لم يبقَ شيء لنا في هذه القطعة البائسة من الأرض التي تحوّلت إلى مقبرة جماعية لجميع الأحلام التي بنتها الفئات الشبابية الطموحة طوال هذه السنين. فهل بات الحلم في هذا المكان جريمة؟ جريمة لا يعاقب عليها القانون وحسب، بل الضمير الحيّ الموجود في باطننا، هو من سيعاقبنا، لأنّنا لا نزرع سوى الأمل، وهو وحده يحصد الخيبات.
لم يكن الرابع من آب/ أغسطس يوماً عادياً في حياتنا الروتينية في لبنان، بل كان السبب الرئيسي للقلق الدائم الذي يقتات أرواحنا، للخوف المتشبث في أنفسنا، فكلما قررنا الهروب من هذه المشاعر الخانقة، تتمسّك بنا، وكأنها تقول “شاء القدر أن ألاحقكم طوال فترة حياتكم، ربما حتى النفس الأخير”.
كانت الساعة الخامسة والنصف، كنتُ وصديقتي في منطقة الحمراء في بيروت، كنّا قد التقينا لنحضر أوراقنا للسفر إلى فرنسا، بعدما رأينا أن الحياة أصبحت شبه مستحيلة في لبنان. صديقتي محامية ذكية جداً، كانت تشغل وظيفة مهمة في أحد المصارف في بيروت. لكنها رأت أن لا مكان للطموح في هذا البلد، خصوصاً بعد الأزمة التي ضربت القطاع المصرفي، وأن المستقبل الذي ينتظرها كارثيٌّ كئيب، فقررت أن تترك وظيفتها وتسافر، فتبدأ حياتها من الصفر في بلد وافق على احتضانها، بعد تخلّي وطنها عنها.
غادرت لبنان تاركةً أهلي وأخوتي وذكرياتي فيه، لكن ذكرى هذا اليوم أبت أن تتركني وشأني ورافقتني إلى بلاد المهجر.
أما أنا، الفتاة التي لم تفكّر بالسفر يوماً، أنهيت دراستي في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، وانتظرت كثيراً لأتقدّم بطلبي إلى إحدى الدورات التي تجريها الدولة اللبنانية للحصول على وظيفة. كنتُ قد كرّست دراستي لأشغل واحدة منها ككاتبة عدل أو قاضية أو موظفة في السلك الخارجي. لكن حتى هذه اللحظة ومنذ سنوات، لم تجر أي مباراة في هذا المجال، لأن هيكلية الدولة الهشة التي تحكمها مجموعة من المافيات، لم تعد قادرة على استيعاب موظفين جدد. هذه الدولة التي لا تؤمن حق العمل للمواطن، وهو من الحقوق الأساسية للإنسان.
بالعودة إلى ذلك اليوم الأليم، لقد شعرنا بهزة قوية أشبه بزلزال، تحطمت واجهات المقهى حيث كنّا. حصل ذلك قبل أن نسمع دوي الانفجار. بدأنا نركض ونتخبّط. في هذه اللحظة، شعرت بأن دقائق بقائي على قيد الحياة أصبحت معدودة. حاولت الخروج من المكان المحطّم، هرعتُ إلى الباب مسرعة حتى إنني نسيت صديقتي في الداخل. وما أن أصبحتُ قرب الباب، حتى أمسكني برجل من ذراعي ويدفعني من جديد نحو الداخل ويصرخ بوجهي بغضب “لوين رايحة شوفي البرندات كيف عم توقع على الناس”، فأتى ردّي سريعاً، “تركني فل ما بدي موت هون”.
كرّرت هذه العبارة عشرات المرات بوجهه وهو يمسك بي ويصرّ على إبقائي في المكان.
إقرأوا أيضاً:
بعد دقائق خرجنا ورأينا واجهات المحال والسيارات والشرفات محطمة، الناس تركض يميناً ويساراً، الدماء مضرجةٌ من الأجساد والدموع تسيل على وجوه البعض، كأننا في ساحة حربٍ لا نعرف من منا بقي على قيد الحياة ومن منا فارقها.
غادرت لبنان تاركةً أهلي وأخوتي وذكرياتي فيه، لكن ذكرى هذا اليوم أبت أن تتركني وشأني ورافقتني إلى بلاد المهجر.
هنا في هذه البلاد التي لا تشبهنا، وجدت أن حالتي مشابهة تماماً لحالة بعض اللبنانيين الذين عاشوا هذه الحادثة. ما زلنا نخاف من أي صوت غريب، قلوبنا تخفق بسرعة جنونية إذا أُغلق باب بقوة أو اهتز شيء حولنا.
محقٌّ من يقول إنّ الحياة بعد الرابع من آب لم تعد تشبه الحياة قبله.
صحيح أن لحظة الانفجار لم تكن سوى دقائق معدودة وسريعة. لكن أثرها لا يزال يظهر عبر كوابيس مرعبة، كالغرق والزلزال والتفجيرات.
أستيقظ في منتصف الليل، أجهش بالبكاء وحيدة من دون أي سبب، فأشعل سيجارةً عساها تساهم في تخفيف الألم. أما عن أفكار الموت التي تطاردني حتى في نومي، جرّبتُ كثيراً التخلّص منها ولكنها كانت أقوى مني.
لقد أصبحتُ شخصاً آخر. كائناً ضعيفاً يتألم بصمت ويعدّ اللحظات المتبقية من حياته. لم أعد أستمتع بالموسيقى. أصبح القلق يطغى عليّ، وأسخف القرارات التي أريد اتخاذها باتت صعبة ومعقّدة في أحيان كثيرة.
أمّا عن بيروت، هذه المدينة المثقلة بمآسينا والتي تواسينا، على رغم مصائبها والتي أبكتنا مرات وأفرحتنا مليون مرّة، بيروت باتت مدينة مظلمة وظالمة وحزينة…
إقرأوا أيضاً: