في حين استحوذت مذبحة غزة الدامية على انتباه العالم، كانت الحكومة الإسرائيلية تدير بهدوء تحولاً سياسياً كبيراً: الضم الفعلي للضفة الغربية.
تحت ستار “الأمن”، وفي خضم فوضى حرب الإبادة ضد غزة، نفذ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش سلسلة من التغييرات الإدارية، وأعادا تشكيل السيطرة الإسرائيلية على الأراضي المحتلة، ودفعا بضم الضفة الغربية خلال الأشهر القليلة الماضية.
تمثل هذه الخطوة، التي غفل عنها أو تجاهلها المجتمع الدولي والمواطنون الإسرائيليون إلى حد كبير، خطوة جريئة ومثيرة للجدل نحو ترسيخ السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية.
في 29 مايو/أيار، نقل الجيش الإسرائيلي صلاحيات قانونية كبيرة في الضفة الغربية المحتلة، إلى موظفين مدنيين مؤيدين للمستوطنين تحت قيادة سموتريتش، زعيم حزب الصهيونية الدينية اليميني المتطرف.
نقلت هذه الخطوة المسؤولية عن العديد من القوانين الفرعية داخل الإدارة المدنية ــ الهيئة الإسرائيلية التي تحكم الضفة الغربية ــ من الجيش إلى مسؤولين بقيادة سموتريتش في وزارة الدفاع، وقد أسس هذا التحول دوراً مدنياً جديداً: “نائب رئيس الشؤون المدنية” داخل الإدارة المدنية، ومن خلال تحويل إدارة الضفة الغربية من السيطرة العسكرية إلى السيطرة المدنية، غيرت الحكومة الإسرائيلية الوضع الراهن جذرياً، ممهدة الطريق للحكم الإسرائيلي الدائم على المنطقة، وهو ما يعادل الضم بحكم الأمر الواقع.

ويسهل الهيكل الإداري الجديد زيادة الأنشطة الاستيطانية، والبناء السريع للبنية الأساسية الإسرائيلية، وهدم المباني الفلسطينية، والواقع أن إسرائيل وافقت على أوسع عملية مصادرة للأراضي في الضفة الغربية المحتلة منذ أكثر من ثلاثة عقود: 12.7 كيلومترات مربعة في وادي الأردن ــ وهي الأكبر منذ اتفاقيات أوسلو عام 1993، التي تلي عمليات الاستيلاء السابقة على الأراضي التي بلغت 8 كيلومترات مربعة في مارس/آذار و2.6 كيلومترات مربعة في فبراير/شباط.
ويربط هذا التخصيص الكبير المستوطنات الإسرائيلية على طول ممر رئيسي مجاور للأردن، مما يشكل تهديداً خطيراً لتشكيل دولة فلسطينية في المستقبل.
في تسجيل مسرب من قبل منظمة “السلام الآن”، أعلن سموتريتش بفخر أن مصادرة الأراضي في عام 2024 تجاوزت المتوسطات السنوية السابقة بعشرة أضعاف، معرباً عن التزامه بمنع إقامة دولة فلسطينية، وتضمنت سياساته، التي تهدف إلى تعزيز التوسع الاستيطاني، توجيهات للوزارات الإسرائيلية للاستعداد لتدفق 500 ألف مستوطن إلى الضفة الغربية.
في الوقت نفسه، كان هناك ارتفاع في العنف والنزوح، مع زيادة المستوطنين لهجماتهم وقيام الجيش بهدم المنازل. في أواخر يونيو/ حزيران، هدم الجنود الإسرائيليون 11 منزلاً في أم الخير، وهي قرية تقع في محافظة الخليل، مما أدى إلى تشريد 50 شخصاً، وفي أوائل يوليو/ تموز، استخدموا الذخيرة الحية والغاز المسيل للدموع ضد ستة قرويين فلسطينيين، فيهم امرأة وطفل صغير، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في المنطقة، وأشار محامي حقوق الإنسان مايكل سفارد في مقال في صحيفة “الجارديان” إلى أن هذه الخطوة من شأنها أن تبدد أي شكوك حول نوايا إسرائيل بشأن الضم.
الإجراءات السريعة التي اتخذها سموتريتش فور توليه منصبه الحكومي؛ الموافقة على بناء آلاف الوحدات الاستيطانية الجديدة، و”إضفاء الشرعية” على البؤر الاستيطانية غير المرخصة، وفرض المزيد من القيود على البناء الفلسطيني، توضح التزامه بتغيير وضع الضفة الغربية.
على الصعيد الدولي، هناك مخاوف متزايدة بشأن التأثير المزعزع للاستقرار لهذه السياسات، وتشير التقارير إلى أن المسؤولين الأميركيين يفكرون في فرض عقوبات على سموتريتش بسبب توسعه الاستيطاني العدواني، وتداعيات ذلك على الاستقرار الإقليمي، ولم يزد اعتماد نتنياهو على شركاء الائتلاف اليمينيين المتطرفين، بمن فيهم سموتريتش، إلا حدة في أعقاب مذبحة غزة.
