fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

باكو تنظم موكباً للنصر… علم تركيّ وآخر آذريّ

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أبرز خطاب الزعيم الآذربيجاني أهمية الدور التركي، إذ بدأ بتوجيه الشكر إلى تركيا قائلاً، “يسرني أن رئيس الجمهورية التركية، أخي العزيز رجب طيب أردوغان، قبل دعوتي بالمشاركة في هذا الموكب”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ربما يكون يوم 10 كانون الأول/ ديسمبر 2020 أهم يوم في الحياة السياسية لرئيس آذربيجان إلهام علييف، الذي يشغل المنصب منذ عام 2003. فقد نُظم في ذلك اليوم استعراض عسكري في العاصمة باكو للاحتفال بانتصاره في حرب كاراباخ. وقد استحوذ الرئيس الآذري على اهتمام شعبه -بل وحتى اهتمام الزعماء السياسيين الأجانب- ليطرح رؤيته ويظهر مدى كفاءة قيادته. وربما تُنبئنا الخطابات والشعارات التي ترددت في ذلك اليوم ببعض الأمور حول المستقبل السياسي للرئيس الآذربيجاني، وكذلك ما قد يخبئه المستقبل لبلاده في السنوات المقبلة.

استعرضت آذربيجان خلال الموكب آليات عسكرية ومدافع وطائرات بدون طيار إسرائيلية وتركية الصنع حُملت على شاحنات. ثم عُرضت معدات عسكرية استولت عليها باكو خلال حرب كاراباخ. وشاركت فرقة من القوات الخاصة التركية في استعراض باكو، إلى جانب الوحدات العسكرية المختلفة، ما ظهر كتأكيد لمشاركة تركيا في الحرب. حضر الآلاف هذا الاستعراض العسكري. وعلى رغم تعرض البلاد لموجة جديدة من جائحة “كورونا”، لم يُلاحظ تطبيق أيّ إجراءات تباعد اجتماعي خلال الاستعراض. إذ بدا واضحاً أن المشاركة الشعبية في الاستعراض والاحتفال بالنصر، اعتبرت أهم بكثير من الصحة العامة. 

ثمة أيضاً أوجه تشابه قوية تذكرنا بـ”موكب النصر” الذي نظمه ستالين في الساحة الحمراء في موسكو في 24 حزيران/ يونيو 1945، بعد شهر من فرض القوات السوفياتية سيطرتها على برلين. لكن هناك اختلاف كبير بين الحدثين: فقد كان ستالين زعيم البلاد الوحيد الذي يقف على المنصة. في المقابل، لم يشارك إلهام علييف نصره مع أيٍّ من المسؤولين الآذريين الآخرين، وإنما مع زعيم دولة أجنبية: الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي وقف وخلفه العلمين التركي والآذري.

أردوغان يحضر استعراض باكو

نال الرئيس التركي حصته في هذا النصر، تماماً مثل نظيره الآذري، إن لم يكن أكثر: إذ ألقت المكانة البارزة للرئيس التركي ظلالاً قاتمة على إلهام علييف. فمع وجود الرئيس التركي وهيمنته والطابع الأبوي لشخصيته، بات دور الرئيس الآذربيجاني هامشياً. يبدو اختيار هذا الدور غريباً بخاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار استراتيجية التواصل التي تبناها إلهام علييف خلال فترة الحرب التي استمرت 44 يوماً. إذ شارك تطورات الحرب من خلال حسابه على “تويتر”، لا حساب وزارة الدفاع الأذرية. وبهذا، فقد استأثر بنتيجة الحرب باعتباره المرجع الوحيد لتطوراتها وبالتالي النصر الآذري. لكنه خلال الاستعراض، لم يكتف بتقاسم النصر مع الزعيم التركي، بل بدا أيضاً وكأنه شريك ثانوي في هذا الإنجاز. يمكننا تعليل مشاركة أردوغان بالدور المهم الذي أدته تركيا والذي مكن آذربيجان من الفوز بالحرب.

أبرز خطاب الزعيم الآذربيجاني أهمية الدور التركي، إذ بدأ بتوجيه الشكر إلى تركيا قائلاً، “يسرني أن رئيس الجمهورية التركية، أخي العزيز رجب طيب أردوغان، قبل دعوتي بالمشاركة في هذا الموكب. وفي الوقت نفسه، يحضر معنا وفد كبير من تركيا ومن المسؤولين والجنود الأتراك. وهو ما يبرهن مجدداً على وحدتنا وصداقتنا وأخوَّتُنا”.

كانت قضية “الإبادة” حاضرةً في احتفالات النصر بصورة مباشرة أو غير مباشرة. إذ تحدث علييف عن “مجزرة خوجالي”، موضحاً أن “كاراباخ هي أرضنا التاريخية القديمة”. قال أيضاً إنه وفى بوعوده التي تعهد بها عندما انتخب قبل 17 عاماً. مضيفاً، “أثبتت لنا الحياة أننا اتخذنا تدابير في الوقت المناسب، من خلال حشد جميع مواردنا وخلق قبضة حديدية سحقت رأس العدو. لقد أوضحت خلال الحرب أن قبضتنا الحديدية هي تجسيد لِوحدتنا وقوتنا. وقد تمكنت هذه القبضة الحديدة من إضعاف العدو وسحق رأسه”.

أثار علييف أيضاً قضايا تتعلق بالنزعات الانفصالية، وذلك عندما قال إن “أقاليم زانجازور وقُويْجا وإيراوان هي أراضينا التاريخية. وقد عاش شعبنا على هذه الأراضي منذ قرون، لكن القيادة الأرمينية طردت 100 ألف آذري من وطنهم الأصلي”.

واصل علييف تفاخره بنجاحاته العسكرية، ومزجها بتهديدات إضافية قائلاً، “لم يعد هناك وجود تقريباً للجيش الأرميني. لقد دمرناه. وحتى في ما بعد، إذا انتصبت قامة للفاشية الأرمينية ثانيةً، ستكون المحصلة واحدة، وسوف تقصم القبضة الحديدية الآذرية ظهورهم مجدداً”.

واختتم علييف خطابه بالقول، “من الآن فصاعداً، سوف نتطلع للأمام فقط”. لكن الخطاب لم يأتِ على ذكر أيّ أفكار “تطلعية”، ولم يتضمن أيّ أفكار لم ترد سابقاً في تغريداته على “تويتر”. إذا كان ثمة ما يقال عن هذا الخطاب، فهو أنه كان خطاباً يركز على الماضي، ويفتقد لأيّ رؤية مستقبلية، ولم يحدد ملامح تصورية عن المستقبل، بعد هذا النصر العظيم. بل في الحقيقة، طغت صورة “العدو” الأرميني القديم على الخطاب، بينما استحضرت الإشارة إلى الأراضي الأرمينية باعتبارها “أراضينا التاريخية” شبح نزاع مستقبلي يبدو قريباً. 

أنور باشا ونهر آراس

لم يزخر خطاب الرئيس أردوغان بالإشارات التاريخية فحسب، بل حمل في ثناياه أيضاً أبياتاً من الشعر. فقد أشار الرئيس التركي إلى “الإبادة الجماعية” حين قال: “إن أولئك الذين تسببوا في إنزال الكوارث والإبادة الجماعية والدموع في ناغورني كاراباخ، لابد أن يَثبوا إلى رُشدهم”. واتهم أيضاً أرمن الشتات والدول الغربية بالمسؤولية عن الصراع، قائلاً: “ونتمنى أن يتخلص الشعب الأرميني من أغلال الشتات، التي حكمت عليه بالفقر بفعل أكاذيبهم حول الماضي. ويتعين عليه أن يدرك أنه من المستحيل تحقيق أي شيء بتحريض من الإمبرياليين الغربيين”. ثم أضاف الرئيس التركي: “اليوم، سوف تبتهج روح نوري باشا وأنور باشا والجنود الشجعان في جيش القوقاز الإسلامي”.

فقد دخل نوري كيليجيل و”جيشه الإسلامي” مدينة باكو في أيلول/ سبتمبر 1918، قبل أسابيع من الانهيار النهائي للإمبراطورية العثمانية. وأشار أردوغان أيضاً إلى الأخ الأكبر لنوري، وهو أنور باشا، الضابط الصغير الذي ثار ضد السلطان عبد الحميد الثاني (الذي بخلاف ذلك يحظى بتقدير كبير من الحكام الأتراك الحاليين)، والذي أسس منظمة “TEŞKILAT-I MAHSUSA/ ، التشكيلات المخصوصة” أو “المنظمة الخاصة”، ودفع بالإمبراطورية العثمانية للمشاركة في الحرب العالمية الأولى، بينما كان بوسعه أن يختار البقاء على الحياد وعدم الانحياز إلى أحد الأطراف من بين القوات “الإمبريالية” الأوروبية، وقاد الجيش العثماني إلى هزيمته المأساوية في معركة ساريقاميش، وأخيراً نظم عمليات الترحيل والمذابح التي ارتكبت بحق المسيحيين العثمانيين: وعلى وجه التحديد الأرمن والآشوريين واليونانيين.

الواقع أن القومية التركية الحديثة تُشكل القاسم المشترك بين تركيا وآذربيجان، في حين تقسمهما مذاهب الدين الإسلامي إلى سنة وشيعة.

لم يكن خطاب الرئيس التركي زاخراً بالرموز فحسب، بل كان أيضاً خطاباً استراتيجياً: فقد أشار إلى الإسلام بعبارات عامة، ولكنه لم يشر إلى الأيديولوجية العثمانية التي فصلت بين المتحدثين باللغة التركية في منطقة الأناضول والمتحدثين باللغات الأتراكيَّة من أهل القوقاز. فقد شكلت هاتان المجموعتان بناة لإمبراطوريات منافسة، وكان الصفويون والقاجاريون الذين ينحدرون مما يسمى الآن بآذربيجان، منافسين للعثمانيين. فاض خطاب أردوغان في معظمه بإشارات إلى القومية التركية وإلى أعضاء “جمعية الاتحاد والترقي”، والواقع أن القومية التركية الحديثة تُشكل القاسم المشترك بين تركيا وآذربيجان، في حين تقسمهما مذاهب الدين الإسلامي إلى سنة وشيعة.

بيد أن الرئيس التركي كانت لديه مفاجئة. فقد استشهد بإحدى قصائد الشاعر الآذري بختيار وهاب زاده، قائلاً: “لقد فرّقوا نهر آراس… وملأوه بالرمل…. لم أكن أريد فراقك… ففرقوا بيننا بالقوة”. وحتى لا يدع أي مجال للشك، اختتم أردوغان خطابه بالقول: “اليوم هو يوم النصر والفخر بالنسبة إلينا جميعاً، وبالنسبة إلى كل الدول الناطقة باللغات الأتراكيَّة”. هل من المستغرب إذاً أن يغضب القادة الإيرانيون؟ ففي تلك اللحظة التي تُمر فيها إيران بمرحلة من الضعف والوهن وتشعر فيها بالتهديد، ويتعرض علماؤها للاغتيال، وربما يشن ترامب وإسرائيل عليها حرباً مفاجئة، شكك الزعيم التركي في وحدة الأراضي الإيرانية وسلامتها… من باكو.

ما لم يُقل

ما لم يُقل خلال احتفالية النصر في باكو كان على القدر ذاته من الأهمية: إذ لم يوجه علييف خطابه “إلى الشعب الآذربيجاني”، وكأن الرأي العام الآذربيجاني لم يكن له وجود. ولم يخاطب الأرمن في كاراباخ، ليس بشأن الوضع المستقبلي فحسب، بل لم يتحدث ولو بكلمة عن أمنهم في المستقبل.

بينما تحدث علييف باقتضاب عن القوات العسكرية الروسية التي أصبحت الآن متمركزة تماماً في الجزء الغربي من بلاده، وهو ما يبدو مُزعجاً لشريحة لا يستهان بها من الرأي العام الآذري، وعلى وجه التحديد أصحاب القومية التوركية من شعبه. في حين كانت هذه المجموعة تحديداً هي التي وجه إليها الرئيس التركي خطابه، من خلال الإشارة إلى أنور ونوري، وتوحيد الأراضي التركية في شمال نهر آراس وجنوبه. بيد أن هذه الإشارات الوحدوية لم تكن بمثابة تهديد للأرمن فحسب، بل رسمت أيضاً مساراً خطيراً لمستقبل آذربيجان.

في أي حال، أظهر موكب النصر لماذا لم يُحل الصراع في كاراباخ سلمياً طيلة العشرين عاماً الماضية: إذ لم يواجه الأرمن تهديدات مستمرة من جانب إلهام علييف فحسب، بل ذُكِّروا مراراً وتكراراً بعمليات الإبادة العرقية التي تعرضوا لها في الماضي، فضلاً عن التهديدات التي تكاد تكون صريحة بإمكان تكرار ذلك. وقد تجلت اللهجة ذاتها بشكل صريح ورمزي في باكو يوم 10 كانون الأول/ ديسمبر.

على رغم أن احتفالات النصر تسود آذربيجان، يبدو أن قادتها غير مدركين للثمن الذي دفعوه مقابل ذلك. إذ إن البلاد لا تستضيف القوات الروسية والتركية على أرضها فحسب -كم عدد الدول الأخرى التي تعرف أنها تستضيف القوات الروسية والتركية؟- ولكن يبدو أيضاً أنها أصبحت في قلب الجدال الدائر بين تركيا المتشددة السنية، وإيران المتشددة الشيعية. ومع زوال نشوة النصر، قد تكتشف آذربيجان أنها على حافة الانزلاق إلى هاوية الانقسام الطائفي، وهي الاضطرابات ذاتها التي دمرت الكثير من بلدان الشرق الأوسط ومزقت الدول والشعوب.

إقرأوا أيضاً:

الفيديوهات الـ 10 الأكثر مشاهدة خلال الـ-2020

28.12.2020
زمن القراءة: 7 minutes

أبرز خطاب الزعيم الآذربيجاني أهمية الدور التركي، إذ بدأ بتوجيه الشكر إلى تركيا قائلاً، “يسرني أن رئيس الجمهورية التركية، أخي العزيز رجب طيب أردوغان، قبل دعوتي بالمشاركة في هذا الموكب”.

ربما يكون يوم 10 كانون الأول/ ديسمبر 2020 أهم يوم في الحياة السياسية لرئيس آذربيجان إلهام علييف، الذي يشغل المنصب منذ عام 2003. فقد نُظم في ذلك اليوم استعراض عسكري في العاصمة باكو للاحتفال بانتصاره في حرب كاراباخ. وقد استحوذ الرئيس الآذري على اهتمام شعبه -بل وحتى اهتمام الزعماء السياسيين الأجانب- ليطرح رؤيته ويظهر مدى كفاءة قيادته. وربما تُنبئنا الخطابات والشعارات التي ترددت في ذلك اليوم ببعض الأمور حول المستقبل السياسي للرئيس الآذربيجاني، وكذلك ما قد يخبئه المستقبل لبلاده في السنوات المقبلة.

استعرضت آذربيجان خلال الموكب آليات عسكرية ومدافع وطائرات بدون طيار إسرائيلية وتركية الصنع حُملت على شاحنات. ثم عُرضت معدات عسكرية استولت عليها باكو خلال حرب كاراباخ. وشاركت فرقة من القوات الخاصة التركية في استعراض باكو، إلى جانب الوحدات العسكرية المختلفة، ما ظهر كتأكيد لمشاركة تركيا في الحرب. حضر الآلاف هذا الاستعراض العسكري. وعلى رغم تعرض البلاد لموجة جديدة من جائحة “كورونا”، لم يُلاحظ تطبيق أيّ إجراءات تباعد اجتماعي خلال الاستعراض. إذ بدا واضحاً أن المشاركة الشعبية في الاستعراض والاحتفال بالنصر، اعتبرت أهم بكثير من الصحة العامة. 

ثمة أيضاً أوجه تشابه قوية تذكرنا بـ”موكب النصر” الذي نظمه ستالين في الساحة الحمراء في موسكو في 24 حزيران/ يونيو 1945، بعد شهر من فرض القوات السوفياتية سيطرتها على برلين. لكن هناك اختلاف كبير بين الحدثين: فقد كان ستالين زعيم البلاد الوحيد الذي يقف على المنصة. في المقابل، لم يشارك إلهام علييف نصره مع أيٍّ من المسؤولين الآذريين الآخرين، وإنما مع زعيم دولة أجنبية: الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي وقف وخلفه العلمين التركي والآذري.

أردوغان يحضر استعراض باكو

نال الرئيس التركي حصته في هذا النصر، تماماً مثل نظيره الآذري، إن لم يكن أكثر: إذ ألقت المكانة البارزة للرئيس التركي ظلالاً قاتمة على إلهام علييف. فمع وجود الرئيس التركي وهيمنته والطابع الأبوي لشخصيته، بات دور الرئيس الآذربيجاني هامشياً. يبدو اختيار هذا الدور غريباً بخاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار استراتيجية التواصل التي تبناها إلهام علييف خلال فترة الحرب التي استمرت 44 يوماً. إذ شارك تطورات الحرب من خلال حسابه على “تويتر”، لا حساب وزارة الدفاع الأذرية. وبهذا، فقد استأثر بنتيجة الحرب باعتباره المرجع الوحيد لتطوراتها وبالتالي النصر الآذري. لكنه خلال الاستعراض، لم يكتف بتقاسم النصر مع الزعيم التركي، بل بدا أيضاً وكأنه شريك ثانوي في هذا الإنجاز. يمكننا تعليل مشاركة أردوغان بالدور المهم الذي أدته تركيا والذي مكن آذربيجان من الفوز بالحرب.

أبرز خطاب الزعيم الآذربيجاني أهمية الدور التركي، إذ بدأ بتوجيه الشكر إلى تركيا قائلاً، “يسرني أن رئيس الجمهورية التركية، أخي العزيز رجب طيب أردوغان، قبل دعوتي بالمشاركة في هذا الموكب. وفي الوقت نفسه، يحضر معنا وفد كبير من تركيا ومن المسؤولين والجنود الأتراك. وهو ما يبرهن مجدداً على وحدتنا وصداقتنا وأخوَّتُنا”.

كانت قضية “الإبادة” حاضرةً في احتفالات النصر بصورة مباشرة أو غير مباشرة. إذ تحدث علييف عن “مجزرة خوجالي”، موضحاً أن “كاراباخ هي أرضنا التاريخية القديمة”. قال أيضاً إنه وفى بوعوده التي تعهد بها عندما انتخب قبل 17 عاماً. مضيفاً، “أثبتت لنا الحياة أننا اتخذنا تدابير في الوقت المناسب، من خلال حشد جميع مواردنا وخلق قبضة حديدية سحقت رأس العدو. لقد أوضحت خلال الحرب أن قبضتنا الحديدية هي تجسيد لِوحدتنا وقوتنا. وقد تمكنت هذه القبضة الحديدة من إضعاف العدو وسحق رأسه”.

أثار علييف أيضاً قضايا تتعلق بالنزعات الانفصالية، وذلك عندما قال إن “أقاليم زانجازور وقُويْجا وإيراوان هي أراضينا التاريخية. وقد عاش شعبنا على هذه الأراضي منذ قرون، لكن القيادة الأرمينية طردت 100 ألف آذري من وطنهم الأصلي”.

واصل علييف تفاخره بنجاحاته العسكرية، ومزجها بتهديدات إضافية قائلاً، “لم يعد هناك وجود تقريباً للجيش الأرميني. لقد دمرناه. وحتى في ما بعد، إذا انتصبت قامة للفاشية الأرمينية ثانيةً، ستكون المحصلة واحدة، وسوف تقصم القبضة الحديدية الآذرية ظهورهم مجدداً”.

واختتم علييف خطابه بالقول، “من الآن فصاعداً، سوف نتطلع للأمام فقط”. لكن الخطاب لم يأتِ على ذكر أيّ أفكار “تطلعية”، ولم يتضمن أيّ أفكار لم ترد سابقاً في تغريداته على “تويتر”. إذا كان ثمة ما يقال عن هذا الخطاب، فهو أنه كان خطاباً يركز على الماضي، ويفتقد لأيّ رؤية مستقبلية، ولم يحدد ملامح تصورية عن المستقبل، بعد هذا النصر العظيم. بل في الحقيقة، طغت صورة “العدو” الأرميني القديم على الخطاب، بينما استحضرت الإشارة إلى الأراضي الأرمينية باعتبارها “أراضينا التاريخية” شبح نزاع مستقبلي يبدو قريباً. 

أنور باشا ونهر آراس

لم يزخر خطاب الرئيس أردوغان بالإشارات التاريخية فحسب، بل حمل في ثناياه أيضاً أبياتاً من الشعر. فقد أشار الرئيس التركي إلى “الإبادة الجماعية” حين قال: “إن أولئك الذين تسببوا في إنزال الكوارث والإبادة الجماعية والدموع في ناغورني كاراباخ، لابد أن يَثبوا إلى رُشدهم”. واتهم أيضاً أرمن الشتات والدول الغربية بالمسؤولية عن الصراع، قائلاً: “ونتمنى أن يتخلص الشعب الأرميني من أغلال الشتات، التي حكمت عليه بالفقر بفعل أكاذيبهم حول الماضي. ويتعين عليه أن يدرك أنه من المستحيل تحقيق أي شيء بتحريض من الإمبرياليين الغربيين”. ثم أضاف الرئيس التركي: “اليوم، سوف تبتهج روح نوري باشا وأنور باشا والجنود الشجعان في جيش القوقاز الإسلامي”.

فقد دخل نوري كيليجيل و”جيشه الإسلامي” مدينة باكو في أيلول/ سبتمبر 1918، قبل أسابيع من الانهيار النهائي للإمبراطورية العثمانية. وأشار أردوغان أيضاً إلى الأخ الأكبر لنوري، وهو أنور باشا، الضابط الصغير الذي ثار ضد السلطان عبد الحميد الثاني (الذي بخلاف ذلك يحظى بتقدير كبير من الحكام الأتراك الحاليين)، والذي أسس منظمة “TEŞKILAT-I MAHSUSA/ ، التشكيلات المخصوصة” أو “المنظمة الخاصة”، ودفع بالإمبراطورية العثمانية للمشاركة في الحرب العالمية الأولى، بينما كان بوسعه أن يختار البقاء على الحياد وعدم الانحياز إلى أحد الأطراف من بين القوات “الإمبريالية” الأوروبية، وقاد الجيش العثماني إلى هزيمته المأساوية في معركة ساريقاميش، وأخيراً نظم عمليات الترحيل والمذابح التي ارتكبت بحق المسيحيين العثمانيين: وعلى وجه التحديد الأرمن والآشوريين واليونانيين.

الواقع أن القومية التركية الحديثة تُشكل القاسم المشترك بين تركيا وآذربيجان، في حين تقسمهما مذاهب الدين الإسلامي إلى سنة وشيعة.

لم يكن خطاب الرئيس التركي زاخراً بالرموز فحسب، بل كان أيضاً خطاباً استراتيجياً: فقد أشار إلى الإسلام بعبارات عامة، ولكنه لم يشر إلى الأيديولوجية العثمانية التي فصلت بين المتحدثين باللغة التركية في منطقة الأناضول والمتحدثين باللغات الأتراكيَّة من أهل القوقاز. فقد شكلت هاتان المجموعتان بناة لإمبراطوريات منافسة، وكان الصفويون والقاجاريون الذين ينحدرون مما يسمى الآن بآذربيجان، منافسين للعثمانيين. فاض خطاب أردوغان في معظمه بإشارات إلى القومية التركية وإلى أعضاء “جمعية الاتحاد والترقي”، والواقع أن القومية التركية الحديثة تُشكل القاسم المشترك بين تركيا وآذربيجان، في حين تقسمهما مذاهب الدين الإسلامي إلى سنة وشيعة.

بيد أن الرئيس التركي كانت لديه مفاجئة. فقد استشهد بإحدى قصائد الشاعر الآذري بختيار وهاب زاده، قائلاً: “لقد فرّقوا نهر آراس… وملأوه بالرمل…. لم أكن أريد فراقك… ففرقوا بيننا بالقوة”. وحتى لا يدع أي مجال للشك، اختتم أردوغان خطابه بالقول: “اليوم هو يوم النصر والفخر بالنسبة إلينا جميعاً، وبالنسبة إلى كل الدول الناطقة باللغات الأتراكيَّة”. هل من المستغرب إذاً أن يغضب القادة الإيرانيون؟ ففي تلك اللحظة التي تُمر فيها إيران بمرحلة من الضعف والوهن وتشعر فيها بالتهديد، ويتعرض علماؤها للاغتيال، وربما يشن ترامب وإسرائيل عليها حرباً مفاجئة، شكك الزعيم التركي في وحدة الأراضي الإيرانية وسلامتها… من باكو.

ما لم يُقل

ما لم يُقل خلال احتفالية النصر في باكو كان على القدر ذاته من الأهمية: إذ لم يوجه علييف خطابه “إلى الشعب الآذربيجاني”، وكأن الرأي العام الآذربيجاني لم يكن له وجود. ولم يخاطب الأرمن في كاراباخ، ليس بشأن الوضع المستقبلي فحسب، بل لم يتحدث ولو بكلمة عن أمنهم في المستقبل.

بينما تحدث علييف باقتضاب عن القوات العسكرية الروسية التي أصبحت الآن متمركزة تماماً في الجزء الغربي من بلاده، وهو ما يبدو مُزعجاً لشريحة لا يستهان بها من الرأي العام الآذري، وعلى وجه التحديد أصحاب القومية التوركية من شعبه. في حين كانت هذه المجموعة تحديداً هي التي وجه إليها الرئيس التركي خطابه، من خلال الإشارة إلى أنور ونوري، وتوحيد الأراضي التركية في شمال نهر آراس وجنوبه. بيد أن هذه الإشارات الوحدوية لم تكن بمثابة تهديد للأرمن فحسب، بل رسمت أيضاً مساراً خطيراً لمستقبل آذربيجان.

في أي حال، أظهر موكب النصر لماذا لم يُحل الصراع في كاراباخ سلمياً طيلة العشرين عاماً الماضية: إذ لم يواجه الأرمن تهديدات مستمرة من جانب إلهام علييف فحسب، بل ذُكِّروا مراراً وتكراراً بعمليات الإبادة العرقية التي تعرضوا لها في الماضي، فضلاً عن التهديدات التي تكاد تكون صريحة بإمكان تكرار ذلك. وقد تجلت اللهجة ذاتها بشكل صريح ورمزي في باكو يوم 10 كانون الأول/ ديسمبر.

على رغم أن احتفالات النصر تسود آذربيجان، يبدو أن قادتها غير مدركين للثمن الذي دفعوه مقابل ذلك. إذ إن البلاد لا تستضيف القوات الروسية والتركية على أرضها فحسب -كم عدد الدول الأخرى التي تعرف أنها تستضيف القوات الروسية والتركية؟- ولكن يبدو أيضاً أنها أصبحت في قلب الجدال الدائر بين تركيا المتشددة السنية، وإيران المتشددة الشيعية. ومع زوال نشوة النصر، قد تكتشف آذربيجان أنها على حافة الانزلاق إلى هاوية الانقسام الطائفي، وهي الاضطرابات ذاتها التي دمرت الكثير من بلدان الشرق الأوسط ومزقت الدول والشعوب.

إقرأوا أيضاً:

الفيديوهات الـ 10 الأكثر مشاهدة خلال الـ-2020