بيروت مدينة اللحظات التي لا تنتهي… بيروت مدينة عالقة في مشاهد، والمشاهد لا تسير إلى الأمام… ذلك أن السير إلى الأمام يتطلب الاعتراف بالجرح ومحاسبة المتسببين به، بدل طمر الندوب وتنظيف المكان وإعادته جميلاً.
ما زالت بيروت تعيش في لحظة الـ1975 وبوسطة عين الرمانة، في لحظة السوليدير ونجومية رفيق الحريري في التسعينات، مشهد موت حافظ الأسد وتعطيل البلاد حداداً، مشهد بشار الأسد يزور بيروت عام 2002 وإميل لحود (الرئيس اللبناني حينها) يستقبله مبتسماً… مشهد الـ2005 والدم البريء الذي ملأ بيروت حزناً، مشهد عودة ميشال عون، خروج سمير جعجع من السجن، الحلف الرباعي، اتفاقية مار مخايل، حرب تموز، 7 أيار 2008، تظاهرات “طلعت ريحتكم” عام 2015، 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، الليرة إذ لم تعد بخير، انفجار 4 آب/ أغسطس 2020…
توقفت الكاميرا هنا أمام مرفأ بيروت منذ سنتين، ولم يتوقف الانفجار في رؤوسنا، وبذلك لا يمكن التفكير في بيروت خارج 4 آب بعد اليوم، لا سيما أن العدالة ما زالت غير متحققة وتخضع للتسويف والمماطلة، كما أن إعمار المدينة بشكله الحالي قام على فكرة خلق مدينة جديدة مشتتة وضائعة ومن دون ذاكرة. وهو ما تناوله الفيلم القصير “بيروت مش بس بيوت” التي أنتجه “درج” لمناسبة الذكرى الثانية على انفجار مرفأ بيروت.
نهج محو الذاكرة قديم في بيروت، ويكاد يكون جرحها الدائم والمفتوح، وقد امتد إلى عمليات الترميم وإعادة الإعمار التي شهدتها أجزاء من المدينة بعد 4 آب 2020. فقد أتت هذه العمليات عشوائية وغير منظمة، وتولتها منظمات وجمعيات مدنية، في غياب فاضح للدولة، ولتخطيط مدني شامل يحفظ شكل المدينة وهويتها. ففي شارع واحد تمكن رؤية مبنى مرمم على طريقة المدن المتوسطية لناحية الألوان والأشكال الهندسية، مقابل مبنى آخر ما زال على حاله منذ وقت الانفجار، من دون أي ترميم، حتى إن زجاجه المحطّم ما زال في مكانه ولم يكنسه أحد. ما يطرح سؤالاً حول من المسؤول ومن صاحب القرار في إعادة الإعمار؟ ومن يختار ما يعاد ترميمه وما يبقى على حاله؟ ومن المسؤول عن تهجير الناس من بيوتهم المدمرة؟
وتبدو شوارع أخرى كما في الكرنتينا مثلاً، غير متناسقة لناحية الألوان وطرائق البناء. وهو مشهد يعكس ما شهدته عمليات إعادة البناء من محسوبيات واستنسابية ونقص في التنسيق، إذ ركزت جهات عدة على جلب التمويل والإعمار السريع، متناسية أننا في صدد إعادة إعمار مدينة منكوبة شهدت واحدة من أعظم كوارث التاريخ الحديث. إخفاء الأثر، سياسة تم اعتمادها منذ القدم وكأنه جزء من المنطق اللبناني في الحكم، وقد استفاد منها المطورون العقاريون والمتعهدون والكثير من السياسيين، تماماً كما اقتلعت بيروت القديمة، وبيروت العثمانية، من أجل بناء سوليدير على حقوق الناس والفقراء، مع انتهاء المعارك الأهلية. وبذلك اختفى أثر الحرب وتلاشى جزء من بيروت- الذاكرة والهوية. فيما بقيت الأبنية المهجورة والرصاص الذي على جدرانها شاهداً وحيداً وحزيناً على دمار لم يُحاسب مرتكبوه.
انفجار مرفأ بيروت قضى على معالم كثيرة وأبنية أثرية تحمل جراح بيروت وذكرياتها، وقتل أكثر من 200 شخص، إلى الجرحى والذين أصيبوا بعاهات دائمة، إنما حتى الآن لم يرفع اسم ضحية واحدة على شارع، مثلاً، وكأن هؤلاء الذين رحلوا خلال لحظات، أصيبوا بسكتة قلبية جماعية، ولم تنفذ بهم جريمة مروّعة!
ويأتي ذلك مع بدء انهيار أهراءات القمح في مرفأ بيروت، نتيجة الحريق الذي بقي مندلعاً داخلها على مدى أسابيع، من دون تدخل من أحد. وبذلك سقط آخر الشهود على نكبة 4 آب.
مسار إنكار الحدث، هو في الواقع إنكار للجريمة، بما يعني أن لا ضرورة لأي محاسبة، فيغلق الملف وكأنه “قضاء وقدر”، وهو ما سعت إليه السلطة السياسية في السنتين الأخيرتين، عبر التضييق على القضاة ومحاولة حرف التحقيق وتسييسه ومذهبته.
تتبين من ذلك العلاقة القوية بين محاولة محو الذاكرة ومحاولات عرقلة العدالة والعمل على وقف التحقيق لعدم محاسبة أحد. وهذه جريمة أخرى… أيضاً لن يحاسب عليها أحد!
إقرأوا أيضاً: