fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

بحثاً عن الفدائي الفلسطيني الأخير

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

حينما ذهب الفدائي الأول، كما كانت تسميه أدبيات فتح ومنظمة التحرير، ياسر عرفات إلى أوسلو، حدث أول شرخ مع اصطلاح الفدائي. تغيرت صورة أبو عمار العالمية من الفدائي الذي يحمل بندقيته رفقة غصن الزيتون، إلى القائد، الأب، الختيار العائد إلى ربع الوطن ومعه غصن الزيتون وحسب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

اعتمدت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1972 أنشودة “فدائي” كنشيد “الثورة الفلسطينية”، وفي عام 2005، وقبيل الانتخابات الوحيدة التي أقامتها السلطة الفلسطينية، تم رسمياً تغيير النشيد الوطني الفلسطيني من نشيد “موطني” لابراهيم طوقان، إلى نشيد “فدائي”.

 لم يكن الفلسطينيون ليرضوا بتغيير نشيدهم لو ما احتوى النشيد على أكثر الأوصاف التي أجمعوا عليها وكانت جزءاً من تاريخهم النضالي وأدبياتهم أي وصف “الفدائي”. هذا الوسم هو ما ميز، على مدار عقود، “المقاوم” الفلسطيني عن باقي مقاومي العالم. 

لكن مهلاً، أين اختفت الكلمة؟ ولماذا لا تُستخدم هذه الأيام، ولماذا لا تُطلق على المقاتلين اليوم في غزة؟ وكيف ابتلعت لغة العالم المعاصر والتغيرات السياسيّة أكثر المصطلحات شعبية بين الفلسطينيين وأكثرها ارتباطا بهويتهم؟

ما وراء اللغة وأصل الفداء

الفدائي في اللغة هو اسم الفاعل للفعل فدا من المصدر فداء، أي قدم نفسه قربانا من أجل مفهوم ما، إله أو قضية أو قوم. ولأنها كانت حكايتهم الأولى ومعتقدهم الأساس، كانت فلسطين هي من تُفتدى، بالعمل والمقاومة، وبالجسد والروح. وهكذا سميت طلائع الفلسطينيين والعرب المقاومين لجيش الاحتلال البريطاني، والعصابات الصهيونية، هو من يقدم نفسه وذاته فداء لحرية الأرض، أي هو الفدائي. 

لم تدخل الكلمة، الموجودة أصلا في العربية، سريعا إلى أدبيات المقاومة والصحافة العربية والفلسطينية في الثلاثينات والأربعينات، حتى في الخمسينيات. كان وصف فدائي يصطف مع أوصاف أخرى لمن يقاوم الاحتلال كـ(المجاهد، المقاوم…) وبعض التكنيات بالعامية مخافة آذان الوشاة كـ (الشباب، الزلم، الرجال…).  

إلا أن الكلمة دخلت اللغة، المكتوبة والمحكية، وثبتت فيها، مطلع الستينات، مع تنظيم صفوف المقاومين الفلسطينية على حدود فلسطين. بعد ذلك، مع انطلاق الثورة الفلسطينية رسمياً، ومع تحقيقها نجاحات عسكرية في الداخل الفلسطيني، غمرت كلمة “الفدائي” ليس الأدبيات الفلسطينية وحسب، ولغتهم اليومية، بل أيضا لغة الصحافة العربية، وحتى الأجنبية، إذ أضيفت الكلمة “فدائي/fida’i” إلى معجم Webster . وبذلك كُرّس الوسم، ورغم كل ما التبدلات التي عاشتها المقاومة الفلسطينية لاحقا، وتحولات الفدائي الراديكالية بين حربه في الأردن وحروبه في لبنان وخروجه الكبير منها، والتيه في تونس، بقي وسم الفدائي ثابتا لا يتغير. 

لم يكن الفلسطينيون ليرضوا بتغيير نشيدهم لو ما احتوى النشيد على أكثر الأوصاف التي أجمعوا عليها وكانت جزءاً من تاريخهم النضالي وأدبياتهم أي وصف “الفدائي”.

انهيار صورة الفدائي الأوّل

حينما ذهب الفدائي الأول، كما كانت تسميه أدبيات فتح ومنظمة التحرير، ياسر عرفات إلى أوسلو، حدث أول شرخ مع اصطلاح الفدائي. تغيرت صورة أبو عمار العالمية من الفدائي الذي يحمل بندقيته رفقة غصن الزيتون، إلى القائد، الأب، الختيار العائد إلى ربع الوطن ومعه غصن الزيتون وحسب. 

مع عملية السلام مطلع التسعينيات ، خبت صورة الفدائي المقاوم، وهدأ، ظاهرياً، الحراك المسلح الفلسطيني، وتحول عناصر الكفاح المسلح الفلسطيني إلى شرطة السلطة الجديدة، فلم يعودوا فدائيين، إلا إن هذا كان خاصاً بمنظمة التحرير وفصائلها فقط. في ذات الوقت كان الفصيل الجديد، “حماس”، ينظّم ما سيغدو لاحقا، أكبر حضور فلسطيني مسلح داخل الأراضي الفلسطينية منذ انطلاق المقاومة الفلسطينيّة، ونقصد هنا “كتائب عز الدين القسام”.

لا تسمي كتائب القسام مقاتليها بالفدائيين، بل “المجاهدين” متبعة بذلك نهجها الإسلامي، حيث “مقاومة الاحتلال” هي “جهاد في سبيل الله”، ومن هنا كان من يفعلها “مجاهداً”. هذا التحول يبدو أخطر في السياسة من أثره في اللغة والأدبيات.

التحول من “فدائي” إلى “جهادي” فتح بابا جديدا  للهجوم على المقاومة الفلسطينية، والتشكيك في شرعيتها ووجودها، ونقلها لاحقاً من خانة “المقاومة” إلى “الإرهاب”. بجعل المُقاوِم الفلسطيني مُجاهداً، أنت تضع كل المقاومين الفلسطينيين المسلحين في بوتقة الجهاد العالمي وأهواله الإعلامية، وتحشر المقاومين الفلسطينيين، بذات الحقل مع الميلشيات في سوريا والشيشان وأفغانستان وغيرهم من الميليشيات الإسلامية التي حاربت خلال تاريخ فوضوي طويل، في أكثر من مكان وبلد.

 هذا التحول بالتوصيف ضرب التمايز الذي حملته دلالة كلمة الفدائي، وخصوصية وصفها بالمقاتلين الفلسطينيين، وهو تمايز اشتغل عليه الفلسطينيون عقودا، وها هم يرون كلمة “فدائي” تزول  من القاموس الإعلامي، ليس الغربي وحسب، ذلك الذي خُدم بكلمة “المجاهد” أيما خدمة، بل أيضا في الإعلام العربي والفلسطيني، إذ لم نعد نسمع كلمة “الفدائي” عن وصف مقاتلي فصائل المقاومة الفلسطينية. ونسى (أوتناسى) الخطاب الإعلامي ولغتنا الأدبية، استخدام هذا التوصيف، حتى لغتنا اليومية كادت أن تنساه، وبقي نشيد “فدائي” نشيدا خشبيا، لا يحمل أي معنى، يردده الأطفال في مدارس الأونروا صباحا على مضض.

هل تغيرت صورة المقاتل الفلسطيني؟

متفاوتة هي القراءات في صورة “أبو عبيدة” الناطق الرسمي لكتائب القسام، فالبعض يقرأها على أنها صورة إسلامية ميليشياوية، فيما يرى فيها آخرون  مولد لمخيلات وهوامات جنسانية ويقرأون ذلك الإصبع المرفوع والعينين الظاهرتين الحادتين، كعلامات قوة وإثارة. 

إلا أن كل هذا الهذر يتداعى حينما نحدّق في الصورة ذاتها، لا التسميّة، فعلى رغم بلاغة أبو عبيدة الدينيّة، وقلقلة حروفه حين يخطب، فهو يتبنى الصورة الكلاسيكية للفدائيّ الفلسطيني، ويحافظ الجهادي هنا بصورة ما، على الشكل الأساس للمقاتل الفلسطيني الحاضر في الذاكرة الجمعية والمخيلة العربية والفلسطينية.

