يحضر كثيراً في الغناء العربي لفظ “يابا”، وكذلك الأمر “يمّا” (أو يمّي- يا أمي) في معرض الاستنجاد المحبّب بأحد الوالدين لدى مواجهة المشاعر الجيّاشة أو الانكسارات أو طرح المسائل(العاطفية غالباً) المستعصية. فنعثر في التراث الموسيقي المصري، كما في بلاد الشام، على أغنيات تتضمن إحدى هاتين العبارتين، من مثل “يابا يابا له، يابا من شردلي الغزالة”، “أوف يابا”، “شغل بالي يابا يابا” (في أغنية عبد الحليم حافظ “جانا الهوى”)، “ياما القمر عالباب”، “ياما مويل الهوى”، “ده مش بايدي يابا” (من أغنية “شيء من بعيد ناداني” لليلى جمال)، “يمّي ما بعرف كيف” لفيروز، وغيرها الكثير. فضلاً عن أغنيات موضوعها الأساسي هو الأم، وهي اغنيات ارتبطت بعيد الأمهات، مثل “ست الحبايب” أو “أمي يا ملاكي” وسواها.
لكن يبدو لافتاً، إذا ما تمعّن المستمع في عدد غير قليل من الأغنيات العربية، حضور الأب في موضوعات هذه الأغنيات كصورة سلطوية بطريركية (بعد استئذان النائب “النبيه” فريد هيكل الخازن طبعاً الذي احتج في برلمان لبنان على استعمال عبارة “بطريركي” في معرض نقد السلطة الأبوية خالطاً حابل العبارة بنابل السلطة الروحية المسيحية في لبنان!).
في معظم هذه الأغنيات يحضر الأب حضوراً محبّباً(في معرض كلام غير بسيط)، فيه إما مناكفة للحبيب أو شكوى من أن الأب يشكّل عائقاً أمام اللقاء، لكن الغوص في تحليل الكلام يأخذنا إلى عمق الحالة الاجتماعية التي كانت سائدة في أزمان صدور هذه الأغاني. وغالبيتها تعود لمطربات إناث، في ترجمة لواقع يجعل من سلطة الأب تصبّ بثقلها كلّه على البنات، فيما يبدو وقعها ألطف على الأبناء الذكور.
لنأخذ مثالاً أغنية عزيزة حلمي “إوعى تكلمني بابا جاي ورايا” من عام 1925 (كلمات عبد الحميد كامل- وفي بعض المصادر يونس القاضي/ وألحان زكريا أحمد)، والتي تحذر فيها عزيزة حبيبها من أن يكلّمها لأن أباها “جاي ورايا” وقد “ياخذ باله مني ويزعل ويّايا/ فاهم؟!”. ثم تبدأ الحبيبة/ المغنية بوصف أبيها: “باردون يا عزيزي/ بابا راجل قاسي/ على أبسط حاجة يجرح إحساسي/ يا سلام لو شافني ويّاك وعرفني/ كان يعمل غارة ويلمّ الحارة”. وهذا أقلّ ما قد يفعله والدها “القاسي”، إذا رأى حبيبها معها، فهي تخاف، على ما تغني في المقطع الثاني من الأغنية، “لا يمسكنا وبعدين يهبشنا (يضربنا)”، وذلك بعد أن تحاول أن تنصح حبيبها: “أحسن لنا نهرب ونقوم بلطافة/ قبل ما يلمحنا دي عنيه شوّافة”. وهذا يدلّ إلى الخوف من سلطة الأب، خصوصاً في ما يتعلق بالعلاقات بالرجال. ومع ذلك، إن تناول ذلك في أغنية، في ذلك الزمان، فهذا يبعث على التأمل في تسامح تلك الحقبة مع النقد الضمني للقسوة الأبوية، وتصويرها بطريقة طريفة تشجّع على التحايل عليها بدل مواجهتها، لتجنّب الصدام الذي قد يكون قاسياً وعنيفاً.
في العام 1922 لحن زكريا أحمد من كلمات محمد يونس القاضي أغنية غنتها نعيمة المصرية بعنوان “ما تخافش عليّ أنا واحدة سجوريا”، وفيها تغليب للحب على سلطة الأب وتحدّي لها: “أنا لما استلطف ما يهمني بابا”، خصوصاً أنها تقول في مقطع سابق: “ليلة ما تجيني/ فوت جنب البيت/ وانده تلاقيني/ في أوضة التواليت/ مستنية من العصرية”.
قبلها بسنوات قليلة(1918)، تبدو أغنية من ألحان سيد درويش وكلمات بديع خيري مدهشة لجهة حضور السينما في الثقافة الشعبية آنذاك في بدايات القرن العشرين، أي منذ أكثر من مئة عام، وتقول كلمات الأغنية: “حرّج عليا بابا ما روحش السينما/ وأقابلك فين؟”. وفيها تبدو دور السينما مكاناً للتلاقي بين الأحباب، وتبدو بوضوح “لعبة” التحايل على سلطة الأب لعيش تجارب الحب واللقاء مع الحبيب، وفي الأغنية اقتراحات أخرى لمعالجة معضلة المنع: “أنا من رأيي تكاتبني/ وأجاوبك وتجاوبني/ وفي أي يوم تطلبني تلاقيني بغمضة عين”. ثم تستشير الحبيبة حبيبها بطريقة “ديمقراطية”: “لو عندك رأي غير ده/ ابديه ونشوف ده من ده/ مالوش لازمة البعاد ده والنبي ده انا بين نارين”. ثم مع وصولها إلى حائط مسدود، تتوجه الفتاة(على لسان سيد درويش والمجموعة) إلى الله: “يا رب انت يا قادر/ يا جابر كل خاطر/ ديم اخلاصنا للآخر/ وحياة جدي الحسين”.
وفي أغنية مصرية ثالثة، من فيلم “ليلى في الظلام”(إنتاج العام 1944) تغني ليلى مراد بوضوح أكثر عن سلطة الأب، هذه المرة في معرض الحرية الفردية للنساء في ظل المجتمع المحافظ، تقول كلمات الأغنية وهي من تأليف الشاعر أحمد رامي وألحان محمد القصبجي: “آه يا خوفي لو بابا شافني وأنا بضحك وأرقص وأغني/ كان يشتمني/ كان يضربني”. وفي ذلك إشارة إلى حساسية مسألة الغناء والرقص، ثم تذهب الأغنية أبعد حينما تغني ليلى مراد في المقطع الثاني: “آه يا خوفي لو بابا شافني وأنا واقفة بوسط الرجالة”، وهذه عقوبتها أقسى: “كان يخنقني/ كان يضربني/ كان يطردني وابقى في حالة”. ثم تذهب الأغنية إلى رفع التحدّي مع الأب في إيحاء جنسي مبطّن وذكي جداً من أحمد رامي: “آه يا خوفي لو بابا شافني وأنا واقفة بفرّق أزهاري/ واغمز في عينيا للي عاجبني/ من بين أحبابي وأنصاري”.
وأزهار ليلى مراد هنا، التي تحمل إيحاءً جنسياً، تشبه الأشواك التي علقت بثوب فيروز في أغنية “أمي نامت عبكير”(من فيلم “بياع الخواتم”- إنتاج العام 1964) وهي من كلمات وألحان الأخوين الرحباني وفيها حضور لجدلية سلطة الأب والأم أيضاً في الحرص على منع العلاقات العاطفية ومنع البنات عنها. تقول كلمات الأغنية: “أمي نامت عبكير/ وسكّر بيي البوابة/ وأنا هربت من الشباك وجيت لعيد العزّابة”. وعيد “العزّابة” مقصود به تجمع العشاق العازبين في مكان بعيداً عن العيون، وخصوصاً عيون الأهل ورقابتهم: “بعيد العزابة بيجتمعوا العشاق/ والحبايب بيتلاقوا بالحبايب/ والعزابة ما بيعودوا عزابة”. ثم تتصاعد الدراما في الأغنية: “شباكي بعدو مفتوح/ والبرداية عم بتلوح/ ان عرفوا بغيابي أهلي/ يا دلّي وين بدي روح/ وين بدي روح يا دلّي ان عرفوا أهلي بغيابي”.
إقرأوا أيضاً:
و”يا دلّي” هي على غرار “يا لهوي” في مصر، وهي تقال في حال وقوع مصيبة، ودلالتها واضحة إلى هول أن يعرف الأهل بأن ابنتهم غائبة عن البيت. وفي المقطع الأخير، يحضر الإيحاء الجنسي الذكي جداً، والذي يشاكس السلطة الأبوية: “يا ورد العايق بالطول/ وبتضلّ بحالك مشغول/ شوكك بثيابي علّق/ هلق لإمي شو بقول/ شو بقول لإمي هلق/ علّق شوكك بثيابي”. والأم هنا ليست سوى ممثّل للسلطة الأبوية وإن كانت أقل قسوة من الأب، وتحضر في أغنيات رحبانية أخرى كسلطة “عاطفية”، كما في “لا تعتب عليي” مثلاً: “حلفتني إمي ما حاكي حدا/ وقالتلي يا إمي إياكي العدا/ إنت مش حدا ولا انت العدا/ إنت اللي بعينيي رابي من الزغر”.
بيد أن الأب يحضر بصورة مختلفة تماماً، لدى الرحبانيين، في المسرحية الغنائية “هالة والملك”، حيث يكون والد هالة، هبّ الريح (إيلي شويري) سكّيراً، يهرب من فقره بالسكر، وينكر ابنته أمام أهالي المملكة وحرّاس الملك عندما تلجأ هالة إليه لتثبت أنها ليست الأميرة التي ينتظرها الملك ليتزوجها، وأنها ابنة رجل فقير ليس إلا. وفي الحوار الغنائي تعاتب هالة أباها على إنكارها: “هيك بتنكرني يا بيي؟”، فيجيبها: “أنا ما نكرتك يا بنتي/ يا هالة صار وصار وافتكروكي أميرة وبدك تصيري عروس الملك/ بعتك للسعادة”. يذهب الأب هنا إلى حدّ إنكار إبنته لإنقاذها من الفقر، و”يبيعها” للسعادة، وتحضر في الحوارية الغنائية إشكالية هذا الفعل، وتردّه هالة إلى “صحو” والدها: “انت وصاحي تغيّرت عليي/ وأنا ما عرفتك”، ولاستعادته تطلب إليه: “ارجع اسكر وارجع بيّي/ وردّني بنتك”. وفي هذه المشهدية كسر للصورة النمطية للعلاقة بين الأب وابنته، تختلف تماماً عن الأب في “أمي نامت عبكير” الذي يقفل “البوّابة”، أو الأب “الراجل القاسي” في الأغاني المصرية سابقة الذكر.
إقرأوا أيضاً: