بينما كانت مليحة بدر ريدان تمضي يومها بشكل طبيعي، تلقّت اتصالاً من مديرة فرع “بنك عودة” لتبلغها أنّ حسابها أغلق بشكل نهائي وتحوّل الى شيك مصرفي ينتظرها لدى الكاتب العدل.
صُعقت مليحة بحقيقة أنّ الأموال التي أودعتها لتأمين مستقبل ولديها التعليمي ذهبت هباءً. فزوج مليحة توفي في شباط/ فبراير 2019 وتكفّلت الشركة التركيّة التي كان مديرها بإعطاء عائلته مبلغاً مالياً لمتابعة تعليم الولدين حتى تخرّجهما. إلّا أنّ مليحة قرّرت العودة إلى لبنان بعد وفاة زوجها ونقل ولديها الطفلين (في الصفين التاسع والسابع) إلى مدرسة لبنانيّة خاصّة، وإيداع هذه الأموال في بنك عودة.
أفادت مليحة لـ”درج”، بأن مديرة الفرع وضعتها أمام خيارين لا ثالث لهما: الأول يقضي باستلام الشيك المصرفي من الكاتب العدل، أو التوقيع على ورقة لإعادة فتح حسابها. لكن مليحة رفضت الخيارين، إذ إن الأوّل يعني أن أموالها تبخرّت لأن الشيك المصرفي لا يصرف ولا قيمة فعلية له. علماً أن الخيار الثاني من شأنه أن “يشلّها” لا يسمح لها بأن تقاضي المصرف أو تتخذ أي خطوة ضده في المستقبل، وحينها نصحها محاميها بألا توقّع كي تضمن حقوقها مشيراً الى أنّ ما فعله المصرف غير قانوني.
بنك عودة باشر عملية اقتصاصه من المودعين من حملة جوازات السفر البريطانية بعدما نجح أحدهم، وهو فاروج مانوكيان، لبناني- بريطاني، في كسب الدعوى التي رفعها ضد مصرفي عودة و”سوسييتيه جنرال” في إحدى محاكم بريطانيا لاسترجاع أمواله وبعدما حكمت المحكمة لمصلحته.
خطوة بنك عودة أثارت ذهولاً لما تعنيه من هضم حقوق المودعين، بعد السطو الممنهج على أموالهم، علماً أن “عودة” يعتبر في مقدمة المصارف التي تورطت بـ”الهندسات المالية” التي أدت إلى الانهيار، كما يرتبط بشراكات غير شرعية مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وهذه الشراكات ثبتت جرميتها، ناهيك بتحقيق “عودة” أرباحاً هائلة عبر الفوائد الباهظة التي جناها من الهندسات. وهذا ما ثبت في تحقيقات صحافية دولية موثقة.
كارين، التي غادرت لبنان إبّان الأزمة الاقتصادية وبعدما احتجزت المصارف أموال المودعين. فقررت برفقة زوجها الجرّاح في الجامعة الأميركية سابقاً، أن يهاجرا إلى الإمارات بهدف إعادة بناء ما هدمته لهم الأزمة اللبنانية، تلقت اتصالاً من بنك عودة في بيروت أبلغا عبره بإقفال حسابهما.
كارين وزوجها هاجرا وفي جعبتهما 10 آلاف دولار أميركي فقط، وأبلغا مدرسة أولادهما الجديدة في أبو ظبي، بعجزهما عن سداد الأقساط إلاّ بعد تقاضي الراتب الأول. إلّا أنّه في الفترة الأخيرة، وبعد تمكّنهما من ادّخار الأموال، تلقّى زوج كارين اتصالاً من موظّف في بنك عودة ليقول له الجملة ذاتها التي قيلت لمليحة. وبعد أخذ ورد، تواصلت معه مديرة الفرع قائلة: “لوم دولتك (بريطانيا) اللي عملت فيك هيك”، أي التي حكمت لمصلحة المودع وأجبرت المصرف على سداد المبلغ نقداً بالـ”فريش” دولار.
خوف المصارف
تقوم المصارف بعملية “اقتصاص” من أموال المودعين اللبنانيين- البريطانيين حسب تفسير عضو “رابطة المودعين” هادي جعفر، الذي رأى أنّ هذه الخطوة تعبّر عن خوف المصارف من أي خطوة قد يتقدّم بها المودعون قانونياً ضد المصارف.
والدليل على ذلك، أن مديرة الفرع قالت لمليحة إنّ هذا الخطوة استباقية كي لا تقوم هي، وكل لبناني/ بريطاني باتخاذ هذه الخطوة. فقانونياً بعد إغلاق الحساب، لا يستطيع أيّ من المودعين رفع دعوى في بريطانيا.
ردّت مليحة على مديرة المصرف بأنّها لم يخطر ببالها اتخاذ هذه الخطوة مشدّدة على أنها كانت “قبلانة بالقرف وساكتة!”، لكنها أكّدت أنها ستلجأ إلى القضاء لاسترداد حسابها.
أما بعض التبريرات الأخرى التي ذكرها المصرف فهي أن التقدّم بدعوى قضائية فعل غير عادل لبقية المودعين الذين لن يتمكّنوا من الحصول على أموالهم لأنهم لا يملكون جنسية أخرى، وبالتّالي الحل الأمثل بالنسبة إليهم هو إغلاق هذه الحسابات وكأنها “عبرة لمن اعتبر”.
كاتب العدل
اتّجهت المصارف إلى الكاتب العدل كوسيط بينها وبين المودعين، فبعد اقفال الحساب بشكل نهائي، أرسلت الشيكات الى الكاتب العدل رائف سمارة، الذي أوضح لـ”درج”، أن في حوزته أكثر من 200 شيك مصرفي من مختلف المصارف ومنها “لبنان والمهجر”، و”عودة”، و”سوسييتيه جنرال”.
وأكّد سمارة أنه مجرّد وسيط بين الاثنين، مشيراً إلى أن هذه العملية لم تحدث سابقاً أبداً، أن يكون البنك مديوناً لمودع ويأتي إلى مكتبه ليدفع ما عليه.
وعمّا اذا استلم المودعون الشيكات، أكّد سمارة أن البعض يقدم على ذلك لتفادي المشكلات والتصادم مع المصارف، أمّا البعض الآخر فيصرّ على المسار القانوني. وقال سمارة إنّ الأمر لم يقتصر على كبار المودعين إنّما على صغار المودعين أيضاً.
إقرأوا أيضاً:
خرق القوانين
في حين تعتبر إدارات المصارف أن هذه الخطوة احترازية، أما واقعياً فهي تنتهك القانون، فبحسب جعفر، لا يحقّ لأيّ مصرف إغلاق حساب المودع من دون سبب وجيه أو حجّة مبينة. وفي هذه الحالة، تغيب الحجّة القانونية، خصوصاً أن المصارف تستدعيهم للتوقيع على ورقة تحمي مصلحة المصرف وتكبّل المودع.
خرق آخر يوضحه جعفر يتمثّل برفع السريّة المصرفية عن المودعين المستهدفين من دون العودة الى القضاء. قرّرت المصارف جعل الكاتب العدل وسيطاً، ووضعت المبلغ لكلّ مودع بوساطة الشيك لديه، أي أن سمارة يعلم اليوم بقيمة أموال كلّ مودع. وهذه مخالفة صريحة للقانون.
واعتبر جعفر أن إعطاء المودعين أموالهم عبر شيك مصرفي لا يبرئ ذمة المصرف، كون الشيك بلا قيمة، ولا يمكن صرفه أو إيداعه في مصرف آخر. لذا، تعمل الرابطة مع المودعين على توكيل محامي اللجنة من أجل التقدّم بدعوى قضائية تقضي بإعادة فتح حساباتهم كخطوة أولى ومبدئية.
خطوة عودة مثلت تصعيداً في المواجهة بين المصارف المدعومة من طبقة سياسية، وسابقة في وضوح خرق المصارف القانون، من دون أن يتحرك القضاء، أو السلطات الرقابية. وهذا ما يؤشر إلى أن المواجهة بين المودعين والمصارف ستنتقل من مستواها القانوني إلى مواجهة مباشرة، لعل طلائعها واقعة إجبار أحد المودعين مصرفاً في البقاع على دفع وديعته بالقوة، وترافق ذلك مع حكم قضائي بشرعية ما أقدم عليه، فأخلي سبيله واستعاد وديعته بـ”الفريش دولار”.
إقرأوا أيضاً: