تُعامَل مباني الحرب المتبقية في بيروت كأيقونات ومعالم تاريخية، بخاصة بعد انخفاض عددها تدريجياً منذ انتهاء الحرب. لذلك دائماً ما نسمع نداءات للمحافظة عليها وترميمها، بخاصة تلك التي تحمل إرثاً ثقافياً ومعمارياً. وهذا ما حصل فعلاً مع “بيت بيروت” (تصميم يوسف أفطيموس) الذي طحنته يوماً آلة الحرب الأهلية، لأنه كان على خطوط التماس، قبل أن يتم ترميمه ثم تحويله متحفاً تعرض فيه “بصمات” الحرب، كقطع أثرية نادرة. وغالباً سيحصل الأمر نفسه مع مبنى “البيضة” The Dome في وسط بيروت المعروف بتصميمه البيضاوي وسماته الوحشية Brutalist، والحداثية (لجوزيف كرم) الذي تنظم فيه معارض فنية من وقت إلى آخر، واستقبل سابقاً حفلات موسيقى إلكترونية صاخبة.

أحد علامات شهرة هذه المباني وارتفاع قيمتها، ظهورها دورياً في المقالات التي تكتب عن بيروت، وتحوّلها موضوعاً مفضّلاً للتصوير الفوتوغرافي والفن المعاصر على أنواعه منذ عقد التسعينات. هذه المباني، يعود معظمها إلى الستينات، وهو زمن الازدهار العقاري، وهي ذات طابع تجاري أو خدماتي بسبب تركزها في وسط بيروت.
بقيت هذه المباني على حالها منذ الحرب ولم تُرمّم، غالباً بسبب نزاع على ملكيتها أي كحال مبنى فندق الهوليداي إن و”البيضة”. يعتبر “الهوليداي إن” من أشهر مباني الحرب في بيروت، لأنه عاش زمنين، الأول كان فيه نابضاً بالحياة في فترة الستينات الذي توصف بزمن بيروت الجميل، والثاني خلال الحرب مع ارتباط اسمه بحرب الفنادق التي تنازعت أطراف عدة للسيطرة عليها. هناك “برج المر” أيضاً الذي لم يرمم بسبب مشكلات في أساساته، وهو الذي يفضله المصورون الفوتوغرافيون بشكل خاص، بسبب نوافذه المتطابقة والمشهدية المريبة التي يقدمها في محيط راقٍ نسبياً، إضافة إلى إمكان رؤيته من جميع الجهات بسبب ارتفاعه الشاهق. وكما المباني المذكورة سابقاً، كتب الكثير عن هذا المبنى، وظهر في أفلام وأعمال فنية بصفته “الشاهد” على أزمنة المدينة المتغيرة.
أصبحت هذه المباني جزءاً من هوية المدينة المأزومة والمسكونة بالحرب (استثمر هذه الهوية بشكل خاص فنانو التسعينات حين كانت آثار الحرب لا تزال واضحة بشكل كبير على مبان كثيرة في المدينة)، لكن لا يمكننا تجاهل سبب تقديرها الأساسي، أي تقدير الخراب عموماً، الذي يُرى كقيمة بديهية اليوم، لكن أصوله تعود فقط إلى القرن الثامن عشر في أوروبا، عندما بدأ يُنظر إلى الخِرب اليونانية والرومانية كآثار تجب المحافظة عليها وتقديرها.
يعتبر الخراب من المواضيع المفضلة للمصورين الفوتوغرافيين (فعلياً جميع المصورين اللبانيين تقريباً لديهم صور تقع ضمن هذه الخانة) وقد غزت صوره الإنترنت منذ تطور الهواتف النقالة. على سبيل المثال، هناك اليوم أكثر من 3 ملايين صورة، تحت وسم الأمكنة المهجورة #abandonedplaces على إنستاغرام، وهو وسم واحد من وسوم كثيرة، توضع تحتها هذه الصور، ما يعني فعلياً أن العدد الحقيقي يساوي أضعاف هذا الرقم. يطلق البعض على هذه الموجة اسم “بورنو الخراب”، وهو تعبير جديد ولد في الأساس لانتقادها، لكن لاحقاً صار معتمداً لوصف هذا النمط من الصور من دون حكم سلبي عليه. وأول من استعمله كان ناشطو المجتمع المدني في مدينة ديترويت الأميركية، كرد فعل على تشويه صورة مدينتهم، بسبب كمية المواد البصرية الهائلة الموجودة على الإنترنت عن المباني المهجورة التي تعرف بها المدينة.

عانت ديترويت منذ الخسمينات تراجعاً في تعداد السكان بعد الأزمات الاقتصادية التي لحقت بها (عام 1950 بلغ التعداد 1.85 مليون نسمة أما اليوم فيقارب 700 ألف)، ما أدى إلى تفريغ أحياء بأكملها وظهور عدد كبير من المباني والمنشآت الصناعية المهملة، التي لا تزال متروكة على حالها منذ أكثر من نصف قرن. جذبت هذه الظاهرة الفنانين والمصورين من العالم، وقد ظهرت منذ السبعينات صور مباني المدينة في المعارض التي تنظم حول مواضيع مرتبطة بالخراب والديستوبيا وأزمات الرأسمالية المعاصرة.
لكن منذ تطور التصوير وصلت شهرة ديترويت في وسائل التواصل إلى حد غير مسبوق، وقد ولدت سياحة جديدة في المدينة تعتبر غير قانونية وتسمى “سياحة الخراب”، تغذيها فئة من المصورين يطلقون على أنفسهم اسم “مكتشفي الأمكنة الحضرية” (Urbex). تستبعد هذه الصور عمداً الوجود الإنسانية والسياق الحضري والسياسي الموجودة فيه، حيث تظهر المدينة فيها وكأنها مهجورة كلياً من السكان ومسكونة بالأشباح، ما دفع بلدية المدينة إلى القيام بحملة ترميم واسعة في محاولة لتخفيف الأضرار.

لم يأت تعبير “بورنو الخراب” من فراغ. فكما تقدم الأفلام الإباحية صورة غير حقيقية عن الجسد والجنس، تقدم هذه الصور فكرة غير حقيقة عن الواقع العمراني، إذ تبدو المباني موجودة لذاتها من دون أي إشارة لأسباب انتهائها على هذه الحال. من سمات الصور، طابعها الكئيب والسوداوي كأنها شهدت للتو نهاية العالم، كما يذكّر بعضها بالصور المكرسة في السينما عن المباني المسكونة بالأشباح التي تثير عند متلقيها مزيجاً من مشاعر الخوف والإثارة.

طبعاً الظاهرة غير محصورة في ديترويت فقط، بل أطلقت شهرة مدن عدة حول العالم من الصين (المدن الحداثية الفاشلة) وأفريقيا (مدن المناجم)، إلى اليابان (الجزر المهجورة). كما أن بعض بلدان الاتحاد السوفياتي السابق غنية بالمنشآت الحكومية والمراكز الحزبية والمصانع المهملة التي تجذب مكتشفي الأمكنة الحضرية من حول العالم، بخاصة بسبب عمارتها البروتالية Brutalist ومشهديتها الآبوكاليبتية.
في ما يخص الحالة اللبنانية، يبدو تجاهل السياق الموجود في ديترويت أقل حدة في بيروت، فالصور هنا غالباً ما تترافق مع رسائل معينة وبعضها ينادي بالمحافظة على التراث.
إضافة إلى مباني الحرب، في لبنان مروحة كبيرة من المباني والقصور المهجورة، جزء منها سكني في الأصل يتمركز في أحياء بيروت القديمة (الاشرفية، زقاق البلاط وغيرها)، كانت ملكاً لعائلات ارستقراطية وبرجوازية، وهناك جزء آخر في بلدات الاصطياف التقليدية (بخاصة فنادق مثل فندق صوفر وفندق عاليه الكبير)، وغالباً هي ملك للعائلات البيروتية ذاتها. صور هذه المباني لا تركز على الشكل الخارجي فقط، بل تأخذ الأمكنة الداخلية حيزاً كبيراً. توصل الصور رسائل نوستالجية عما يسمى الزمن اللبناني الجميل، بخاصة أنها تتعرض اليوم لموجة هدم لم تتوقف منذ التسعينات. وقد لعبت صور هذه المباني في بعض الحالات دوراً إيجابياً في لفت الأنظار إليها لتفادي هدمها، وقد أسس بعض مكتشفي المناطق الحضرية في لبنان مجموعة للتعريف بها والحفاظ عليهاLebanese Urbex.

تختلف هذه الأمكنة عن الآثار التقليدية، على رغم وجود بعض القواسم المشتركة. أولاً المسافة الزمنية التي تربطنا بها قصيرة غالباً، ولا تزال أسباب انتهائها على هذه الحال حاضرة، لذلك يبدو تجاهلها غير مبرر، كما بالنسبة إلى. ثانياً هذه المباني في أكثر الأحيان غير غريبة عن المحيط الحضري والاجتماعي الموجودة فيه، بعكس الآثار التي تعود إلى حقبات مختلفة عن الحاضر من الناحيتين الاجتماعية والمعمارية.
أما علاقة المصوّرين بالمباني المهجورة، فهي بحت جمالية وتتكرر بعكس صور الآثار التي تأخذ طابعاً ذاتياً (يتصور قربها السياح في العادة). هنا أيضاً الحضور الإنساني أقل ظهوراً، إذ يحل مكانه طيف شبحي يمكن العثور فيه على بعض مقتنيات السكان السابقين من أثاث وأغراض مطبخية وغيرها، كما يعزز حضوره في المواد العضوية التي تكون متعفنة في العادة أو قد تصيبها الرطوبة، ما يختلف عن حالة الآثار العارية والجافة.