في الستينات لم تتغير صورة الفدائي عن صورته الأولى، سوى في ارتدائه الزي العسكري أحيانا، إلا أن الكوفية بقيت بما هي رمز مقاومة، وأداة للتخفي والتمويه. وبقي اللباس المدني، والسلاح الفردي المحمول على الكتف، هو ما يمايز الفدائي الفلسطيني عن مقاتلي الجيش الأردني.

 بعد الخروج من عمان، والدخول إلى بيروت، خاصة في سنوات السبعينات قبل الحرب، تغيرت صورة الفدائي الفلسطيني بطريقة جلية. أزيلت الكوفية من على الوجه لتصبح حول الرقبة وعلى الأكتاف، لا مزيد من التخفي ولا داعي له في ظل قوة حضور الفصائل الفلسطينية آنذاك. كذلك دفع تطور التنظيم العسكري لمنظمة التحرير في خلق كتائب عسكرية موحدة في الهندام الكاكي، لكنها كانت صورة حصرية بالاستعراضات العسكرية.

صورة الفدائي على الأرض في بيروت، أكثر فوضوية، ومدنية، ومعاصرة لزمنها، وكذلك كانت صورة الفدائي الفلسطيني في الحرب والاجتياح، وتلك كانت صورته وهو يخرج من بيروت. صورة جعلت منه بطلا سينمائيا، وسيماً، شجاعاً، بجسد رشيق وشاب، وشعر أشعث طويل، وحذاء رياضي ، ويحارب مرتدياً بنطال على موضة الشارلستون الدارجة آنذاك. 

لا أوجه مقارنة كثيرة بين مظهر أبو عبيدة ومظهر أبو علي حسن سلامة، القيادي في فتح خلال السبعينات والذي اغتالته إسرائيل. كان سلامة شخصية كاريزمية وقد ضاعف زواجه من ملكة جمال الكون اللبنانية جورجينا رزق من شعبيته وموقعه كـ”فدائي” جذاب.

في قراءة الصورة الحالية لمن يقاتلون في غزّة نجد أنه هناك صورتين أساسيتين، بدلالات مختلفة. الأولى هي صورة الكتائب المنظمة، الظاهرة في إعلام حماس وفي استعراضاتها العسكرية في غزة. في هذه الصورة يقترب المقاتل الفلسطيني بشكله من الصورة النمطية لمقاتلي الميليشيات في القرن الحالي، حيث سراويل المارينز مع الجزمة العسكرية، ومن الأعلى يغلب السواد على الزي. تتصدر الجعب والقنابل الخفيفة صدر المقاتل، أما عن الوجوه وتخفّيها، فتستبدل الكوفية الفلسطينية بالقناع الأسود الذي يظهر العينين والفم فقط.

هذه الصورة تتطابق وصورة مقاتلي الميليشيات الجهادية الذين يتشاركون نفس الهيئة والزي. شكل مُكرس للمقاتل (الجهادي)، ومعمم في كل حروب أمريكا على (الإرهاب). كما أنه شكل غذّته الفصائل الإسلامية المحاربة وأبرزته عبر مقاتليها في الشيشان والعراق وسوريا، أما في أفغانستان، فقد كان للمجاهدين هناك صورة أخرى تماما.  

أما الصورة الثانية، فهي صورة المقاتل الفلسطيني على أرض المعركة الآن، وهي صورة تنسف أي تنميط مسبق، وتدمر أي صورة واحدة أو نمطية للفدائي، المقاتل، الجهاديّ، إذ ترى المقاتل يتنقل باللباس المدني الخفيف أو يرتدي الثياب الرياضية، لا بل أحيانا في ملابس النوم (البيجامة)، يتحرك بسرعة وخفة، ولا ينتعل سوى حذاء رياضي أو شحاطة. قد يكون حافياً، في عود على بدء، إلى صورة الفدائي الفلسطيني، المدني، ابن المدينة والقرية، صاحب الأرض والمكان، الذي رفع سلاحه، الآن، هنا، بملابسه اليومية، دفاعا عن ما تبقى من أرضه.

