في التسعينات، ربما في أواسطها، نصب نديم كرم في وسط بيروت مجسمات معدنية كبيرة، مقارباً بها فكرة “الفن العام”، أو “الفن في المكان العام”. وتضمنت مجسمات كرم تلك إيحاءات طفولية من الجسم البشري، كأيدٍ مرفوعة في الهواء، وخصلة شعر متطايرة، وسيقان، وأشياء مثل حقيبةٍ أو شال أو قبعة. كما تضمنت عناصر نباتية، مثل جزرة، أو موزة، أو تفاحة. وأخرى حيوانية، كخرطوم فيل، وذيل، وجناح، وما إلى هنالك.
وقد قامت هذه المجسمات في تلك الفترة بناحية من جسر “الرينغ” البيروتي، الذي عاد أخيراً واشتهر خلال انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019. وهو الجسر المشرف من الشمال على ساحة الشهداء في وسط بيروت، ومن الجنوب والغرب على مناطق زقاق البلاط والخندق الغميق والباشورة وبرج أبي حيدر. ومن الشرق على طريق بشارة الخوري ومنطقة التباريز. فيعد “الرينغ” بموقعه ذاك، ونظراً إلى وظيفته كجسر، معبراً أساسياً بين غرب بيروت وشرقها، وشريان مواصلات محورياً في قلب المدينة، يمرّ فيه بسيارتهم يومياً مئات الآلاف من سكان بيروت والعاملين فيها، الذين يقصدونها في الصباح ويغادرونها أول المساء. بالتالي، فإن مجسمات نديم كرم تلك آنذاك كانت عرضة لأنظار مئات آلاف الناس في كل يوم، وطوال سنوات. ويمكن القول في هذا الإطار، إنها، كحال كل “فنّ عام”، استُهلكت بصرياً واجتماعياً وثقافياً من قبل أناس كثيرين، متعددين ومختلفين.
لكن ثمة هنا مفارقة جلية سرعان ما ارتبطت بمجسمات كرم ما إن طرحت كفنٍّ عام ونصبت في ذاك المكان البيروتي الحساس والحيوي. إذ فيما يقوم الفن العام هذا عادةً، المعروض أمام الناس في المكان المفتوح، بخلق ردود فعل صريحة تجاهه عند متلقينه، فيُكرَه، أو يُؤلِم، أو يُضحِك، أو يُخيف، أو يُسلّي، أو يُفرِح، أو يُعشَق، أو يُذكّر بشيء، أو يُشير إلى أمر، بقيت مجسمات نديم عاجزة عن خلق أيّ رد فعل تجاهها من هذا القبيل. فهي لم توحِ بشيء، ولم تحفّز على أي موقف، لا في السلب ولا في الإيجاب. ذلك مع العلم أنها ظهرت في فترة بيروتية مشحونة بالسجالات والمواقف، وقامت تحديداً في وسط المدينة، المنطقة التي كانت ولا تزال محوراً وموضوعاً ساخناً لسجالات مستفيضة، حادّة، ونقدية حول المكان العام وما يقوم فيه ويُخطط له بجموح مطلق نحو التخصيص (أو الخصخصة كما يدرج القول). ويفترض في هذا السياق أن يقوم أي تفصيل أو عنصر يُقحم في مكان سجالي كهذا، أن يدخل في أتون المواقف والنقاشات، وينسحب فيها ويصاب بشيء منها، أو أن يتلقى رضّة أو رشقة أو شرارة في خضم السجالات القائمة حول المكان. مجسمات نديم كرم في ذاك الإطار لم تفعل أي شيء من هذا، ولم تدخل في أي سياق سجالي. بل وقفت هناك وسط تلك المعركة… وتلاشت. انتصبت تلك المجسمات التسعينيّة في قلب السجال، باردةً خامدة. صمتت وتوارت عند ناصية “الرينغ”، ولم تحرك ساكناً. أكثر ما يمكن أن يتذكره المرء عنها في ذلك الوقت هو غياب الرأي فيها. كان يمكن سؤال أي شخص عنها، وكان يمكن لذاك الشخص أن يتعرّف إليها لو وصف له المكان الذي تقوم فيه. بيد أن ذلك كان ليحصل من دون أن يبدي الشخص الذي سئل عنها، أيّ موقف منها. وفي الحقيقة، قد يعد ذلك، وفق وجهة نظر معينة وفي فترة محددة، فضيلة من فضائل تلك الأشياء، القادرة على أن تبقى صامتة، وحيادية، وصفرية (من صفر)، وهوائية، ولا مبالية، وسط الاحتدام القائم حولها. لكن ذلك أيضاً بالتحديد هو ما يمثّل “الفن العام”، الذي يبحث عنه المموّلون محض التجاريين، وأعضاء مجالس الإدارات، ومديرو الشركات العقارية، والمقاولون، وتجار البناء، ومضاربو الأسهم… ويُحسب طبعاً ضمن هؤلاء، في لبنان الراهن والسابق نسبياً، السياسيون، من رؤساء و”زعماء”. ومن هنا، من دون شكّ، نفهم شغف الأخيرين جميعهم (المقاولين التجاريين…) بالفنان الأجنبي، الفنان السائح، العابر، “بائع القطعة”. أو بالفنان “المحلّي- الأجنبي”، أو بالأحرى “المُستجنِب”. أي الفنان المنسحب من الواقع والمنفصل عنه، أي الحيادي وسط المعمعة. أي الخاوي والبليد والضحل.
نديم كرم، بحسب ما يقدم نفسه، تنطبق عليه وعلى أعماله هذه المواصفات جميعها. إذ إنه خبير طبعاً منذ التسعينات في مخاطبة ودّ المموّل التجاري الصرف، ورئيس مجلس الإدارة، ورئيس أي شيء آخر، إضافة إلى “الوجوه السياسية المهمّة” و”الأجهزة الأمنية”، وفق ما يتفوّه. وأشياؤه يستسيغها الأخيرون ويؤثرونها، فهم قادرون على نصبها أينما شاؤوا، وتحريكها ونقلها متى أرادوا، بحسب الطلب ووفق أهوائهم التجارية- السياسية. فتوضع تارة عند طرف جسر صاخب، وتارة أخرى عند ناصية طريق، أو في خلاءٍ يُعدّ لورشة بناء قبالة البحر، أو على عقار معروض للبيع، كما هو حاصل اليوم بالنسبة إلى مجسمّات التسعينات، التي تقبع في ناحية طرفية من نواحي واجهة بيروت البحرية “السوليديرية”. وتلك الحال بالنسبة إلى المجسمات الأخيرة تبقيها، كما كانت في الأصل، صامتة، وهوائية، وحيادية، وخاوية، فتقوم (المجسمات) هناك من دون أن تكون عدائية أو سمجة. “فن عام” بليد ومُخصص لصاحب الشركة وبائع العقارات والزبائن، وبعض ظلال وإيحاءات طفيفة للمتجولين قربها وحولها.
انتصبت تلك المجسمات التسعينيّة في قلب السجال، باردةً خامدة. صمتت وتوارت عند ناصية “الرينغ”، ولم تحرك ساكناً.
بيد أن نديم قرّر على ما يبدو اليوم أن يضرب من جديد، لكن ليس بالهواء أو بالماء هذه المرة. فـ”مارده”، الذكريّ الطويل والمعدني الصلب، المزمع نصبه في “الأرض صفر” تذكاراً لمجزرة مرفأ بيروت، كأنه يستجمع كل الصمت والحيادية والخوائية والبلادة التي وسمت مجسماته التسعينية، ويقوم بإعادة صوغها وفق مقاربة مستجدّة مرتبطة بالراهن. وها أن الرجل، بموازاة وصله وكيميائه الفنيّة الناجحة مع المموّل و”الرئيس” و”الأمني”، قام في سياق مقاربته الجديدة، بمداعبة كل سمات الصمت والحيادية والخوائية السابقة في مجسماته، وقد حكّها، وخضّها، واستثارها. فتحركت، وتصلبت، وتورّمت. ونهضت بين يديه “مارداً” منتصباً راق لذائقة مموّله وأحلام تهويماته. غير أن مشكلة نديم هذه المرة تتمثّل بأنه واقع في التباس “صغير”، يخلط فيه بين “أرض صفر” لمشروع تطوير عقاري أُسبغ بشعارات “إعادة إعمار” كان اللبنانيون متلهفون لسماعها بعد توقف الحرب في بلدهم في مطلع التسعينات، على رغم فيض الإشكاليات فيها، وبين “أرض صفر” لمجزرة حصلت قبل عام، وما زلنا نلملم أشلاء ضحاياها فينا، ونحاول وقف نزيف صدمتها في أنفسنا وأجسادنا. التباس بسيط جداً، بحجم “مارد” كرم المنتصب. وذاك من دون شك تنتج عنه نقلة نوعية في مسيرة نديم كرم كمُنشئ مجسمات في أمكنة عامة. إذ إن مجسم “المارد” يقترح، وللمرة الأولى في مسيرة هذا الفنان المذكور، نصباً للمقت، والازدراء، والاحتقار، والضغينة. وهو سيكون واحداً من تلك النصب المدينية الصماء، التي تبقى عرضة في أي لحظة لهجوم مواطنين، يهشمونها، ويسقطونها، ويمحون عار بلاهتها وجسامة وقاحتها.
إقرأوا أيضاً: