ونرفض أن نغمض أعيننا، أن نقول في وجه هذا كله: “ما زلت هنا”.

عشر سنوات من الحرب، من الانقلابات، من انتهاكات حقوق الإنسان التي تجعل حتى الشيطان يحمرّ خجلاً، ومع ذلك… الناس باقون. وربما هذا يكفي. أتجول في شوارع هذه المدينة المحتضرة، وأسمع صمت الجرحى. صمت ثقيل، رهيب، لكن بداخله، أعتقد أنني أسمع شيئاً آخر، همسة، دندنة، أغنية خافتة تقول، “لم ننته بعد”.