عمّار المأمون - فراس دالاتي | 13.01.2025

“إعادة الانتشار”… تقارير استخباراتيّة عن انسحاب الجيش السوري أمام “ردع العدوان”

تشير الوثائق إلى اختلاف بين الأوامر الأمنية التي تكشف "إعادة الانتشار" والأوامر العسكريّة التي تشير إلى الجاهزية والاستعداد للمعركة، التي اختارت الغالبية من جنود النظام ألا تخوضها.

حينما ذهب الفدائي الأول، كما كانت تسميه أدبيات فتح ومنظمة التحرير، ياسر عرفات إلى أوسلو، حدث أول شرخ مع اصطلاح الفدائي. تغيرت صورة أبو عمار العالمية من الفدائي الذي يحمل بندقيته رفقة غصن الزيتون، إلى القائد، الأب، الختيار العائد إلى ربع الوطن ومعه غصن الزيتون وحسب.

اعتمدت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1972 أنشودة “فدائي” كنشيد “الثورة الفلسطينية”، وفي عام 2005، وقبيل الانتخابات الوحيدة التي أقامتها السلطة الفلسطينية، تم رسمياً تغيير النشيد الوطني الفلسطيني من نشيد “موطني” لابراهيم طوقان، إلى نشيد “فدائي”.

 لم يكن الفلسطينيون ليرضوا بتغيير نشيدهم لو ما احتوى النشيد على أكثر الأوصاف التي أجمعوا عليها وكانت جزءاً من تاريخهم النضالي وأدبياتهم أي وصف “الفدائي”. هذا الوسم هو ما ميز، على مدار عقود، “المقاوم” الفلسطيني عن باقي مقاومي العالم. 

لكن مهلاً، أين اختفت الكلمة؟ ولماذا لا تُستخدم هذه الأيام، ولماذا لا تُطلق على المقاتلين اليوم في غزة؟ وكيف ابتلعت لغة العالم المعاصر والتغيرات السياسيّة أكثر المصطلحات شعبية بين الفلسطينيين وأكثرها ارتباطا بهويتهم؟

ما وراء اللغة وأصل الفداء

الفدائي في اللغة هو اسم الفاعل للفعل فدا من المصدر فداء، أي قدم نفسه قربانا من أجل مفهوم ما، إله أو قضية أو قوم. ولأنها كانت حكايتهم الأولى ومعتقدهم الأساس، كانت فلسطين هي من تُفتدى، بالعمل والمقاومة، وبالجسد والروح. وهكذا سميت طلائع الفلسطينيين والعرب المقاومين لجيش الاحتلال البريطاني، والعصابات الصهيونية، هو من يقدم نفسه وذاته فداء لحرية الأرض، أي هو الفدائي. 

لم تدخل الكلمة، الموجودة أصلا في العربية، سريعا إلى أدبيات المقاومة والصحافة العربية والفلسطينية في الثلاثينات والأربعينات، حتى في الخمسينيات. كان وصف فدائي يصطف مع أوصاف أخرى لمن يقاوم الاحتلال كـ(المجاهد، المقاوم…) وبعض التكنيات بالعامية مخافة آذان الوشاة كـ (الشباب، الزلم، الرجال…).  

إلا أن الكلمة دخلت اللغة، المكتوبة والمحكية، وثبتت فيها، مطلع الستينات، مع تنظيم صفوف المقاومين الفلسطينية على حدود فلسطين. بعد ذلك، مع انطلاق الثورة الفلسطينية رسمياً، ومع تحقيقها نجاحات عسكرية في الداخل الفلسطيني، غمرت كلمة “الفدائي” ليس الأدبيات الفلسطينية وحسب، ولغتهم اليومية، بل أيضا لغة الصحافة العربية، وحتى الأجنبية، إذ أضيفت الكلمة “فدائي/fida’i” إلى معجم Webster . وبذلك كُرّس الوسم، ورغم كل ما التبدلات التي عاشتها المقاومة الفلسطينية لاحقا، وتحولات الفدائي الراديكالية بين حربه في الأردن وحروبه في لبنان وخروجه الكبير منها، والتيه في تونس، بقي وسم الفدائي ثابتا لا يتغير. 

لم يكن الفلسطينيون ليرضوا بتغيير نشيدهم لو ما احتوى النشيد على أكثر الأوصاف التي أجمعوا عليها وكانت جزءاً من تاريخهم النضالي وأدبياتهم أي وصف “الفدائي”.

انهيار صورة الفدائي الأوّل

حينما ذهب الفدائي الأول، كما كانت تسميه أدبيات فتح ومنظمة التحرير، ياسر عرفات إلى أوسلو، حدث أول شرخ مع اصطلاح الفدائي. تغيرت صورة أبو عمار العالمية من الفدائي الذي يحمل بندقيته رفقة غصن الزيتون، إلى القائد، الأب، الختيار العائد إلى ربع الوطن ومعه غصن الزيتون وحسب. 

مع عملية السلام مطلع التسعينيات ، خبت صورة الفدائي المقاوم، وهدأ، ظاهرياً، الحراك المسلح الفلسطيني، وتحول عناصر الكفاح المسلح الفلسطيني إلى شرطة السلطة الجديدة، فلم يعودوا فدائيين، إلا إن هذا كان خاصاً بمنظمة التحرير وفصائلها فقط. في ذات الوقت كان الفصيل الجديد، “حماس”، ينظّم ما سيغدو لاحقا، أكبر حضور فلسطيني مسلح داخل الأراضي الفلسطينية منذ انطلاق المقاومة الفلسطينيّة، ونقصد هنا “كتائب عز الدين القسام”.

لا تسمي كتائب القسام مقاتليها بالفدائيين، بل “المجاهدين” متبعة بذلك نهجها الإسلامي، حيث “مقاومة الاحتلال” هي “جهاد في سبيل الله”، ومن هنا كان من يفعلها “مجاهداً”. هذا التحول يبدو أخطر في السياسة من أثره في اللغة والأدبيات.

التحول من “فدائي” إلى “جهادي” فتح بابا جديدا  للهجوم على المقاومة الفلسطينية، والتشكيك في شرعيتها ووجودها، ونقلها لاحقاً من خانة “المقاومة” إلى “الإرهاب”. بجعل المُقاوِم الفلسطيني مُجاهداً، أنت تضع كل المقاومين الفلسطينيين المسلحين في بوتقة الجهاد العالمي وأهواله الإعلامية، وتحشر المقاومين الفلسطينيين، بذات الحقل مع الميلشيات في سوريا والشيشان وأفغانستان وغيرهم من الميليشيات الإسلامية التي حاربت خلال تاريخ فوضوي طويل، في أكثر من مكان وبلد.

 هذا التحول بالتوصيف ضرب التمايز الذي حملته دلالة كلمة الفدائي، وخصوصية وصفها بالمقاتلين الفلسطينيين، وهو تمايز اشتغل عليه الفلسطينيون عقودا، وها هم يرون كلمة “فدائي” تزول  من القاموس الإعلامي، ليس الغربي وحسب، ذلك الذي خُدم بكلمة “المجاهد” أيما خدمة، بل أيضا في الإعلام العربي والفلسطيني، إذ لم نعد نسمع كلمة “الفدائي” عن وصف مقاتلي فصائل المقاومة الفلسطينية. ونسى (أوتناسى) الخطاب الإعلامي ولغتنا الأدبية، استخدام هذا التوصيف، حتى لغتنا اليومية كادت أن تنساه، وبقي نشيد “فدائي” نشيدا خشبيا، لا يحمل أي معنى، يردده الأطفال في مدارس الأونروا صباحا على مضض.

هل تغيرت صورة المقاتل الفلسطيني؟

متفاوتة هي القراءات في صورة “أبو عبيدة” الناطق الرسمي لكتائب القسام، فالبعض يقرأها على أنها صورة إسلامية ميليشياوية، فيما يرى فيها آخرون  مولد لمخيلات وهوامات جنسانية ويقرأون ذلك الإصبع المرفوع والعينين الظاهرتين الحادتين، كعلامات قوة وإثارة. 

إلا أن كل هذا الهذر يتداعى حينما نحدّق في الصورة ذاتها، لا التسميّة، فعلى رغم بلاغة أبو عبيدة الدينيّة، وقلقلة حروفه حين يخطب، فهو يتبنى الصورة الكلاسيكية للفدائيّ الفلسطيني، ويحافظ الجهادي هنا بصورة ما، على الشكل الأساس للمقاتل الفلسطيني الحاضر في الذاكرة الجمعية والمخيلة العربية والفلسطينية.

في الستينات لم تتغير صورة الفدائي عن صورته الأولى، سوى في ارتدائه الزي العسكري أحيانا، إلا أن الكوفية بقيت بما هي رمز مقاومة، وأداة للتخفي والتمويه. وبقي اللباس المدني، والسلاح الفردي المحمول على الكتف، هو ما يمايز الفدائي الفلسطيني عن مقاتلي الجيش الأردني.

 بعد الخروج من عمان، والدخول إلى بيروت، خاصة في سنوات السبعينات قبل الحرب، تغيرت صورة الفدائي الفلسطيني بطريقة جلية. أزيلت الكوفية من على الوجه لتصبح حول الرقبة وعلى الأكتاف، لا مزيد من التخفي ولا داعي له في ظل قوة حضور الفصائل الفلسطينية آنذاك. كذلك دفع تطور التنظيم العسكري لمنظمة التحرير في خلق كتائب عسكرية موحدة في الهندام الكاكي، لكنها كانت صورة حصرية بالاستعراضات العسكرية.

صورة الفدائي على الأرض في بيروت، أكثر فوضوية، ومدنية، ومعاصرة لزمنها، وكذلك كانت صورة الفدائي الفلسطيني في الحرب والاجتياح، وتلك كانت صورته وهو يخرج من بيروت. صورة جعلت منه بطلا سينمائيا، وسيماً، شجاعاً، بجسد رشيق وشاب، وشعر أشعث طويل، وحذاء رياضي ، ويحارب مرتدياً بنطال على موضة الشارلستون الدارجة آنذاك. 

لا أوجه مقارنة كثيرة بين مظهر أبو عبيدة ومظهر أبو علي حسن سلامة، القيادي في فتح خلال السبعينات والذي اغتالته إسرائيل. كان سلامة شخصية كاريزمية وقد ضاعف زواجه من ملكة جمال الكون اللبنانية جورجينا رزق من شعبيته وموقعه كـ”فدائي” جذاب.

في قراءة الصورة الحالية لمن يقاتلون في غزّة نجد أنه هناك صورتين أساسيتين، بدلالات مختلفة. الأولى هي صورة الكتائب المنظمة، الظاهرة في إعلام حماس وفي استعراضاتها العسكرية في غزة. في هذه الصورة يقترب المقاتل الفلسطيني بشكله من الصورة النمطية لمقاتلي الميليشيات في القرن الحالي، حيث سراويل المارينز مع الجزمة العسكرية، ومن الأعلى يغلب السواد على الزي. تتصدر الجعب والقنابل الخفيفة صدر المقاتل، أما عن الوجوه وتخفّيها، فتستبدل الكوفية الفلسطينية بالقناع الأسود الذي يظهر العينين والفم فقط.

هذه الصورة تتطابق وصورة مقاتلي الميليشيات الجهادية الذين يتشاركون نفس الهيئة والزي. شكل مُكرس للمقاتل (الجهادي)، ومعمم في كل حروب أمريكا على (الإرهاب). كما أنه شكل غذّته الفصائل الإسلامية المحاربة وأبرزته عبر مقاتليها في الشيشان والعراق وسوريا، أما في أفغانستان، فقد كان للمجاهدين هناك صورة أخرى تماما.  

أما الصورة الثانية، فهي صورة المقاتل الفلسطيني على أرض المعركة الآن، وهي صورة تنسف أي تنميط مسبق، وتدمر أي صورة واحدة أو نمطية للفدائي، المقاتل، الجهاديّ، إذ ترى المقاتل يتنقل باللباس المدني الخفيف أو يرتدي الثياب الرياضية، لا بل أحيانا في ملابس النوم (البيجامة)، يتحرك بسرعة وخفة، ولا ينتعل سوى حذاء رياضي أو شحاطة. قد يكون حافياً، في عود على بدء، إلى صورة الفدائي الفلسطيني، المدني، ابن المدينة والقرية، صاحب الأرض والمكان، الذي رفع سلاحه، الآن، هنا، بملابسه اليومية، دفاعا عن ما تبقى من أرضه.

|

اشترك بنشرتنا البريدية