fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

بابا الفقراء وأبناء الله

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قاد البابا فرانسيس الكنيسة إلى آفاق أكثر انفتاحاً وتواضعاً، متخلياً عن المظاهر الاحتفالية ومركّزاً على الجوهر الإنساني للرسالة الكاثوليكية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في بداية فيلم الباباوان The Two Popes، يتصادف كاردينالان رفيعان في أحد حمامات الفاتيكان، هما خورخي برغوليو من الأرجنتين وجوزف راتزينغر من ألمانيا. يأخذ الكاردينال برغوليو يدندن بلحية أغنية ما، فيسأله راتزينغر باللاتينية، ربما ببراءة، “ما اسم الترتيلة التي تصفّرها؟”، يجيبه برغوليو: Dancing Queen لفرقة آبا. يرفع راتزينغر رأسه، ويبدو ذهوله منعكساً في مرآة الحمّام بينما يواصل برغوليو غسل يديه.

الكاردينال جوزف راتزينغر (يؤديه أنتوني هوبكنز) سيغدو البابا بنديكت السادس عشر، أما الكاردينال خورخي برغوليو (الذي يلعب دوره جوناثان برايس)، سيصبح لاحقاً البابا فرانسيس – الحبر الأعظم السادس والستين في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية.

الفيلم، من إخراج فرناندو ميريلس، واحد من أبرز الأعمال السينمائية التي تناولت البابوية المعاصرة، ويقدّم معالجة درامية آسرة للعلاقة المتحوّلة بين شخصيتين من أكثر رموز الكنيسة الكاثوليكية تأثيراً في العصر الحديث. وفي إطار درامي ينطلق من لحظة وفاة البابا يوحنا بولس الثاني، يرصد الفيلم فترة الانتقال التي عاشتها الكنيسة، متتبعاً الحوار المتدرّج، فكرياً وشخصياً، بين راتزينغر المحافظ المتأمّل وبرغوليو الإصلاحي المتواضع.

لا يمكن التأكد طبعاً من صحة رواية السيناريست، أنطوني مكراتن، الذي مزج بين اقتباسات موثّقة ومحطات تاريخية فعلية وبين لمسات درامية، قد تكون تخييلية، ولكنها تكشف الأبعاد الداخلية لكل من الرجلين. وعلى الرغم من إدخال مشاهد طريفة، يبقى جوهر الفيلم مرتكزاً على نقاشاتهما اللاهوتية الحقيقية وآرائهما الأخلاقية التي كانا يتبادلانها بصراحة بين عامي 2005 و2014. وإذا كان الفيلم يصور الخلاف بين الرجلين، فإنه أيضاً يكشف مساراً متبادلاً من النضج الروحي، والتواضع الإيماني، والسعي نحو كنيسة أكثر اتساقاً مع الرحمة والضمير.

رؤيتان متعارضتان لكن متكاملتان في قيادة الكنيسة الكاثوليكية

يجسّد البابا بنديكت السادس عشر والبابا فرانسيس رؤيتين متباينتين في فهم الكنيسة الكاثوليكية وتوجيهها، إذ اتسمت حبرتيهما بتباين عميق في الفلسفة اللاهوتية، والأسلوب الرعوي، والاستجابة لتحديات العالم المعاصر. بنديكت، الذي نشأ لاهوتياً ليبرالياً قبل أن تزداد مواقفه تحفظاً بمرور الزمن، سعى إلى ترسيخ العقيدة الكاثوليكية التقليدية، معتمداً مزيجاً من الجماليات الكنسية الفخمة والصلابة العقائدية لمواجهة ما اعتبره تآكلاً روحياً ناتجاً من العلمنة والانحرافات الأخلاقية. لقد رأى في المعمار القوطي والرموز البابوية العريقة تجليات لله، تعزز وحدة الإيمان وتعيد الهيبة إلى الكنيسة في زمن الأزمات.

في المقابل، قاد البابا فرانسيس الكنيسة إلى آفاق أكثر انفتاحاً وتواضعاً، متخلياً عن المظاهر الاحتفالية ومركّزاً على الجوهر الإنساني للرسالة الكاثوليكية. فمنذ توليه البابوية، عُرف بملامسته قضايا الفقر، والتهميش، والعدالة الاجتماعية، وبحرصه على إرساء خطاب رحيم وشامل، يستجيب لتطلعات الإنسان الحديث من دون المساس بجوهر العقيدة. وإذا كان بنديكت قد مثّل العقل اللاهوتي الراسخ، فإن فرانسيس قد جسّد قلب الكنيسة النابض بقيم الرحمة والتواصل.

على صعيد اللاهوت، كان بنديكت يُعرف بدقته الفكرية وتشبّثه بالعقائد، بينما يُركّز فرانسيس على التطبيق العملي للتعاليم في خدمة الإنسان. أما بالنسبة الى الأسلوب الرعوي، فتميّز بنديكت بمقاربة أكاديمية ونخبوية، في حين تبنى فرانسيس خطاباً مباشراً، بسيطاً، وقريباً من الناس. وفي حين كان بنديكت يركّز على الإصلاح العقائدي والتأصيل اللاهوتي، قاد فرانسيس مساراً إصلاحياً هيكلياً شمل الإدارة المالية والحوكمة الكنسية. وأخيراً، تعكس رؤيتهما للعالم المعاصر تبايناً جوهرياً: ففيما اعتبره بنديكت تحدياً لعقيدة الكنيسة، رآه فرانسيس فرصة لحوار متجدّد وانفتاح مسؤول.

