“إنه تابوت الميت، الذي يتنفّس. يتنفّس موتاً. إلى متى يمكنه أن يتحمّل؟”. هذه الكلمات من مقالة في مجلة “أغونيوك” البيلاروسية في نيسان/ أبريل عام 1996 بعد 10 سنوات من انفجار شيررنوبل النووي الذي وقع في نيسان عام 1986. تم دفن المفاعل بخراسانات مصفحة من الاسمنت لمنع التسرب. ومع ذلك، بعد سنوات عادت التشققات لتظهر في “التابوت” الذي يغطي المفاعل، الذي يحوي نحو 200 طن من المواد النووية المشعة. لحسن الحظ أعيد تصفيح التابوت ليسجن الميت الذي يتنفس ويكتم أنفاسه القاتلة. حدث ذلك لأن شيرنوبل لم تكن كارثة محلية. بعد ايام من الانفجار “سجلت نسب إشعاعية عالية في بولونيا وألمانيا والنمسا ورومانيا. ثم في سويسرا وشمال إيطاليا، وبعدها في فرنسا وبلجيكا والنرويج وبريطانيا. وبعدها في إسرائيل والكويت وتركيا”، بحسب معهد ساخاروف الدولي العالي للبيئة الإشعاعية. لقد احتاج الأمر إلى اقل من أسبوع حتى أصبحت كارثة تشرنوبل مشكلة العالم كله، وكل ذلك بسبب تكتم السوفيات وتعتيمهم وغموضهم وأكاذيب إعلامهم الرسمي. وهذا ما دفع الدول كلها إلى تمويل تحصين وتصفيح الخراسانات التي تدفن المواد النووية المشعة.
في مرفأ بيروت، كان هناك تابوت لميت، يتنفس. يتنفس موتاً. ولم يتحمّل. لم يتحمّل الميت في التابوت، فانفجر ونفّس موته في بيروت كلها. كثر كانوا يعلمون بأن الميت الذي يتنفس موتاً يرقد هناك في العنبر 12 من المرفأ. بعضهم دفنه هناك في العنبر وكان يحاول أن يقوم بتلحيم فتحات صغيرة لمنع تنفّسه. لكن أحداً لم يخرج ليحذر الآلاف الذين يعيشون بجواره من أنه قد ينفجر في أي لحظة. حتى حينما بدأ ينفث أولى أنفاسه المشبّعة بالموت، بقي العالمون بخطره صامتين، احترق المكان لما يزيد على ساعة من دون ان يحذّر أحد، من المسؤولين عن دفن نيترات الأمونيا في الكتمان، من حجم الخطر المحدق بالعاصمة كلها. راح الإعلام القريب من السلطة يسوق لخبر احتراق مخزن للمفرقعات. وأن لا شيء يدعو إلى القلق. شيء أشبه بما قالته وسائل الإعلام الرسمية في الاتحاد السوفياتي بعد حادثة شيرنوبل: “الحادث مؤسف ولا شيء يدعو إلى القلق”.
حتى هذه التمثيلية لن تحدث في لبنان. لن تشهد محاكمة علنية للمسؤولين المباشرين عن المجزرة. ولن تضحي السلطة بأحد لوضعه في قفص الاتهام في محاكمة شكلية للقول إن الحساب دفع. غالباً سينتهي كل شيء، كما حدث مع كل الجرائم التي سبقت هذه الجريمة، بعد أيام. بعد دفن الموتى والتئام الجروح وترميم المباني وتركيب الزجاج المحطم، ستعود الحياة إلى “طبيعتها”.
تدمّر مرفأ بيروت عن بكرة أبيه، وتهشّمت المدينة كلها، وبقي الإعلام المقرب من المجرمين يقول إن الأمر ليس سوى انفجار مخزن للمفرقعات. ولا شيء يدعو إلى القلق. حاولوا ان ينكروا على الناس شهادتهم الحية بالدم والنار والدخان والزجاج المتشظي. مجرد مفرقعات. وسائل الإعلام هذه أنكرت على الضحايا موتهم وجروحهم. أنكروا على المدينة كلها كارثتها، ولجأوا إلى التضليل والكذب. ولم ينته الأمر عند هذا الحد. حتى بعد اعتراف السلطات الرسمية، على لسان مدير عام الأمن العام عباس ابراهيم خلال تفقده مكان الانفجار، بأن خبر الألعاب النارية والمفرقعات مزحة، وأن الحادث ناتج عن مواد شديدة الانفجار وبكميات كبيرة مخزنة منذ سنوات في المرفأ، حتى بعد هذا التصريح الرسمي، بقيت وسائل إعلام السلطة (موقع التيار مثلاً) يقول إن المواد المتفجرة مصادرة من باخرة كانت تنقل متفجرات إلى “داعش” في سوريا وتم ضبطها. أسلوب سوفياتي شيرنوبلي موغل في التكتم والتحريف والكذب. في شيرنوبل لم يعترف الكرملين بالحادث وخطورته إلا بعد أيام. لم يبدأ إجلاء المدن والقرى المجاورة لموقع الكارثة إلا بعد 36 ساعة. وبقي العدد الرسمي المسجل في وثائق الاتحاد السوفياتي للضحايا 31 ضحية فقط، فيما تشير أرقام الأمم المتحدة الرسمية إلى وفاة ما يزيد على 9000 شخص، وتشير أرقام أخرى إلى عشرات آلاف الضحايا.
لأن الكارثة بعد أقل من اسبوع أصبحت مشكلة العالم كله، تم تدارك أن يقتل مفاعل شيرنوبل المزيد بسبب عناد القيادة السوفياتية وإصرار الإعلام الروسي على لازمة “لا شيء يدعو إلى القلق”. كارثة بيروت لن تصبح أبداً مشكلة العالم كله. المواد السامة التي خرجت من الانفجار بقيت فوق بيروت لساعات وسقطت فوق البيوت والسيارات وعلى رؤوس الناس ليتنشقوها مع أنفاس الميت الذي يقذف موتاً من رئتيه. الانفجار الذي ذكر العالم بالقنبلتين الذريتين اللتين القيتا فوق ناكازاكي وهيروشيما، سوف يُنسى بعد أيام. ستبقى الأرقام في الوثائق الرسمية اللبنانية تشير إلى عدد رسمي سيتم الإتفاق عليه. وهو دقيق لجهة عدد الوفيات الذين دفنوا تحت التراب، لكن أعداد الوفيات للذين سيدفنون فوق التراب لسنوات طويلة لن يحصيهم أحد. ولن تعترف بهم السلطات اللبنانية التي وعدت بمحاسبة المتسببين بالكارثة، تماماً كما حاكم الاتحاد السوفياتي مدير المحطة النووية ومجموعة مهندسين وأصدر أحكاماً بسجنهم لعشر سنوات، في محاكمات في شيرنوبل نفسها خلت من المشاهدين، فما من بشر بقوا في المدينة بعد إقفالها بصفتها “منطقة رقابة اشعاعية صارمة”. ولماذا اختاروا شيرنبول؟ لأنه كلما كان عدد الشهود أقل، كان الضجيج أقل. وبالفعل لم تحضر أي صحافة عالمية أو مصورون صحافيون. لكن مع ذلك، قال ميخائيل غورباتشوف مرة إن الانهيار النووي لشيرنوبل ربما كان السبب الحقيقي لانهيار الاتحاد السوفياتي. حتى هذه التمثيلية لن تحدث في لبنان. لن تشهد محاكمة علنية للمسؤولين المباشرين عن المجزرة. ولن تضحي السلطة بأحد لوضعه في قفص الاتهام في محاكمة شكلية للقول إن الحساب دفع. غالباً سينتهي كل شيء، كما حدث مع كل الجرائم التي سبقت هذه الجريمة، بعد أيام. بعد دفن الموتى والتئام الجروح وترميم المباني وتركيب الزجاج المحطم، ستعود الحياة إلى “طبيعتها”. مدينة أقل، حياة أقل، وإجرام أكثر. وسيبقى القتلة في مراكزهم، يتفقدون مسارح جرائمهم وهم يلبسون البدلات الرسمية والعسكرية، وينظرون بلا خجل في عيوننا عبر عدسات الكاميرات.