بيروت ليست خارج الاستهداف الإسرائيلي. إنه مضمون الرسالة التي وجهتها إسرائيل من خلال استهداف مبنى في منطقة الكولا في قلب بيروت الإدارية. فمنزل قيادي محلي في “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” ليس هدفاً استراتيجياً، ووجوده في بيروت لن يحصّنه من الاستهداف. تقول الغارة ذلك، وتقول أيضاً إن الأوهام التي تساور لبنانيين بأن تفاهماً دولياً مع إسرائيل سيجنّب الحدود الإدارية للعاصمة احتمالات الاستهداف، ليست أكثر من تمنيّات علينا إسقاطها من حساباتنا. فـ”الجبهة الشعبية” تنتمي إلى زمن آخر في مشهد المواجهة مع إسرائيل، ومنطقة الكولا كفّت عن كونها “جمهورية الفاكهاني”، تلك التي أنشأتها “منظمة التحرير الفلسطينية” في ثمانينات القرن الفائت في تلك المنطقة.
إذاً، الغارة مجرد رسالة إلى سكان العاصمة تقول لهم إنهم في دائرة الاستهداف. ثم إن فعل الاستهداف بصيغته الإسرائيلية يعني لا حسابات مرتبطة بالمدنيين. الشخص المستهدف ستقتله الطائرة هو وكل من يحيط به. حصل ذلك بالأمس في بلدة عين الدلب في شرق مدينة صيدا، فقد قتلت إسرائيل مع “الهدف”، نحو أربعين مواطناً ومواطنة من جيرانه، بمن فيهم من نساء وأطفال سقط المبنى على رؤوسهم.
لكن بيروت، الإدارية، التي بدلت سكانها بين ليلة وضحاها، فغادرها المقتدرون من أهلها، ونزح إليها مئات الآلاف من المناطق المستهدفة في الجنوب وفي الضاحية الجنوبية، لا يمكنها استيعاب الرسالة، ذاك أنها المكان الأخير الذي يمكن اللجوء إليه. في محيط المبنى المستهدف، الآلاف ممن افترشوا الأرصفة، وأمضوا ليلتهم تحت جسر الكولا، لم تدفعهم الغارة الليلية على ذلك المبنى المطل عليهم إلى المغادرة. الأرجح أن منطقة الكولا هي مكان نزوحهم الثاني، ولا وجهة يمكن أن ينتقلوا إليها.
إنها الكولا، المنطقة التي تنتمي إلى زمن آخر، وهي اليوم خزان أهلي، ربما مثل المنطقة الأكثر اكتظاظاً في بيروت. الصاروخ الذي دمّر طابقين من المبنى المستهدف أضاف مزيداً من عناصر الدمار القديم، الذي ما زالت ملامحه مرتسمة على تلك المباني القديمة. الكولا التي شهدت ذروة الدمار في بيروت خلال اجتياح العام 1982، عادت طائرة إسرائيلية واستهدفتها بالأمس بعد غياب أربعة عقود.
بيروت تختنق بالنازحين المقيمين في سياراتهم المركونة على الشوارع، فيما العائلات ارتجلت أماكن جلوس في محيط سياراتها، يشعر أفرادها بأن منازلهم التي لا تبعد كثيراً، ستكون في متناولهم في أي لحظة “هدنة” قد تعلن!
والمرء إذ ينتقل في تجواله الصعب في العاصمة المكتظة، سيصفعه مشهد فراغ الشوارع ما إن يقترب من أحياء الضاحية. فمن شارع بدارو المكتظ إلى مستديرة الطيونة الخالية من أي حركة، عشرات قليلة من الأمتار. وبيروت المختنقة الشوارع تجاورها الضاحية شبه الخالية من السكان. وفي الحالين، تحمل الوجوه قدراً هائلاً من الحيرة والخوف والعوز.
الرسالة التي حملتها الغارة على الكولا لم تفضِ إلى مغادرة أحد المنطقة. حال من النكران الضروري لكي يصرف الناس حاجاتهم. ثم إن إشاحة النظر عن مضمون الرسالة هي الوسيلة الوحيدة للبقاء.
ربما كنا مخطئين في تفسير الغارة الغريبة على ذلك المبنى، الذي نعرفه كثيراً نحن أبناء ذلك الزمن. ففيه منزل النائب السابق المشهور نجاح واكيم، وفيه منزل أحد قادة الحزب الشيوعي، الراحل نديم عبد الصمد، وهو مقابل معمل الكولا الذي دمرته إسرائيل في العام 1982. أما السكان الحاليون، فيتدرجون من أبناء الطبقة المتوسطة الدنيا، صعوداً نحو منطقة الطريق الجديدة حيث يبلغ الفقر ذروته. أما حاله اليوم، بعد غارة الأمس، فقد أضيف على مشهده المكتظ أصلاً، آلاف من النازحين لم تتّسع المدارس لإيوائهم فافترشوا الشوارع.
أما الخروج من الكولا نحو مسجد الخاشقجي مروراً بالطريق الجديدة الشديدة الاكتظاظ، فسيفضي بك إلى مستديرة الطيونة حيث يبدأ زمن الضاحية الجنوبية لبيروت، المنطقة الأكثر استهدافاً والتي شهدت أقوى الغارات التي قتلت المئات، والتي رسمت فيها إسرائيل معادلة “العقاب الجماعي”، فالمدنيون لن يعيقوا شهية القتل التي أطلقها بنيامين نتانياهو، ووجوه الخارجين من الضاحية تحمل قسمات رعب ينتقل إليك أنت العابر مسرعاً في هذا الفراغ المخيف.
لكن ثمة ما يدفعك إلى استكشاف المزيد، فيقودك فضولك نحو طريق صيدا القديمة الذي استُهدف أول من أمس بأكثر من غارة، وهو يفصل منطقة الشياح عن منطقة عين الرمانة. المسافات أقصر مما تتخيل. المبنى الذي دمرته غارة أول من أمس، وقيل إن فيه استُهدف المسؤول في “حزب الله” نبيل قاووق، أقرب إليك مما كنت تعتقد.
ومن كنيسة مار مخايل إلى منطقة المشرفية يتحول الفراغ إلى فضاء مشحون برعب المسيّرات، ذاك أن الصمت الذي يصاحب خلو الشوارع من السكان، تملأه هنا أصوات المسيّرات التي تراقب الشوارع لكي تنقضّ على فرائسها. إنها الـ”زنانات” على ما يسمّيها أهل غزة. إذاً عليك المغادرة فوراً.