دشّن البابا فرانسيس عهده بنهج قائم على التواضع والتقشّف، متخلياً عن الزينة الفخمة لصالح مقاربة رعوية تضع الإنسان في صلب الرسالة الكنسية، وتعلي من شأن الرحمة والعدالة الاجتماعية والانفتاح على المهمّشين، وتبنّى رؤية لكنيسة أكثر شمولاً واندماجاً في المجتمع الحديث، مؤمناً بقدرتها على الإصلاح والاستجابة لتحديات الحاضر من دون التفريط بجوهرها الروحي. وبينما رأى بنديكت في التشبّث بالتقاليد وسيلة للحفاظ على الهوية الكاثوليكية الأصيلة، آمن فرانسيس بأن التجدّد والمرونة هما شرط لبقاء الكنيسة حيّة وفاعلة. هذا التحول الجذري في الأسلوب البابوي لم يقتصر أثره على إعادة تشكيل صورة الكنيسة عالمياً، بل عمّق كذلك الانقسام داخل المؤسسة الكنسية نفسها، وهو ما جعل الفجوة بين نهج التقاليد ونزعة التحوّل أكثر وضوحاً. 

البابا يوحنا بولس الأول سلف شرعي لفرانسيس

لم يأت فرانسيس من فراغ، وعلى الرغم من أن مؤسسة البابوية عرفت سلسلة طويلة من البابوات المتسلّطين الذين مارسوا سلطة زمنية، وأحياناً استخدموها بأسلوب عنيف، ولا سيما خلال العصور الوسطى وعصر النهضة، عرفت أيضاً سلسلة أخرى – وإن أقصر – من الباباوات الذين كانت الإنسانية بوصلتهم الدينية والأخلاقية.

طبعاً، تصرف بعض الباباوات كأمراء أو قادة حرب أكثر من كونهم رعاة روحيين، منخرطين في حملات عسكرية، ومكائد سياسية، وسفك للدماء لتوسيع نفوذ الكرسي الرسولي أو الدفاع عنه. بين السلسلة الطويلة من هؤلاء، يقف البابا يوليوس الثاني (1503–1513)، الذي عُرف باسم “البابا المحارب،” وسبقه أوربان الثاني (1088–1099) وإينوسنت الثالث (1198–1216)، اللذان ارتبط إسماهما بالحروب الصليبية. وهناك أيضاً البابا المقاتل بونيفاس الثامن (1294–1303) الذي تورط بعمق في صراعات سياسية، وتميزت حبريته بالعدوانية والميل إلى الاستبداد، وأصدر مرسوم Unam Sanctam الذي أعلن فيه السلطة المطلقة للبابوية. أخيراً وليس آخراً البابا ألكسندر السادس (1492–1503) رمز الفساد والمحسوبية في عصر النهضة، الذي استخدم العنف والرشى لتعزيز مكانة عائلته، واستعان بالمرتزقة، وأجاز الاغتيالات، وسمح لابنه تشيزاري بورجيا بقيادة حملات دموية في وسط إيطاليا لتوسيع نفوذ آل بورجيا. وغالباً ما يُستشهد بفترة حبريته كمثال على الانحطاط الأخلاقي في الكنيسة آنذاك.

تعكس هذه النماذج من الباباوات مرحلة تاريخية كانت فيها البابوية ليست مجرد سلطة روحية، بل لاعباً سياسياً وعسكرياً فاعلاً في عالم مضطرب. ويتناقض إرثهم بوضوح مع باباوات العصر الحديث مثل فرانسيس أو يوحنا بولس الأول، الذين يُجسدون قيم السلام والتواضع والمصالحة العالمية.

في المقابل، برز، على امتداد التاريخ الطويل للبابوية، عدد من الباباوات الذين سبقوا فرانسيس بتواضعهم وبساطتهم، على رغم أن كلًا منهم عبّر عن هذه القيم وفق مقتضيات زمنه. وبينما أعاد البابا فرانسيس إبراز هذه الصفات في العصر الحديث، فإنه ينتمي إلى تقليد كنسي يضم عدداً من الأسلاف المميزين، بينهم البابا غريغوريوس الأول (590–604)، المعروف بـ”غريغوريوس العظيم،” والبابا سيليستين الخامس (1294)، الذي كان ناسكاً زاهداً، اختير للبابوية رغماً عنه، ولم تدم حبريته سوى خمسة أشهر قبل أن يتنازل عن المنصب، وبيوس العاشر (1903–1914، الذي ينحدر من خلفية ريفية متواضعة، وعُرف بأسلوب حياة بسيط حتى بعد تولّيه البابوية. شدد على القداسة الشخصية والبساطة في العبادة، وكان متحفظاً بشدة إزاء مظاهر الترف المرتبطة ببلاط الفاتيكان، ويوحنا الثالث والعشرون (1958–1963)، المعروف بلقب “البابا الطيب يوحنا”، اتسم بالدفء والتواضع وروح رعوية عميقة. كان يزور المستشفيات والسجون من دون إعلان مسبق، وأصر على أن يُنظر إليه لا كحاكم، بل كـ”خادم خدام الله”. وقد عبّرت دعوته الى انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني عن انفتاحه وبساطته ورغبته في إصلاح الكنيسة.

وقد عشت شخصياً في عهد أحد هؤلاء الرجال النزيهين والمخلصين. إنه البابا المبتسم، يوحنا بولس الأول، الذي لم تدم حبريته سوى 33 يوماً عام 1978، ومع ذلك فقد ترك أثراً لا يُمحى. فقد رفض الطابع الملكي الذي غالباً ما ارتبط بالبابوية، وتنازل عن مراسم التتويج التقليدية، مصراً على أن يُدعى “أسقف روما.” وعبّرت ابتسامته الدائمة، وبساطته، وأسلوبه غير الرسمي، عن رؤية لكنيسة أقرب إلى الناس وأكثر تواضعاً وإنسانية.

هذه السمات عينها أصبحت لاحقاً من أبرز ملامح بابوية فرانسيس. فمنذ لحظة انتخابه عام 2013، اتخذ البابا القادم من الأرجنتين مسلكاً متواضعاً مماثلاً، فتخلى عن الحُلل المذهبة، واختار الإقامة في بيت الضيافة البابوي بدلاً من القصر الرسولي، ورفع شعار “كنيسة الفقراء لأجل الفقراء”. وكما فعل يوحنا بولس الأول، جعل فرانسيس من الرحمة بديلاً عن الحكم، ومن القرب من الناس بديلاً عن الرسمية الكهنوتية.

ويشترك الرجلان في خلفيات اجتماعية متواضعة صقلت حسّهما الإنساني وتعاطفهما العميق مع المعذّبين. فقد نشأ يوحنا بولس الأول في أسرة عاملة في شمال إيطاليا، فيما وُلد فرانسيس لأبوين مهاجرين في الأرجنتين، ما جعله على وعي حاد بتفاوت الفرص وظلم الفقر. وفي وجوه متعددة، يمكن القول إن فرانسيس قد ورث روح يوحنا بولس الأول، وأحيا إرث حبريته القصيرة التي رسمت ملامح كنيسة أكثر تواضعاً وإنصاتاً ومرافقة للناس في آلامهم وآمالهم. 

فرانسيس وفلسطين

ظلّ البابا فرانسيس، حتى ساعاته الأخيرة، صوتاً ثابتاً للعدالة في فلسطين، مجسّداً لاهوتاً رعوياً متجذراً في التعاطف مع المهمشين والمضطهدين. ولم تكن مكالماته الهاتفية اليومية لكنيسة العائلة المقدسة في غزة خلال الحرب مجرد إيماءات رمزية، بل كانت تعبيراً حقيقياً عن موقف حقيقي ورسائل تؤكد أن قضية غزة لن تُطوى. 

منذ اندلاع الحرب، دأب البابا على الاتصال بكنيسة العائلة المقدسة في مدينة غزة يومياً عند الساعة الثامنة مساء، متحدثاً مع الكهنة وبعض الفلسطينيين الذين احتموا داخل الكنيسة الوحيدة للكاثوليك في القطاع. كانت المكالمة قصيرة في بعض الأحيان، لا تتجاوز الثلاثين ثانية، لكنها كانت بمثابة تذكير يومي بأن غزة لم تُنسَ، وأنّ هناك من يصلّي من أجلها من قلب الفاتيكان.

رأى فيه سكان غزة، مسيحيين ومسلمين، أباً روحياً يتجاوز الحدود الدينية والسياسية، رجلاً لم يميّز في محبته ودعواته بين الطوائف. وعلى رغم أنّه لم يزر غزة قط، إلا أن حضوره المعنوي فيها كان دائماً، يتجلى في صوته، وصلواته، وموقفه الصريح من الحصار الإسرائيلي والدعوة المتكررة لوقف إطلاق النار. 

في رسالة عيد الفصح الأخيرة قبل وفاته، دعا إلى إشعاع نور السلام في الأرض المقدسة، مؤكداً الوضع الإنساني الكارثي في غزة وضرورة نجدة شعبها. لم يكن البابا قائداً روحياً فقط لأكثر من 1.4 مليار كاثوليكي حول العالم، بل كان راعياً لمجتمع شبه منسيّ، اختار أن يصغي إلى معاناته يوماً بعد يوم، ويمنحه القوة ليصمد. 

فرانسيس وسوريا

من أصل 66 خليفة لبطرس الرسول، كان ثمة سبعة من أصل سوري. وهم: أنيكيتوس، يوحنا الخامس، سيسينيوس، قسطنطين، غريغوريوس الثالث، سرجيوس الأول، وإيفاريستوس. كان البابا غريغوريوس الثالث آخر بابا سوري، خدم من عام 731 إلى عام 741، وكان آخر بابا ولد خارج أوروبا حتى انتخاب البابا فرانسيس في عام 2013. 

لم يألُ البابا فرانسيس جهداً أو يوفر وقتاً ليعرب عن تضامنه الثابت مع الشعب السوري، جامعاً بين الوضوح الأخلاقي والعمل الإنساني الملموس، وظل يدعو، من دون كلل، إلى السلام والوحدة الوطنية في خضم الحرب الأهلية السورية المدمرة، مؤكداً التعايش الديني والحوار كركيزتين لمستقبل مستقر. لم يقتصر اهتمامه الرعوي على التصريحات العامة، بل تجلى في أفعال ملموسة؛ فقد استقبل عائلات سورية لاجئة في أوروبا، ورافق شخصياً بعضاً منها من مخيمات ليسبوس إلى روما، حيث وفّر لهم المأوى وبداية جديدة. بهذه المبادرات بات فرانسيس رمزاً لمعارضة فكرة “عولمة اللامبالاة”. 

وأوفد فرانسيس مبعوثين إلى سوريا لدعم المجتمعات المسيحية هناك، كما دعا إلى حماية المدنيين جميعاً، بغض النظر عن معتقداتهم، وأدان بشدة العنف المستشري في البلاد.

راعي الفقراء والمهمّشين 

كرّس البابا فرانسيس حبريته لجعل الكنيسة أكثر قرباً من المهمشين، وأكثر انسجاماً مع تحديات العالم المعاصر. ومنذ انتخابه في عام 2013، عقب استقالة سلفه بنديكت السادس عشر، قدّم نفسه للعالم لا كزعيم سلطوي، بل كراعٍ روحي يحمل همّ الفقراء والمنسيين في قلبه. لم تكن دعوته إلى “كنيسة الفقراء” مجرد شعار، بل شكلت نهجاً متكاملاً انعكس في كل مواقفه وزياراته ومبادراته: من غسل أقدام المهاجرين والمساجين، رجالاً ونساء، مسلمين ومسيحيين، إلى استقبال المشردين في أروقة الفاتيكان وفتح أبواب الكنيسة أمام من طاولهم التهميش والإقصاء.

وُلد خورخي ماريو برغوليو في بوينس آيرس لعائلة مهاجرة من أصول إيطالية، وتدرج في حياته المهنية من حارس مرمى ومتخصص في الكيمياء إلى راهب يسوعي ثم كاردينال فأعلى سلطة دينية في الكنيسة الكاثوليكية. وعندما اختار اسم “فرانسيس”، تيمناً بالقديس الفقير فرانسيس الأسيزي، كان يعلن، منذ اللحظة الأولى، تمرده الهادئ على مظاهر الترف الكنسي وانحيازه الى نهج التواضع والبساطة.

لم يتردد البابا في انتقاد ثقافة الاستهلاك، وتجارة السلاح، واللامبالاة العالمية تجاه الفقراء والمشردين. وفي تصريحاته، أظهر حساً إنسانياً نادراً، مدافعاً عن حقوق المثليين، ورافضاً الإسلاموفوبيا، ومؤكداً أن الكرامة الإنسانية تتقدّم على الأحكام المسبقة: “من نحن لنحكم على من يسعى إلى الله وبنية طيبة؟”. لقد كان الصوت الأخلاقي الذي أصرّ على الإصغاء لمن هم في الهامش، وشجّع الكنيسة على ألا تتحدث عنهم من فوق، بل أن تمشي إلى جانبهم.

وعلى رغم تمسّكه ببعض الثوابت الكنسية مثل معارضة الإجهاض والإبقاء على كهنوت الذكور، اتخذ خطوات غير مسبوقة على مستوى الانفتاح، فأعطى النساء مناصب قيادية في الفاتيكان، وسمح بمباركة الأزواج المثليين خارج الطقوس الرسمية، ما أثار حفيظة المحافظين وفتح نقاشاً كونياً واسعاً. كما أدان العنصرية والشوفينية المتصاعدة، وكراهية الأجانب، ووقف بوضوح ضد عقوبة الإعدام، ودعا إلى حماية البيئة باعتبارها مسؤولية روحية وأخلاقية، تُختصر في رسالته البيئية الشهيرة “Laudato si”.

لم يكتف البابا بالكلام، بل ترجم أقواله إلى أفعال: كان يحمل حقيبته بنفسه، رفض السكن في القصر الرسولي، واختار سيارة صغيرة بدل الليموزين. وقف في وجه الفساد المالي داخل الفاتيكان، وسمح بمحاكمة كاردينال بتهمة الفساد، وواجه فضائح الاعتداء الجنسي من رجال الدين بخطاب اعتراف ونقد ذاتي، حتى وإن لم ترضِ إصلاحاته الجميع.

رحل البابا فرانسيس في 21 أبريل/ نيسان 2025 عن عمر ناهز الـ 88 عاماً، بعد سنوات من المعاناة الصحية، وهو لا يزال يحمل في قلبه قضايا العالم ونداءات المهمشين. وعلى رغم الجدل الذي أثاره بين صفوف الكاثوليك، ترك فرانسيس أثراً لا يُمحى في الوجدان الديني والإنساني المعاصر، إذ أثبت أن الدين، في جوهره، ليس سلطة فوق الأرواح، بل دعوة الى الرحمة والعدالة والمساواة. وسيظل صوته حياً في ضمائر الذين رأوا فيه قائداً إنسانياً قبل أن يكون رجل الدين الأول في  العالم، ومصلحاً رؤيوياً حمل همّ العالم من دون أن يتخلى عن جوهر الإيمان.

رنا الصبّاغ- كاتبة وصحافية أردنية | 23.05.2025

الرقص على أوجاع الغزّيين !…عندما تعطّل واشنطن وتل أبيب ديناميات الأمم المتّحدة 

أثناء كتابة هذا المقال، بدأت كوادر في الشركات الجديدة ومتعهّدون أمنيون ومرتزقة، بالوصول مع معدّاتهم إلى إسرائيل، استعداداً لدخول غزّة، وتطبيق الخطّة الإشكالية البديلة عن المسار الأممي.
25.04.2025
زمن القراءة: 9 minutes

قاد البابا فرانسيس الكنيسة إلى آفاق أكثر انفتاحاً وتواضعاً، متخلياً عن المظاهر الاحتفالية ومركّزاً على الجوهر الإنساني للرسالة الكاثوليكية.

في بداية فيلم الباباوان The Two Popes، يتصادف كاردينالان رفيعان في أحد حمامات الفاتيكان، هما خورخي برغوليو من الأرجنتين وجوزف راتزينغر من ألمانيا. يأخذ الكاردينال برغوليو يدندن بلحية أغنية ما، فيسأله راتزينغر باللاتينية، ربما ببراءة، “ما اسم الترتيلة التي تصفّرها؟”، يجيبه برغوليو: Dancing Queen لفرقة آبا. يرفع راتزينغر رأسه، ويبدو ذهوله منعكساً في مرآة الحمّام بينما يواصل برغوليو غسل يديه.

الكاردينال جوزف راتزينغر (يؤديه أنتوني هوبكنز) سيغدو البابا بنديكت السادس عشر، أما الكاردينال خورخي برغوليو (الذي يلعب دوره جوناثان برايس)، سيصبح لاحقاً البابا فرانسيس – الحبر الأعظم السادس والستين في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية.

الفيلم، من إخراج فرناندو ميريلس، واحد من أبرز الأعمال السينمائية التي تناولت البابوية المعاصرة، ويقدّم معالجة درامية آسرة للعلاقة المتحوّلة بين شخصيتين من أكثر رموز الكنيسة الكاثوليكية تأثيراً في العصر الحديث. وفي إطار درامي ينطلق من لحظة وفاة البابا يوحنا بولس الثاني، يرصد الفيلم فترة الانتقال التي عاشتها الكنيسة، متتبعاً الحوار المتدرّج، فكرياً وشخصياً، بين راتزينغر المحافظ المتأمّل وبرغوليو الإصلاحي المتواضع.

لا يمكن التأكد طبعاً من صحة رواية السيناريست، أنطوني مكراتن، الذي مزج بين اقتباسات موثّقة ومحطات تاريخية فعلية وبين لمسات درامية، قد تكون تخييلية، ولكنها تكشف الأبعاد الداخلية لكل من الرجلين. وعلى الرغم من إدخال مشاهد طريفة، يبقى جوهر الفيلم مرتكزاً على نقاشاتهما اللاهوتية الحقيقية وآرائهما الأخلاقية التي كانا يتبادلانها بصراحة بين عامي 2005 و2014. وإذا كان الفيلم يصور الخلاف بين الرجلين، فإنه أيضاً يكشف مساراً متبادلاً من النضج الروحي، والتواضع الإيماني، والسعي نحو كنيسة أكثر اتساقاً مع الرحمة والضمير.

رؤيتان متعارضتان لكن متكاملتان في قيادة الكنيسة الكاثوليكية

يجسّد البابا بنديكت السادس عشر والبابا فرانسيس رؤيتين متباينتين في فهم الكنيسة الكاثوليكية وتوجيهها، إذ اتسمت حبرتيهما بتباين عميق في الفلسفة اللاهوتية، والأسلوب الرعوي، والاستجابة لتحديات العالم المعاصر. بنديكت، الذي نشأ لاهوتياً ليبرالياً قبل أن تزداد مواقفه تحفظاً بمرور الزمن، سعى إلى ترسيخ العقيدة الكاثوليكية التقليدية، معتمداً مزيجاً من الجماليات الكنسية الفخمة والصلابة العقائدية لمواجهة ما اعتبره تآكلاً روحياً ناتجاً من العلمنة والانحرافات الأخلاقية. لقد رأى في المعمار القوطي والرموز البابوية العريقة تجليات لله، تعزز وحدة الإيمان وتعيد الهيبة إلى الكنيسة في زمن الأزمات.

في المقابل، قاد البابا فرانسيس الكنيسة إلى آفاق أكثر انفتاحاً وتواضعاً، متخلياً عن المظاهر الاحتفالية ومركّزاً على الجوهر الإنساني للرسالة الكاثوليكية. فمنذ توليه البابوية، عُرف بملامسته قضايا الفقر، والتهميش، والعدالة الاجتماعية، وبحرصه على إرساء خطاب رحيم وشامل، يستجيب لتطلعات الإنسان الحديث من دون المساس بجوهر العقيدة. وإذا كان بنديكت قد مثّل العقل اللاهوتي الراسخ، فإن فرانسيس قد جسّد قلب الكنيسة النابض بقيم الرحمة والتواصل.

على صعيد اللاهوت، كان بنديكت يُعرف بدقته الفكرية وتشبّثه بالعقائد، بينما يُركّز فرانسيس على التطبيق العملي للتعاليم في خدمة الإنسان. أما بالنسبة الى الأسلوب الرعوي، فتميّز بنديكت بمقاربة أكاديمية ونخبوية، في حين تبنى فرانسيس خطاباً مباشراً، بسيطاً، وقريباً من الناس. وفي حين كان بنديكت يركّز على الإصلاح العقائدي والتأصيل اللاهوتي، قاد فرانسيس مساراً إصلاحياً هيكلياً شمل الإدارة المالية والحوكمة الكنسية. وأخيراً، تعكس رؤيتهما للعالم المعاصر تبايناً جوهرياً: ففيما اعتبره بنديكت تحدياً لعقيدة الكنيسة، رآه فرانسيس فرصة لحوار متجدّد وانفتاح مسؤول.

دشّن البابا فرانسيس عهده بنهج قائم على التواضع والتقشّف، متخلياً عن الزينة الفخمة لصالح مقاربة رعوية تضع الإنسان في صلب الرسالة الكنسية، وتعلي من شأن الرحمة والعدالة الاجتماعية والانفتاح على المهمّشين، وتبنّى رؤية لكنيسة أكثر شمولاً واندماجاً في المجتمع الحديث، مؤمناً بقدرتها على الإصلاح والاستجابة لتحديات الحاضر من دون التفريط بجوهرها الروحي. وبينما رأى بنديكت في التشبّث بالتقاليد وسيلة للحفاظ على الهوية الكاثوليكية الأصيلة، آمن فرانسيس بأن التجدّد والمرونة هما شرط لبقاء الكنيسة حيّة وفاعلة. هذا التحول الجذري في الأسلوب البابوي لم يقتصر أثره على إعادة تشكيل صورة الكنيسة عالمياً، بل عمّق كذلك الانقسام داخل المؤسسة الكنسية نفسها، وهو ما جعل الفجوة بين نهج التقاليد ونزعة التحوّل أكثر وضوحاً. 

البابا يوحنا بولس الأول سلف شرعي لفرانسيس

لم يأت فرانسيس من فراغ، وعلى الرغم من أن مؤسسة البابوية عرفت سلسلة طويلة من البابوات المتسلّطين الذين مارسوا سلطة زمنية، وأحياناً استخدموها بأسلوب عنيف، ولا سيما خلال العصور الوسطى وعصر النهضة، عرفت أيضاً سلسلة أخرى – وإن أقصر – من الباباوات الذين كانت الإنسانية بوصلتهم الدينية والأخلاقية.

طبعاً، تصرف بعض الباباوات كأمراء أو قادة حرب أكثر من كونهم رعاة روحيين، منخرطين في حملات عسكرية، ومكائد سياسية، وسفك للدماء لتوسيع نفوذ الكرسي الرسولي أو الدفاع عنه. بين السلسلة الطويلة من هؤلاء، يقف البابا يوليوس الثاني (1503–1513)، الذي عُرف باسم “البابا المحارب،” وسبقه أوربان الثاني (1088–1099) وإينوسنت الثالث (1198–1216)، اللذان ارتبط إسماهما بالحروب الصليبية. وهناك أيضاً البابا المقاتل بونيفاس الثامن (1294–1303) الذي تورط بعمق في صراعات سياسية، وتميزت حبريته بالعدوانية والميل إلى الاستبداد، وأصدر مرسوم Unam Sanctam الذي أعلن فيه السلطة المطلقة للبابوية. أخيراً وليس آخراً البابا ألكسندر السادس (1492–1503) رمز الفساد والمحسوبية في عصر النهضة، الذي استخدم العنف والرشى لتعزيز مكانة عائلته، واستعان بالمرتزقة، وأجاز الاغتيالات، وسمح لابنه تشيزاري بورجيا بقيادة حملات دموية في وسط إيطاليا لتوسيع نفوذ آل بورجيا. وغالباً ما يُستشهد بفترة حبريته كمثال على الانحطاط الأخلاقي في الكنيسة آنذاك.

تعكس هذه النماذج من الباباوات مرحلة تاريخية كانت فيها البابوية ليست مجرد سلطة روحية، بل لاعباً سياسياً وعسكرياً فاعلاً في عالم مضطرب. ويتناقض إرثهم بوضوح مع باباوات العصر الحديث مثل فرانسيس أو يوحنا بولس الأول، الذين يُجسدون قيم السلام والتواضع والمصالحة العالمية.

في المقابل، برز، على امتداد التاريخ الطويل للبابوية، عدد من الباباوات الذين سبقوا فرانسيس بتواضعهم وبساطتهم، على رغم أن كلًا منهم عبّر عن هذه القيم وفق مقتضيات زمنه. وبينما أعاد البابا فرانسيس إبراز هذه الصفات في العصر الحديث، فإنه ينتمي إلى تقليد كنسي يضم عدداً من الأسلاف المميزين، بينهم البابا غريغوريوس الأول (590–604)، المعروف بـ”غريغوريوس العظيم،” والبابا سيليستين الخامس (1294)، الذي كان ناسكاً زاهداً، اختير للبابوية رغماً عنه، ولم تدم حبريته سوى خمسة أشهر قبل أن يتنازل عن المنصب، وبيوس العاشر (1903–1914، الذي ينحدر من خلفية ريفية متواضعة، وعُرف بأسلوب حياة بسيط حتى بعد تولّيه البابوية. شدد على القداسة الشخصية والبساطة في العبادة، وكان متحفظاً بشدة إزاء مظاهر الترف المرتبطة ببلاط الفاتيكان، ويوحنا الثالث والعشرون (1958–1963)، المعروف بلقب “البابا الطيب يوحنا”، اتسم بالدفء والتواضع وروح رعوية عميقة. كان يزور المستشفيات والسجون من دون إعلان مسبق، وأصر على أن يُنظر إليه لا كحاكم، بل كـ”خادم خدام الله”. وقد عبّرت دعوته الى انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني عن انفتاحه وبساطته ورغبته في إصلاح الكنيسة.

وقد عشت شخصياً في عهد أحد هؤلاء الرجال النزيهين والمخلصين. إنه البابا المبتسم، يوحنا بولس الأول، الذي لم تدم حبريته سوى 33 يوماً عام 1978، ومع ذلك فقد ترك أثراً لا يُمحى. فقد رفض الطابع الملكي الذي غالباً ما ارتبط بالبابوية، وتنازل عن مراسم التتويج التقليدية، مصراً على أن يُدعى “أسقف روما.” وعبّرت ابتسامته الدائمة، وبساطته، وأسلوبه غير الرسمي، عن رؤية لكنيسة أقرب إلى الناس وأكثر تواضعاً وإنسانية.

هذه السمات عينها أصبحت لاحقاً من أبرز ملامح بابوية فرانسيس. فمنذ لحظة انتخابه عام 2013، اتخذ البابا القادم من الأرجنتين مسلكاً متواضعاً مماثلاً، فتخلى عن الحُلل المذهبة، واختار الإقامة في بيت الضيافة البابوي بدلاً من القصر الرسولي، ورفع شعار “كنيسة الفقراء لأجل الفقراء”. وكما فعل يوحنا بولس الأول، جعل فرانسيس من الرحمة بديلاً عن الحكم، ومن القرب من الناس بديلاً عن الرسمية الكهنوتية.

ويشترك الرجلان في خلفيات اجتماعية متواضعة صقلت حسّهما الإنساني وتعاطفهما العميق مع المعذّبين. فقد نشأ يوحنا بولس الأول في أسرة عاملة في شمال إيطاليا، فيما وُلد فرانسيس لأبوين مهاجرين في الأرجنتين، ما جعله على وعي حاد بتفاوت الفرص وظلم الفقر. وفي وجوه متعددة، يمكن القول إن فرانسيس قد ورث روح يوحنا بولس الأول، وأحيا إرث حبريته القصيرة التي رسمت ملامح كنيسة أكثر تواضعاً وإنصاتاً ومرافقة للناس في آلامهم وآمالهم. 

فرانسيس وفلسطين

ظلّ البابا فرانسيس، حتى ساعاته الأخيرة، صوتاً ثابتاً للعدالة في فلسطين، مجسّداً لاهوتاً رعوياً متجذراً في التعاطف مع المهمشين والمضطهدين. ولم تكن مكالماته الهاتفية اليومية لكنيسة العائلة المقدسة في غزة خلال الحرب مجرد إيماءات رمزية، بل كانت تعبيراً حقيقياً عن موقف حقيقي ورسائل تؤكد أن قضية غزة لن تُطوى. 

منذ اندلاع الحرب، دأب البابا على الاتصال بكنيسة العائلة المقدسة في مدينة غزة يومياً عند الساعة الثامنة مساء، متحدثاً مع الكهنة وبعض الفلسطينيين الذين احتموا داخل الكنيسة الوحيدة للكاثوليك في القطاع. كانت المكالمة قصيرة في بعض الأحيان، لا تتجاوز الثلاثين ثانية، لكنها كانت بمثابة تذكير يومي بأن غزة لم تُنسَ، وأنّ هناك من يصلّي من أجلها من قلب الفاتيكان.

رأى فيه سكان غزة، مسيحيين ومسلمين، أباً روحياً يتجاوز الحدود الدينية والسياسية، رجلاً لم يميّز في محبته ودعواته بين الطوائف. وعلى رغم أنّه لم يزر غزة قط، إلا أن حضوره المعنوي فيها كان دائماً، يتجلى في صوته، وصلواته، وموقفه الصريح من الحصار الإسرائيلي والدعوة المتكررة لوقف إطلاق النار. 

في رسالة عيد الفصح الأخيرة قبل وفاته، دعا إلى إشعاع نور السلام في الأرض المقدسة، مؤكداً الوضع الإنساني الكارثي في غزة وضرورة نجدة شعبها. لم يكن البابا قائداً روحياً فقط لأكثر من 1.4 مليار كاثوليكي حول العالم، بل كان راعياً لمجتمع شبه منسيّ، اختار أن يصغي إلى معاناته يوماً بعد يوم، ويمنحه القوة ليصمد. 

فرانسيس وسوريا

من أصل 66 خليفة لبطرس الرسول، كان ثمة سبعة من أصل سوري. وهم: أنيكيتوس، يوحنا الخامس، سيسينيوس، قسطنطين، غريغوريوس الثالث، سرجيوس الأول، وإيفاريستوس. كان البابا غريغوريوس الثالث آخر بابا سوري، خدم من عام 731 إلى عام 741، وكان آخر بابا ولد خارج أوروبا حتى انتخاب البابا فرانسيس في عام 2013. 

لم يألُ البابا فرانسيس جهداً أو يوفر وقتاً ليعرب عن تضامنه الثابت مع الشعب السوري، جامعاً بين الوضوح الأخلاقي والعمل الإنساني الملموس، وظل يدعو، من دون كلل، إلى السلام والوحدة الوطنية في خضم الحرب الأهلية السورية المدمرة، مؤكداً التعايش الديني والحوار كركيزتين لمستقبل مستقر. لم يقتصر اهتمامه الرعوي على التصريحات العامة، بل تجلى في أفعال ملموسة؛ فقد استقبل عائلات سورية لاجئة في أوروبا، ورافق شخصياً بعضاً منها من مخيمات ليسبوس إلى روما، حيث وفّر لهم المأوى وبداية جديدة. بهذه المبادرات بات فرانسيس رمزاً لمعارضة فكرة “عولمة اللامبالاة”. 

وأوفد فرانسيس مبعوثين إلى سوريا لدعم المجتمعات المسيحية هناك، كما دعا إلى حماية المدنيين جميعاً، بغض النظر عن معتقداتهم، وأدان بشدة العنف المستشري في البلاد.

راعي الفقراء والمهمّشين 

كرّس البابا فرانسيس حبريته لجعل الكنيسة أكثر قرباً من المهمشين، وأكثر انسجاماً مع تحديات العالم المعاصر. ومنذ انتخابه في عام 2013، عقب استقالة سلفه بنديكت السادس عشر، قدّم نفسه للعالم لا كزعيم سلطوي، بل كراعٍ روحي يحمل همّ الفقراء والمنسيين في قلبه. لم تكن دعوته إلى “كنيسة الفقراء” مجرد شعار، بل شكلت نهجاً متكاملاً انعكس في كل مواقفه وزياراته ومبادراته: من غسل أقدام المهاجرين والمساجين، رجالاً ونساء، مسلمين ومسيحيين، إلى استقبال المشردين في أروقة الفاتيكان وفتح أبواب الكنيسة أمام من طاولهم التهميش والإقصاء.

وُلد خورخي ماريو برغوليو في بوينس آيرس لعائلة مهاجرة من أصول إيطالية، وتدرج في حياته المهنية من حارس مرمى ومتخصص في الكيمياء إلى راهب يسوعي ثم كاردينال فأعلى سلطة دينية في الكنيسة الكاثوليكية. وعندما اختار اسم “فرانسيس”، تيمناً بالقديس الفقير فرانسيس الأسيزي، كان يعلن، منذ اللحظة الأولى، تمرده الهادئ على مظاهر الترف الكنسي وانحيازه الى نهج التواضع والبساطة.

لم يتردد البابا في انتقاد ثقافة الاستهلاك، وتجارة السلاح، واللامبالاة العالمية تجاه الفقراء والمشردين. وفي تصريحاته، أظهر حساً إنسانياً نادراً، مدافعاً عن حقوق المثليين، ورافضاً الإسلاموفوبيا، ومؤكداً أن الكرامة الإنسانية تتقدّم على الأحكام المسبقة: “من نحن لنحكم على من يسعى إلى الله وبنية طيبة؟”. لقد كان الصوت الأخلاقي الذي أصرّ على الإصغاء لمن هم في الهامش، وشجّع الكنيسة على ألا تتحدث عنهم من فوق، بل أن تمشي إلى جانبهم.

وعلى رغم تمسّكه ببعض الثوابت الكنسية مثل معارضة الإجهاض والإبقاء على كهنوت الذكور، اتخذ خطوات غير مسبوقة على مستوى الانفتاح، فأعطى النساء مناصب قيادية في الفاتيكان، وسمح بمباركة الأزواج المثليين خارج الطقوس الرسمية، ما أثار حفيظة المحافظين وفتح نقاشاً كونياً واسعاً. كما أدان العنصرية والشوفينية المتصاعدة، وكراهية الأجانب، ووقف بوضوح ضد عقوبة الإعدام، ودعا إلى حماية البيئة باعتبارها مسؤولية روحية وأخلاقية، تُختصر في رسالته البيئية الشهيرة “Laudato si”.

لم يكتف البابا بالكلام، بل ترجم أقواله إلى أفعال: كان يحمل حقيبته بنفسه، رفض السكن في القصر الرسولي، واختار سيارة صغيرة بدل الليموزين. وقف في وجه الفساد المالي داخل الفاتيكان، وسمح بمحاكمة كاردينال بتهمة الفساد، وواجه فضائح الاعتداء الجنسي من رجال الدين بخطاب اعتراف ونقد ذاتي، حتى وإن لم ترضِ إصلاحاته الجميع.

رحل البابا فرانسيس في 21 أبريل/ نيسان 2025 عن عمر ناهز الـ 88 عاماً، بعد سنوات من المعاناة الصحية، وهو لا يزال يحمل في قلبه قضايا العالم ونداءات المهمشين. وعلى رغم الجدل الذي أثاره بين صفوف الكاثوليك، ترك فرانسيس أثراً لا يُمحى في الوجدان الديني والإنساني المعاصر، إذ أثبت أن الدين، في جوهره، ليس سلطة فوق الأرواح، بل دعوة الى الرحمة والعدالة والمساواة. وسيظل صوته حياً في ضمائر الذين رأوا فيه قائداً إنسانياً قبل أن يكون رجل الدين الأول في  العالم، ومصلحاً رؤيوياً حمل همّ العالم من دون أن يتخلى عن جوهر الإيمان.

25.04.2025
زمن القراءة: 9 minutes
آخر القصص
وثائق إيلي كوهين تعود إلى تل أبيب: حفظ الحقيقة أم تكريس للسلطة الاستعمارية؟
جيفري كرم - أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية | 23.05.2025
شهر على جيرة البحيرة
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 23.05.2025

اشترك بنشرتنا البريدية