تعيدنا الأحداث الإسرائيلية الأخيرة، إلى الأدب العبري، وبخاصة إلى “أدب النهايات” والذي تتناول أعماله انهيار إسرائيل الموشك. التظاهرات التي شهدتها إسرائيل شملت تقريباً جميع القطاعات، وهو الحدث الأول من نوعه تقريباً منذ إقامة إسرائيل عام 1948. ولأن أدب الشعوب يتنبأ في كثير من الأحيان بمصيرها، فالعودة إلى الأدب العبري مهمة، بخاصة في الحالة الإسرائيلية، إذ نتحدث عن شعب لا عن وطن، يستند إلى فكرة وجودية هشّة. تقدم إسرائيل نفسها على أنها “دولة ديمقراطية” لكنها في الوقت ذاته تحاول التخلص من الآخر (الفلسطيني)، وبطبيعة الحال كذبة الديمقراطية ستتكشف في النهاية عن طريق إسرائيل ذاتها والصراعات التي ستظهر فيها وستتسبب في دمارها كما يتنبأ لنا أدب الديستوبيا العبري. أحد الأعمال الأولى التي اشتغلت على هذه الفكرة هي رواية “الطريق إلى عين حارود” للروائي الإسرائيلي آموس كينان (1927- 2009)، ترجمة الباحث الفلسطيني أنطوان شلحت، والتي تتحدث عن حقبة متخيلة يقع فيها انقلاب عسكري في إسرائيل، تنتشر على أثره الفوضى والنزاعات الأهلية والاغتيالات حيث يحكم العسكر كل شيء.
الهرب من تل أبيب
تقرر الشخصية الرئيسية الفرار إلى منطقة متخيلة تدعى “عين حارود” وهي المنطقة الوحيدة التي لم تصلها الحرب، لكن الذهاب إلى هناك ليس قراراً بسيطاً إذ يجب أن يمرّ من مناطق يسيطر عليها العسكر، حيث كلّ شبر محفوف بالمخاطر وكل خطوة أو حركة تعني الموت، البطل لا يعرف ما إذا كان هذا المكان موجوداً حتى الآن، أو ما إذا كان المتمردون لا يزالون أحراراً أو حتى أحياء. وما بين الهرب إلى “أرض الميعاد” و”عين حارود” خيط يكشف هشاشة الحلم الإسرائيلي.
الخروج من تل أبيب ليس خياراً سهلاً أو متاحاً للإسرائيلي في الرواية، إذ يعترف البطل أن مشكلته ليست في احتمالية إطلاق النار عليه أو مواجهة المخاطر، إنما في كيفية التسلل للخروج من “تل أبيب”، لذلك يستمر الراوي في محاولة التخفي والاختباء، كما لو أن آموس يخبرنا أنها رواية الإسرائيلي المختبئ خوفاً من الإسرائيلي.
يلتقي بطل الرواية في الطريق بشابٍ عربيّ يدعى محمود، الذي يغدو الشخص الوحيد الذي يمكن الوثوق به ومرافقته في رحلته، فالوصول إلى عين حارود يحتاج إلى مساعدة الفلسطيني حصراً، بمعنى آخر يدرك الراوي ألا فرصة لديه للوصول إلى عين حارود سوى برفقة عربيّ، في إشارة من الكاتب إلى أن الحل الوحيد هو مرافقة الفلسطيني والإسرائيلي للخروج من الكابوس الذي صنعه الإسرائيلي على أرض الواقع! ولذلك يختار كل من الراوي ومحمود، اسماً مستعاراً واحداً وهو “رافي”، لكن في هذا تملّصاً من الجريمة ومحاولة ليبدو الإسرائيلي بمثابة ضحية مثل الفلسطيني وهذا بالطبع غير دقيق.
الرواية التي كانت من أكثر الكتب مبيعاً في إسرائيل عام 1984 هي من نوع روايات الديستوبيا التي تدور حول الانهيار القريب لإسرائيل. ظهر نوع الأدب الكابوسي أو ما يسمى بأدب النهايات خلال العقود الماضية في إسرائيل، وتجتهد الأعمال التي تنتمي لهذا الجنس في تقديم الشخصيات، سواء الفلسطينية أو “الصهيونية”، كضحايا لما صنعه الحلم الإسرائيلي، في محاولة لإخفاء الخزي والعار الذي ارتكبه حلم “العودة” وللخروج من المأزق الذي تسبب فيه الأجداد الإسرائيليين. وفي رواية كينان وفي خضم الكارثة والمأساة، فالمنقذ المنقذ الوحيد كان عين حارود، المكان المتخيل والتي يمكن أن تكون بوابة النجاة، لكن للمصادفة عين حارود تذكرنا “بأرض الميعاد” أيضاً لكن الفرق هنا أن الإسرائيلي هارب من الحلم الإسرائيلي نفسه حيث يغدو الرحيل عن المكان الذي كان يجب أن يكون الخلاص من “العذابات” هو الحل الوحيد للنجاة. يقول الراوي لمحمود “شيء آخر يا محمود، أعرف أن لديك سلاحاً الآن، لكن محظور عليك أن تطلق النار، فهذه الحرب ليست حربك”. وكأن عاموس يقول إن على الإسرائيلي أن يجد الحل والفلسطيني ليس معنياً بهذا الحل، وهذا الأمر يعني أنه حتى في لحظة “الصحوة” المفترضة مازال الإسرائيلي غير قادر على تقبل وجود الفلسطيني.
الرواية التي كانت من أكثر الكتب مبيعاً في إسرائيل عام 1984 هي من نوع روايات الديستوبيا التي تدور حول الانهيار القريب لإسرائيل.
حياة كينان آموس كانعكاس لصورة المحتل
إن حياة كينان تمثل روايته وتختصر هذا التخبط الإسرائيلي في اختلاق حقّ غير موجود، وتمثل جيلاً كاملاً، مع الوقت يتحول الفردوس الموعود إلى كابوس، عاموس هو من الجيل الإسرائيلي الأول الذي آمن بأن اليهود يعودون إلى أرضهم الموعودة لتنتهي حقبة الاضطهاد والموت التي عانوها، وكان التوسع الكبير لإسرائيل بعد حرب 1967 دليلاً بالنسبة إلى هؤلاء بأن حلمهم مقدس وقابل للتحقق. لكن مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى راح هذا الحلم يتراجع، إذ كان الحلم الإسرائيلي أمام مقاومة من الفلسطينيين الذين حاول القادمون الجدد مسحهم من المشهد.
ولد عاموس كينان في تل أبيب عام 1917، وكان خلال شبابه عضواً في مجموعة شتيرن، وهي مجموعة شديدة التطرف، كان من أهدافها الاستيلاء على فلسطين بالقوة العسكرية، ولكن بعد عام 1948 بفترة وجيزة بدأ العمل من أجل السلام العرب-ي الإسرائيلي. وهو صحافي بارز في “إسرائيل”، ألّف روايات ومسرحيات، كانت إحداها هدفاً للرقابة، ويُنظر إليه على نطاق واسع على أنه أحد رواد الأدب العبري الحديث.
نزع ثوب القاتل عن الإسرائيلي
بعد حرب الأيام الستة مباشرة، اقترح كينان أن تركز إسرائيل على البعد الفلسطيني، داعياً إلى إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل كأفضل خيار من بين مجموعة خيارات سيئة. موقفه أشعل الخلاف بينه وبين اليسار الجديد والمؤسسة الإسرائيلية في الوقت نفسه. في ذلك الوقت لم يتحدث أحد عن دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل باستثناء كينان وبعض الأصوات الهامشية في اليسار الإسرائيلي لذلك قوبل برد فعلٍ قاس.
بجميع الأحوال تغير رؤية عاموس ومعاصريه للواقع “الإسرائيلي – الفلسطيني”، لا يشكل تغيراً جوهرياً في تفكير المحتل بقدر كونه عجزاً أمام الواقع ومقاومة الفلسطينيين.
بالعودة إلى الاسم المستعار رافي، والذي يتخذه محمود والراوي ثم يدركان أنه أيضاً اسم أسيرهما الإسرائيلي، يبدو هذا التفصيل محاولة ساذجة لتوحيد الضحية والقاتل، محاولة إرغام الشخصيات على أن يكونوا واحداً، لا بل محاولة جعل رد فعل الضحية فعلاً ظالماً، “باختصار العقاب الذي نوقعه على من نظلمه هو أن نجعله يقوم بممارسات ظالمة وبدون أن يشعر بذلك”.
رواية “الطريق إلى عين حارود” هي واحدة من الروايات العبرية التي تجرب نزع ثوب القاتل عن الإسرائيلي، وتحويل الاحتلال إلى أزمة وجود، أزمة اعتقد الإسرائيلي أنها سيجد حلها في فلسطين لكنه اصطدم بالواقع القاسي، وبحقيقة وجود سكان لهذه الأرض وكونه دخيلاً ومحتلاً، فبات “بكل كرم” يبحث عن حل له وللفلسطيني. ولذلك فإن قراءة هذا النوع من الروايات وترجمتها أمرٌ ضروريّ، لفهم السياق الثقافي والفكري الذي يحاول الإسرائيلي خلقه سعياً لإحداث تبدلات في رؤية ما ارتكبه من جرائم طوال عقود.
يذكر أن الرواية نشرت للمرة الأولى في مجلة الكرمل الفلسطينية عام 1984 ونشرت مجدداً عن “دار الكلمة” في بيروت عام 1987 لتعود دار “العائدون” للنشر في عمان إلى نشرها، أما المترجم انطوان شلحت فهو باحث في الشؤون الإسرائيلية، وناقد أدبي ومترجم عن العبرية.
في نهاية الرواية وبعد وصول راوينا إلى عين حارود يكتشف ألّا وجود لعين حارود ولا لأي دليل يؤكد أن الإنسان كان هناك يوماً، يقف قليلاً بينما يسود الظلام، يحاول إيجاد أي دليل على أن عين حارود موجودة، لكن لا شيء سوى إحساسه أنه في عين حارود.