ولكن ما هي الانقسامات بالضبط داخل الضفة الغربية، وكيف تؤثر على حياة الفلسطينيين؟
احتلّت إسرائيل الضفة الغربية في البداية خلال حرب الأيام الستة عام 1967، وقسمت اتفاقية أوسلو الثانية لعام 1995 الضفة الغربية الفلسطينية إلى مناطق (أ، ب، ج) كترتيب موقت، وتخضع المنطقة (أ) التي تغطي 18 في المائة من الضفة الغربية، للسيطرة الإدارية والشرطية الفلسطينية الكاملة، المنطقة (ب) التي تشكل 22 في المائة من الضفة الغربية، تخضع للسيطرة الإدارية الفلسطينية ولكنها تتقاسم المسؤوليات الأمنية مع السلطات الإسرائيلية، المنطقة (ج) وهي الأكبر حيث تشكل أكثر من 60 في المائة من الضفة الغربية، تخضع لسيطرة إسرائيل الكاملة وتشمل مستوطنات إسرائيلية واسعة النطاق ومناطق عسكرية.
لا يزال هذا التقسيم قائماً، مما يؤثر بشكل كبير على الحكم الفلسطيني والتنمية والحياة اليومية، حيث يواجه سكان المنطقة (ج) قيوداً شديدة على البناء والوصول إلى المياه والحركة، وعلاوة على ذلك، يتم تنظيم الضفة الغربية بموجب القانون الدولي، مما يجعل ضم المزيد من المناطق (أ) و (ب) غير قانوني، ويعترف القانون الإنساني الدولي، وخاصة اتفاقية جنيف الرابعة ولوائح لاهاي، بالضفة الغربية كدولة مستقلة.
وعلاوة على ذلك، فإن الضفة الغربية تخضع للقانون الدولي، مما يجعل ضم المزيد من المناطق (أ) و(ب) غير قانوني، ويعترف القانون الإنساني الدولي، وخاصة اتفاقية جنيف الرابعة وقواعد لاهاي، بالضفة الغربية كأرض محتلة، ويحظر ضمها من قبل القوة المحتلة، وينطبق عليها القانون الدولي لحقوق الإنسان أيضاً، مما يلزم إسرائيل باحترام حقوق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
وعلى الرغم من موقف إسرائيل القائل بأن التزاماتها في مجال حقوق الإنسان لا تمتد إلى الأراضي المحتلة، فإن المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، يؤكد أن هذه القوانين تنطبق، وفي حكم صدر مؤخراً، عززت محكمة العدل الدولية عدم شرعية تصرفات إسرائيل، مؤكدة انتهاكاتها القانون الدولي وحقوق الإنسان، بما في ذلك الفصل العنصري، وأشادت منظمة العفو الدولية بهذا الحكم باعتباره تبريراً تاريخياً لحقوق الفلسطينيين، ويؤكد قرار محكمة العدل الدولية على ضرورة سحب إسرائيل قواتها ورفع الحصار عن غزة واستعادة سيطرة الفلسطينيين على أراضيهم ومواردهم.
دفع هذا الحكم الفلسطينيين إلى حث المجتمع الدولي على إنفاذ القوانين الدولية وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، ووقف المزيد من التوسع الاستيطاني وتفكيك نظام الفصل العنصري، ويدعو المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة، إلى اتخاذ إجراءات ملموسة لضمان الامتثال لهذا الحكم وحماية الحقوق الفلسطينية.
كيف سيؤثر هذا الحكم على الاحتلال؟
يمثل الحكم الأخير لمحكمة العدل الدولية لحظة محورية في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي، ويؤكد هذا القرار التاريخي عدم شرعية أنشطة الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، ويدعو إلى وقف فوري للاستيطان وتفكيك المستوطنات القائمة.
وعلى الرغم من رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للحكم إذ يعتبره تشويهاً للحقيقة التاريخية، فإن رأي محكمة العدل الدولية غير الملزم، يوفر ذخيرة قانونية قوية للقادة الفلسطينيين وجماعات المناصرة الدولية، كما يعزز دعواتهم إلى اتخاذ إجراءات عالمية ضد سياسات إسرائيل، ويعزز شرعية المطالبات الفلسطينية بإقامة الدولة وتقرير المصير، وعلاوة على ذلك، فإن هذا القرار من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم العزلة الدولية التي تعاني منها إسرائيل، مع عواقب محتملة تشمل زيادة الضغوط الدبلوماسية، والعقوبات الاقتصادية، والدعم المتزايد لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات.
وفي حين أن التأثير المباشر على السياسة الإسرائيلية قد يكون محدوداً، فإن القرار يعزز الضرورة الأخلاقية والقانونية لتجديد عملية السلام، مع تأكيد ضرورة الالتزام بالقانون الدولي وحماية الحقوق الفلسطينية، وقد يحفز هذا التطور الرأي العام الدولي، مما يدفع المزيد من البلدان إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتكثيف الجهود لإنهاء الاحتلال المستمر منذ عقود من الزمن.