fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

بسام الشيخ حسين… ما زلنا على قيد الحياة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أعود إلى نفسي في محاولة لفهم رد فعلي الداعم لبسام، فأصل بعد التحليل والتدقيق إلى أنه نتيجة لأمرين، أولهما تراكمي وله علاقة بما آلت إليه الأمور في لبنان خلال السنوات الثلاث الماضية، وثانيهما ظرفي وله علاقة بكتاب أنهيت قراءته خلال الساعات الـ24 السابقة لكتابة هذه السطور.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أخيراً، حدث ما يدل على أننا لا نزال على قيد الحياة! كان هذا رد فعلي الأول، حين سمعت أخباراً عن اقتحام بسام الشيخ حسين أحد فروع “فيدرال بنك” في بيروت. لم يكن قد مر على وصولي الى ريغا ساعات قليلة ورد فعلي فاجأني حقاً، فهل بت من المشجعين على استخدام القوة لاسترجاع الحقوق؟ الجواب أكثر تعقيداً من أن يختصر بِنَعم أو لا، فأي منهما لن يكون دقيقاً، ولكن لم يكن بإمكاني إلا أن أدخل في مراجعة مع نفسي: لماذا هذه الحماسة وهذا الترحيب الضمني الكامل بمغامرة فردية أعرف جيداً أنها قد تفتح الباب واسعاً على عنف نعرف كيف يبدأ ولا نعلم كيف ينتهي؟
لم أؤمن يوماً بالعنف حلاً لأي نزاع، وتجربة السنوات الماضية، سواء في لبنان أو في أي من بلدان شرقنا الرهيب، علمتنا أنه في مواجهة المافيات الحاكمة، لا قدرة لنا على المنافسة بالعنف، أولاً لأننا لا نملك وسائله وثانياً والأهم لأننا وببساطة لا نريد أن نصبح مجرمين، وهو ما قد تتطلبه معركة مفتوحة مع فاسدين وقتلة متمرسين لم ولن يتوقفوا عند أي شيء للحفاظ على السلطة.
أعود إلى نفسي في محاولة لفهم رد فعلي الداعم لبسام، فأصل بعد التحليل والتدقيق إلى أنه نتيجة لأمرين، أولهما تراكمي وله علاقة بما آلت إليه الأمور في لبنان خلال السنوات الثلاث الماضية، وثانيهما ظرفي وله علاقة بكتاب أنهيت قراءته خلال الساعات الـ24 السابقة لكتابة هذه السطور.


في الشق التراكمي، أي شخص- بكامل قواه العقلية، يملك حداً أدنى من الأخلاق، ومع استثناء المستفيدين من الوضع الحالي- لا يمكن أن يستغرب ما حصل. الحقيقة أن العكس هو الصحيح. المستغرب أن محاولات من هذا النوع لا تحصل عشرات المرات يومياً على الأقل، ليس فقط داخل المصارف ولكن أيضاً أمام بيوت وقصور ومقرات المسؤولين عن إفقار اللبنانيين وإيصالهم الى ما وصلوا إليه، فمصالح كل هذه الأطراف مشتركة وما حصل في لبنان أكثر من استثنائي. الانهيارات المالية تحصل، الأزمات السياسية تحصل، كما “الحوادث” الكارثية، حتى الجرائم والاغتيالات تحصل، ولكن أن تتراكم هذه الأمور كلها في فترة زمنية لا تتجاوز السنتين، في بلد لا تتجاوز مساحته الجغرافية مساحة مدينة نيويورك، فهذا ما لم يحصل في تاريخ العالم الحديث إلا في لبنان.
أن يصبح صندوق النقد الدولي معياراً لما يمكن أو لا يمكن قبوله من تسويات لتفادي المزيد من الظلم في حق الطبقات المسحوقة وأن يعترف البنك الدولي بأن شعباً قد تعرض للسرقة من قبل منظومة سياسية، أن ينهار كل شيء إلا المنظومة الحاكمة فهذا قطعاً ما لم يحصل، لا هنا ولا في أو مكان أو زمان آخرين. حتى القوانين ترعى ما قام به بسام!

الاقتصاد أهم من أن يترك للاقتصاديين

أعود إلى نفسي. كتاب يانيس فاروفاكيس “حوار مع ابنتي حول الاقتصاد: تاريخ موجز للرأسمالية” لا يزال في حقيبة يدي.
يقول وزير المال اليوناني السابق في مقدمة كتابه إنه كتبه خلال مدة زمنية لم تتجاوز التسعة أيام خلال زيارته عائلته في جزيرة ايجينا اليونانية، وانا انتهيت من قراءته خلال أقل من تسع ساعات، هي مسافة الرحلة بين بيروت وريغا.
الكتاب وعلى رغم سهولته يقدم تلخيصاً وافياً لتاريخ الاقتصاد الحديث، بدءاً من الثورة الزراعية وصولاً إلى مرحلة ما بعد الإنسانية، وهي بحسبه معرفة ضرورية لمواطنة فعالة في أي ديمقراطية تسعى لأن تكون عادلة.
أستاذ الاقتصاد، الذي فاوض “الترويكا” الأوروبية خلال الأزمة الاقتصادية التي مرت فيها بلاده عام 2015 والذي يترأس حاليا سادس أكبر كتلة في البرلمان اليوناني، يعتبر على مدى صفحات كتابه أن الاقتصاد ليس علماً مثل الفيزياء، وأن لا “حقيقة” فيه بل محاولات مستمرة منذ بداية التاريخ الحديث يقوم بها الأغنى والأقوى للحفاظ على مصالحهم المادية.
اللجوء إلى التعابير التقنية المعقدة بحسبه ما هو إلا محاولات لإيهام المتضررين بأنهم غير قادرين على فهمها، لذلك يجب تركها للاختصاصيين. إلا أن “الاقتصاد أهم من أن يترك للاقتصاديين” بحسبه، إذ يعتبر أنه أقرب إلى الفلسفة التي يجب أن تناقش أي حياة نريد ان نعيش.
يفسر مفاهيم مثل علاقة الدَّين بالربح باستحضار أمثلة تاريخية مستعيناً بلغة يحاور فيها ابنته زينا البالغة من العمر في حينه 14 سنة. يعود فاروفاكيس- وهو ابن مهاجر مصري ولد في القاهرة- بزينا وبقرائه إلى حضارة ما بين النهرين في العراق وسوريا، والكتابات الأولى التي تركها الإنسان والتي كانت وللمفارقة لتسجيل الديون، فمع بدء زراعة الحبوب، ولدت الحاجة لتسجيل الحقوق وكانت بداية كل شيء. بعدها كانت التجارة والملكيات الخاصة، والربح وتراكم الثروات، ثم الحاجة إلى “احتكار العنف”، فكانت “الشرطة” والحاجة لإقناع الأغلبية بأن للأغنياء الحق المطلق بامتلاك الثروات، فكان الدين، ثم الحاجة إلى مؤسسات تعمل على تضخيم الثروات فكانت المصارف… يفسر مصطلحات تقنية مستعيناً بأمثلة من المحطات الأكثر تأثيراً في تاريخنا الحديث، فيفسر معنى الركود والتضخم والتضخم المفرط عبر العودة إلى الحرب العالمية الثانية وتجارة السجائر التي نشطت في مراكز الاعتقال النازية لغير اليهود.
يعتمد فاروفاكيس أسلوباً نقدياً للنظام العالمي الحالي بكل مكوناته على مدى صفحات كتابه، الأكثر شدة بينها في وجه النظام المصرفي الذي يقر بأنه مجرد وسيلة “للمضاعفة” في عالم تحكمه قوة المال.
يتحدث عن “سحر المصارف الأسود” الذي يضاعف الربح الهائل في الأوقات الجيدة ويضاعف الخسائر خلال فترات الانهيار ودائماً لمصلحة الأقوياء. التاريخ الحديث يعج بالأمثلة عن ثروات هائلة تراكم خلال فترات الازدهار، ثم يأتي الانهيار، فتدخل الدولة وتنقذ المصارف، على حساب بقية المجتمع، الذي يغرق بمزيد من الظلم والفروقات الاجتماعية في حلقة مفرغة من العنف المؤدي إلى مزيد من الفروقات بين الأغنياء والفقراء.
لم يذكر فاروفاكيس لبنان في كتابه الذي نشر قبل الأزمة اللبنانية، لكنه تنبأ بما قد يحصل في تجارب مماثلة.
“عالم يتم فيه إنقاذ المصارف، فيما تضرر جميع الاطراف الثانية بما في ذلك الدولة، هو أسوأ عالم ممكن أن يكون. هو عالم عقيم، لا يمكن أن ينتج عن اقتصاده إلا عدم الاستقرار، والفشل وعناقيد الغضب”.
في حالتنا اللبنانية، حتى الدولة التي كان يمكن أن تتدخل لإنقاذ المصارف، نهبت وبمباركة المصرف المركزي وبتسهيلاته.

إقرأوا أيضاً:

عناقيد الغضب اللبناني

أعود إلى نفسي، وإلى بسام وإلى الغضب الذي يجمعنا. أعود إلى حماستي التي كنت وعدت نفسي أن أكون أكثر حكمة في تبنيها. حماستي المفرطة هذه قادتني في نهاية المطاف و في كل مرة الى شعور هائل بالعجز والذنب. حتى العودة إلى الشارع لإعلاء الصوت فقدت جدواها، لماذا؟
لأننا في كل مرة نزلنا ورفعنا الصوت، كان الرد علينا بالمزيد من العنف والظلم، من يتحمل تبعاتها هم الأكثر جرأة، والأكثر حماسة والأكثر مبدئية، ولكن أيضاً من هم الأكثر فقراً وضعفاً، يدفعون هم عيوناً تفقأ وحريات تسلب لنغرق نحن في دوامة من الشعور بالمسؤولية والإحباط، فيما نشاهد المجتمع الدولي ما زال مصراً على التفاوض على مستقبلنا حصرياً مع قتلتنا وسارقينا.
كل هذا التراكم من الغضب والعجز كيف يمكن تصريفه؟ ما الذي بقي لنخسره أو نخاف عليه؟ حتى شعورنا بأن المافيا الحاكمة هي الوحيدة القادرة على تأمين السلم الأهلي وبالتالي سلامتنا وسلامة أبنائنا لم تعد موجودة، حتى هذه الخرافة سقطت، سلبت منا في نهاية يوم صيفي مشمس في الرابع من آب. كان ذلك منذ سنتين وحتى اليوم لا يزال المجرمون في مناصبهم.
أنا أم لبنتين في عمر المراهقة تقتربان يوماً بعد يوم من هجرة تأخذهما، بعيداً من البلد الذي أحب، ولكنني بتّ أجد فيه مقبرة طموحاتهما وأحلامهما. شاركت في التظاهرات وسأواصل ذلك، ولكنني لن أرسل ابنتيّ إلى الشارع في وجه هؤلاء الوحوش، لذلك لا أملك الحق بإطلاق أي حكم أخلاقي على أي لبناني لم يعد يرى جدوى من رفع الصوت، ولكن عندما تحمل الحماسة- أو الحاجة- شخصاً مثل بسام إلى اقتحام مصرف، سوف أكون حُكماً إلى جانبه، في وجه هذا المصرف أو أي مصرف يتمتّع أصحابه ومن خلفهم بأموالهم وقصورهم وأعراس أبنائهم وطائراتهم الخاصة وميليشياتهم وحروبهم ومؤامراتهم وأجنداتهم وعنفهم وجشعهم الذي لا ينتهي.

ليس هذا حباً بالعنف بل إحقاقاً لبعض من العدالة.

إقرأوا أيضاً:

يمنى فواز- صحافية لبنانية | 18.01.2025

ماكرون يحاول تعويض خساراته الفرنسية في شوارع بيروت !

يسير إيمانويل ماكرون في شوارع بيروت يتلفت يميناً ويساراً، يأمل أن تلتقط الكاميرات مجدداً امرأة تهرع إليه كمنقذ وكأنه رئيس لبنان، أو طفل فرح يركض إليه من أي اتجاه، لكنه وجد نفسه محاطاً بجمع من الصحافيين، ومتفرجين من المارّة، في الشارع ذاته الذي استقبله بحفاوة وكأنه رئيس البلاد في 6 آب 2020.
12.08.2022
زمن القراءة: 6 minutes

أعود إلى نفسي في محاولة لفهم رد فعلي الداعم لبسام، فأصل بعد التحليل والتدقيق إلى أنه نتيجة لأمرين، أولهما تراكمي وله علاقة بما آلت إليه الأمور في لبنان خلال السنوات الثلاث الماضية، وثانيهما ظرفي وله علاقة بكتاب أنهيت قراءته خلال الساعات الـ24 السابقة لكتابة هذه السطور.

أخيراً، حدث ما يدل على أننا لا نزال على قيد الحياة! كان هذا رد فعلي الأول، حين سمعت أخباراً عن اقتحام بسام الشيخ حسين أحد فروع “فيدرال بنك” في بيروت. لم يكن قد مر على وصولي الى ريغا ساعات قليلة ورد فعلي فاجأني حقاً، فهل بت من المشجعين على استخدام القوة لاسترجاع الحقوق؟ الجواب أكثر تعقيداً من أن يختصر بِنَعم أو لا، فأي منهما لن يكون دقيقاً، ولكن لم يكن بإمكاني إلا أن أدخل في مراجعة مع نفسي: لماذا هذه الحماسة وهذا الترحيب الضمني الكامل بمغامرة فردية أعرف جيداً أنها قد تفتح الباب واسعاً على عنف نعرف كيف يبدأ ولا نعلم كيف ينتهي؟
لم أؤمن يوماً بالعنف حلاً لأي نزاع، وتجربة السنوات الماضية، سواء في لبنان أو في أي من بلدان شرقنا الرهيب، علمتنا أنه في مواجهة المافيات الحاكمة، لا قدرة لنا على المنافسة بالعنف، أولاً لأننا لا نملك وسائله وثانياً والأهم لأننا وببساطة لا نريد أن نصبح مجرمين، وهو ما قد تتطلبه معركة مفتوحة مع فاسدين وقتلة متمرسين لم ولن يتوقفوا عند أي شيء للحفاظ على السلطة.
أعود إلى نفسي في محاولة لفهم رد فعلي الداعم لبسام، فأصل بعد التحليل والتدقيق إلى أنه نتيجة لأمرين، أولهما تراكمي وله علاقة بما آلت إليه الأمور في لبنان خلال السنوات الثلاث الماضية، وثانيهما ظرفي وله علاقة بكتاب أنهيت قراءته خلال الساعات الـ24 السابقة لكتابة هذه السطور.


في الشق التراكمي، أي شخص- بكامل قواه العقلية، يملك حداً أدنى من الأخلاق، ومع استثناء المستفيدين من الوضع الحالي- لا يمكن أن يستغرب ما حصل. الحقيقة أن العكس هو الصحيح. المستغرب أن محاولات من هذا النوع لا تحصل عشرات المرات يومياً على الأقل، ليس فقط داخل المصارف ولكن أيضاً أمام بيوت وقصور ومقرات المسؤولين عن إفقار اللبنانيين وإيصالهم الى ما وصلوا إليه، فمصالح كل هذه الأطراف مشتركة وما حصل في لبنان أكثر من استثنائي. الانهيارات المالية تحصل، الأزمات السياسية تحصل، كما “الحوادث” الكارثية، حتى الجرائم والاغتيالات تحصل، ولكن أن تتراكم هذه الأمور كلها في فترة زمنية لا تتجاوز السنتين، في بلد لا تتجاوز مساحته الجغرافية مساحة مدينة نيويورك، فهذا ما لم يحصل في تاريخ العالم الحديث إلا في لبنان.
أن يصبح صندوق النقد الدولي معياراً لما يمكن أو لا يمكن قبوله من تسويات لتفادي المزيد من الظلم في حق الطبقات المسحوقة وأن يعترف البنك الدولي بأن شعباً قد تعرض للسرقة من قبل منظومة سياسية، أن ينهار كل شيء إلا المنظومة الحاكمة فهذا قطعاً ما لم يحصل، لا هنا ولا في أو مكان أو زمان آخرين. حتى القوانين ترعى ما قام به بسام!

الاقتصاد أهم من أن يترك للاقتصاديين

أعود إلى نفسي. كتاب يانيس فاروفاكيس “حوار مع ابنتي حول الاقتصاد: تاريخ موجز للرأسمالية” لا يزال في حقيبة يدي.
يقول وزير المال اليوناني السابق في مقدمة كتابه إنه كتبه خلال مدة زمنية لم تتجاوز التسعة أيام خلال زيارته عائلته في جزيرة ايجينا اليونانية، وانا انتهيت من قراءته خلال أقل من تسع ساعات، هي مسافة الرحلة بين بيروت وريغا.
الكتاب وعلى رغم سهولته يقدم تلخيصاً وافياً لتاريخ الاقتصاد الحديث، بدءاً من الثورة الزراعية وصولاً إلى مرحلة ما بعد الإنسانية، وهي بحسبه معرفة ضرورية لمواطنة فعالة في أي ديمقراطية تسعى لأن تكون عادلة.
أستاذ الاقتصاد، الذي فاوض “الترويكا” الأوروبية خلال الأزمة الاقتصادية التي مرت فيها بلاده عام 2015 والذي يترأس حاليا سادس أكبر كتلة في البرلمان اليوناني، يعتبر على مدى صفحات كتابه أن الاقتصاد ليس علماً مثل الفيزياء، وأن لا “حقيقة” فيه بل محاولات مستمرة منذ بداية التاريخ الحديث يقوم بها الأغنى والأقوى للحفاظ على مصالحهم المادية.
اللجوء إلى التعابير التقنية المعقدة بحسبه ما هو إلا محاولات لإيهام المتضررين بأنهم غير قادرين على فهمها، لذلك يجب تركها للاختصاصيين. إلا أن “الاقتصاد أهم من أن يترك للاقتصاديين” بحسبه، إذ يعتبر أنه أقرب إلى الفلسفة التي يجب أن تناقش أي حياة نريد ان نعيش.
يفسر مفاهيم مثل علاقة الدَّين بالربح باستحضار أمثلة تاريخية مستعيناً بلغة يحاور فيها ابنته زينا البالغة من العمر في حينه 14 سنة. يعود فاروفاكيس- وهو ابن مهاجر مصري ولد في القاهرة- بزينا وبقرائه إلى حضارة ما بين النهرين في العراق وسوريا، والكتابات الأولى التي تركها الإنسان والتي كانت وللمفارقة لتسجيل الديون، فمع بدء زراعة الحبوب، ولدت الحاجة لتسجيل الحقوق وكانت بداية كل شيء. بعدها كانت التجارة والملكيات الخاصة، والربح وتراكم الثروات، ثم الحاجة إلى “احتكار العنف”، فكانت “الشرطة” والحاجة لإقناع الأغلبية بأن للأغنياء الحق المطلق بامتلاك الثروات، فكان الدين، ثم الحاجة إلى مؤسسات تعمل على تضخيم الثروات فكانت المصارف… يفسر مصطلحات تقنية مستعيناً بأمثلة من المحطات الأكثر تأثيراً في تاريخنا الحديث، فيفسر معنى الركود والتضخم والتضخم المفرط عبر العودة إلى الحرب العالمية الثانية وتجارة السجائر التي نشطت في مراكز الاعتقال النازية لغير اليهود.
يعتمد فاروفاكيس أسلوباً نقدياً للنظام العالمي الحالي بكل مكوناته على مدى صفحات كتابه، الأكثر شدة بينها في وجه النظام المصرفي الذي يقر بأنه مجرد وسيلة “للمضاعفة” في عالم تحكمه قوة المال.
يتحدث عن “سحر المصارف الأسود” الذي يضاعف الربح الهائل في الأوقات الجيدة ويضاعف الخسائر خلال فترات الانهيار ودائماً لمصلحة الأقوياء. التاريخ الحديث يعج بالأمثلة عن ثروات هائلة تراكم خلال فترات الازدهار، ثم يأتي الانهيار، فتدخل الدولة وتنقذ المصارف، على حساب بقية المجتمع، الذي يغرق بمزيد من الظلم والفروقات الاجتماعية في حلقة مفرغة من العنف المؤدي إلى مزيد من الفروقات بين الأغنياء والفقراء.
لم يذكر فاروفاكيس لبنان في كتابه الذي نشر قبل الأزمة اللبنانية، لكنه تنبأ بما قد يحصل في تجارب مماثلة.
“عالم يتم فيه إنقاذ المصارف، فيما تضرر جميع الاطراف الثانية بما في ذلك الدولة، هو أسوأ عالم ممكن أن يكون. هو عالم عقيم، لا يمكن أن ينتج عن اقتصاده إلا عدم الاستقرار، والفشل وعناقيد الغضب”.
في حالتنا اللبنانية، حتى الدولة التي كان يمكن أن تتدخل لإنقاذ المصارف، نهبت وبمباركة المصرف المركزي وبتسهيلاته.

إقرأوا أيضاً:

عناقيد الغضب اللبناني

أعود إلى نفسي، وإلى بسام وإلى الغضب الذي يجمعنا. أعود إلى حماستي التي كنت وعدت نفسي أن أكون أكثر حكمة في تبنيها. حماستي المفرطة هذه قادتني في نهاية المطاف و في كل مرة الى شعور هائل بالعجز والذنب. حتى العودة إلى الشارع لإعلاء الصوت فقدت جدواها، لماذا؟
لأننا في كل مرة نزلنا ورفعنا الصوت، كان الرد علينا بالمزيد من العنف والظلم، من يتحمل تبعاتها هم الأكثر جرأة، والأكثر حماسة والأكثر مبدئية، ولكن أيضاً من هم الأكثر فقراً وضعفاً، يدفعون هم عيوناً تفقأ وحريات تسلب لنغرق نحن في دوامة من الشعور بالمسؤولية والإحباط، فيما نشاهد المجتمع الدولي ما زال مصراً على التفاوض على مستقبلنا حصرياً مع قتلتنا وسارقينا.
كل هذا التراكم من الغضب والعجز كيف يمكن تصريفه؟ ما الذي بقي لنخسره أو نخاف عليه؟ حتى شعورنا بأن المافيا الحاكمة هي الوحيدة القادرة على تأمين السلم الأهلي وبالتالي سلامتنا وسلامة أبنائنا لم تعد موجودة، حتى هذه الخرافة سقطت، سلبت منا في نهاية يوم صيفي مشمس في الرابع من آب. كان ذلك منذ سنتين وحتى اليوم لا يزال المجرمون في مناصبهم.
أنا أم لبنتين في عمر المراهقة تقتربان يوماً بعد يوم من هجرة تأخذهما، بعيداً من البلد الذي أحب، ولكنني بتّ أجد فيه مقبرة طموحاتهما وأحلامهما. شاركت في التظاهرات وسأواصل ذلك، ولكنني لن أرسل ابنتيّ إلى الشارع في وجه هؤلاء الوحوش، لذلك لا أملك الحق بإطلاق أي حكم أخلاقي على أي لبناني لم يعد يرى جدوى من رفع الصوت، ولكن عندما تحمل الحماسة- أو الحاجة- شخصاً مثل بسام إلى اقتحام مصرف، سوف أكون حُكماً إلى جانبه، في وجه هذا المصرف أو أي مصرف يتمتّع أصحابه ومن خلفهم بأموالهم وقصورهم وأعراس أبنائهم وطائراتهم الخاصة وميليشياتهم وحروبهم ومؤامراتهم وأجنداتهم وعنفهم وجشعهم الذي لا ينتهي.

ليس هذا حباً بالعنف بل إحقاقاً لبعض من العدالة.

إقرأوا أيضاً:

12.08.2022
زمن القراءة: 6 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية